التحليل الاجتماعي

بقلم الأب أوليفر برج أوليفييه اليسوعي

ما هو التحليل الاجتماعي؟

يمكن أن نعرِّف التحليل على أنه: "الجهد المبذول لبلوغ رؤية شمولية واضحة لواقع اجتماعي معيّن، بكشف جذوره وعلاقاته التاريخية والبنوية. ويهدف هذا التحليل إلى فهم هذا الواقع الذي نتعامل معه". يفحص التحليل الاجتماعي موقفًا اجتماعيًا ما من مظاهره المختلفة أولاً: ما هي المشاكل: التضخم، البطالة، الإسكان إلخ. ثانيًا: ما هي السياسات المنتهجة لمجابهة هذه المشاكل: التحكم في سوق النقد، الإعداد المهني، بناء مساكن شعبية. ثالثًا: ما هي البنية نفسها للمؤسسات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية التي هي أحد أسباب نشأة هذه المشاكل والتي إليها يتوجه منهج الإصلاح. رابعًا: وأخيرًا نأتي إلى مستوى المنظومات. هذه المنظومات المختلفة التي يمكن أن نفحصها من أكثر من منظور (اقتصادي أو سياسي أو ثقافي). كما يمكن أن ننظر إليها على المستويات التي تعمل فيها (المجموعات الصغيرة أو الجماعة المحلية أو الدولة أو العالم). 

يجب علينا كذلك أن نميز بين البعد الموضوعي والذاتي لهذا الواقع الاجتماعي الذي نحلله، نقصد بالبعد الموضوعي المؤسسات والمنظمات ومظاهر السلوك الاجتماعي المختلفة، أما البعد الذاتي فيشمل الوعي والقيم والأيديولوجيات الخاصة بمن يقوم بالتحليل.

لهذا التحليل الاجتماعي حدود يجب أن نعيها عند استخدامنا له كأداة رعوية:

أولاً: فإنه لا يدّعي إعطاء إجابة فورية على سؤال: "ماذا علينا أن نفعل؟". فهذه الإجابة تقع بالأحرى على مستوى التخطيط أو الاستراتيجية. أما التحليل فيوضح لنا إطار خطط العمل الاجتماعي.

ثانيًا: ليس التحليل الاجتماعي نشاطًا مقصورًا على صالونات المثقفين أو المهتمين بالسياسة، بل كلنا – دون استثناء وكل يوم – نستخدمه دون أن نعي ذلك.

ثالثًا: ليس التحليل الاجتماعي معزولاً عن القيم التي تحركنا، إذ أنه ليس محايدًا. فالتحليل الاجتماعي لا يهدف إلى الوصول إلى مجرد "معالجة محايدة"، أو رؤية علمية موضوعية خالصة للواقع. فاختيارنا لنوعية المشاكل التي ندرسها، ولنوعية الأسئلة التي نبحث عن إجابتها، وبانفتاحنا على نتائج تحليلنا، فإننا نعلن عن نسيج قيمنا وميولنا.

عناصر التحليل

في أي تحليل لموقف اجتماعي، نفحص عددًا من عناصر مجتمعنا:

- الأبعاد التاريخية للموقف الذي نحلله.

- عناصره البنائية.

- الأبعاد الاجتماعية المختلفة أو المتناقضة.

- على أي المستويات تقع المشكلات المرتبطة بهذا الموقف.

وسنتناول بالشرح العناصر الأربعة، وسنضرب أيضًا مثالاً لتحليل اجتماعي بأسئلة محررة، يمكن الاستعانة بها وتطبيقها على واقعنا.

البعد التاريخي

يشغل البعد التاريخي المركز في كل تحليل اجتماعي، ويحاول الإجابة على السؤالين: "من أين نأتي؟ إلى أين نذهب؟" فالنظرة التاريخية تضع المواقف الحالية والتحديات المعاصرة في إطارها الحقيقي. ويتشكل الزمن من مجموعة من الأحداث الخاصة كلنا "متورطون" فيها بوعي تام، كما يمكننا بوعي أيضًا أن نؤثر فيها. فإن تعلمنا أن نهتم بالأحداث وأن نعيشها بوعي، سنتحرر من طغيان التاريخ ومن قواه غير المرئية، والتي ليست في الحقيقة إلا قدرة الآخرين على تحديد مسار حياتنا.

للوعي التاريخي مرحلتان أساسيتان: (1) مرحلة علمية و(2) مرحلة تعتمد على الحدس والتوقع:الأولى تحلل الماضي بدقة، أما الثانية فتفحص المستقبل.

إن المسيحي يعي أن الروح القدس يعمل في التاريخ، من خلال الأحداث المادية الفردية والجماعية. ولذا فإن الوعي التاريخي بالنسبة للمسيحيين يعني أيضًا قراء ة "علامات الزمان"، علامات حضور روح المسيح العالم في التاريخ، الذي يدعونا للتقدم معًا في سبيل أن يأتي ملكوت الله هنا والآن.

البُعد البنيوي

إذ ليست العدالة الاجتماعية مسألة فردية فحسب، بل لها أيضًا وجهها البنيوي. فمشكلة العنصرية أو التفرقة بين الجنسين قد تظهر على صورة قلة فرص التعليم أو قلة المتاح من الوظائف أو حتى من خلال تفرقة في المرتب لنفس العمل... وهذه الأعراض هي بالقطع مشاكل في البنية نفسها تقع على مستوى المؤسسات ولا على مستوى الأفراد.

وعندما نقوم بتحليل بنية مجتمع ما، يجب في البداية أن نفحص الجانب الاقتصادي لهذه البنية، فنتساءل عن نمط الإنتاج: هل هو إنتاج تكنولوجي متطور يرتكز على رأس المال؟ أم هو إنتاج هدفه الأول خلق فرص للعمل، فيرتكز على العمال أساسًا؟ ونتساءل أيضًا عن وسائل توزيع الثروة:هل هي محتكرة أم موزعة على قاعدة عريضة؟ وكذلك عن ظروف التبادل المالي والتجاري، مثلاً: ما هي الفائدة على القروض؟ وعن أنماط الاستهلاك: وما إذا كانت تتوجه نحو التيذير أو نحو المحافظة على الموارد النادرة؟ستساعدنا إجابات على مثل هذه النوعية من الأسئلة على أن نفهم ما هي الطبقة أو الطبقات أو الأشخاص الذين يتحكمون في الاقتصاد؟ ومن ثم أي قيم تتحكم في العمليات الاقتصادية المختلفة؟

ينتقل التحليل الاجتماعي إلى البنية السياسية للمجتمع. فيفحص التجمعات المختلفة لمؤسسات السلطة داخل المجتمع، الحكومة مثلاً ومدى فاعليتها على مستوى الدولة ككل أو المحافظة أو المدينة. ويمكن أن يستعرض جماعات الضغط وتأثيرها كالنقابات والكنائس والمجموعات الدينية... إلخ. ويمكننا بتحليل دور هذه المؤسسات وبنيتها السياسية من تحديد من يتخذ القرارات الأساسية وزمان ومكان اتخاذها، وكذلاك مدى المشاركة الشعبية فيها، وما هي فرصة هذه القرارات في الدخول إلى حيز التنفيذ.

وأخيرًا، يجب أن نفحص البنية الثقافية التي تشكل أحلام المجتمع وأساطيره ورموزه. وفحص هذه البنية يساعد على اكتشاف ما هي الاتجاهات الثقافية المتحكمة في المجتمع، وماذا يحدث للاتجاهات الأقل سطوة أو شعبية، وما هي المظاهر الاجتماعية النفسية التي تؤثر على مجرى الأحداث؟ مثلاً هل هناك إحساس عام بعدم الارتياح أم إحساس ملتهب بالوطنية؟ أو ما هي أسباب حلم بعض المسيحيين بإحياء اللغة القبطية في الحوار اليومي؟

الأبعاد الاجتماعية المختلفة والمتناقضة

مع قيامنا بتحليل اجتماعي لأكثر من موقف، سنتمكن من رؤية أوضح لانقسامات المجتمع، انقسامات تبعًا للأصل العنصري، للجنس، للعمر، للطبقة، للعرق، للدين، للمنطقة الجغرافية.. إلخ. هذه الانقسامات موجودة – سواء شئنا أم أبينا -، وفي جميع الأحوال فإن  جهلنا بها يعوقنا عن رؤية شاملة للواقع الاجتماعي الذي نعيشه كل يوم.

كثيرًا ما نتكلم وكأن جميع الناس يرون الواقع الاجتماعي بالنظرة نفسها. ويجعلنا التحليل الاجتماعي واعين بهذه الانقسامات، فلا ننسى أن معرفتنا نفسها جزئية جدًا، لأن الحقيقة بالغة التعقيد.

ومع تعمقنا في التحليل، سنكتشف من يتخذ القرارات المصيرية التي تهم قطاعات عريضة من الناس، ونتساءل:

- من يتخذ القرارات؟

- من يستفيد منها؟

- من يدفع ثمن هذه القرارات؟

على أي المستويات تقع المشكلات؟

أخيرًا يجب أن نلاحظ أن لأية مشكلة من المشكلات مستويات مختلفة: محلية، إقليمية، قومية، دولية.. إلخ. وتحليل المشكلات على مستوياتها المختلفة وعلاقاتها ببعضها البعض عنصر بالغ الأهمية، والعلاقات بين الأجدزاء والمجموع يمكن أن نفهمها بمساعدة أسئلة جوهرية مثل:

- من يتحكم في المشكلة؟

- من يستفيد منها؟

- ما هي القيم التي تحركه؟

- ما هي الرؤية المستقبلية التي توجهه؟

 

عن مقال للأب أوليفر برج أوليفييه - المساعد الكنسي الأسبق لرفاق الكرمة في مصر - نُشر في مجلة رفاق الكرمة