عزّوا شعبي

عزّوا شعبي

الأخ/ فادي حليسو اليسوعي

"عزّوا عزّوا شعبي، يقول إلهكم. خاطبوا قلب أورشليم ونادوها بأن قد تمّ تجنّدها. وكُفّر إثمها ونالت من يد الربّ ضعفين عن جميع خطاياها" (أشعيا 40: 1-2).

في وقت المجيء -الاستعداد للميلاد- ثمّة كثير من القراءات من سفر أشعيا، ومن بينها الآية السابقة التي تُذكّرنا من جديد برسالة التعزية التي تزخر بها صفحات الكتاب المقدّس. ولكن، هل يمكن في الظروف الحالية أن نجد في نصوص الميلاد وقصّة العائلة المقدسة ما يعزّينا؟

تبدأ قصّة العائلة المقدسة على ما يخبرنا به الكتاب المقدس منذ لحظة بشارة مريم، الفتاة اليافعة التي اختارها الله لتلد المخلّص. إنّه خيار عجيب وطلب صعب يضع مريم في خوف وحيرة، إذ كيف لها أن تحمل من دون رجل؟ ومن سيصدّق هذه القصّة الغريبة؟ لكن الله القادر على كل شيء، والذي اختارها لهذه المهمة الصعبة لم يتركها وحيدة، بل كان أميناً في وعده لها، وأشرك خطيبها يوسف في مخطّطه الخلاصيّ. فكان أن تخلّى يوسف، الرجل البار، عن شكوكه وحذره، وقرّر جلب مريم إلى بيته على الرغم من فضيحة هذا الحمل العجيب.

 

 

ولحظّ هذه العائلة السيء، تصادف اقتراب موعد الولادة مع الإحصاء السكّاني، فكان السفر إلى بيت لحم. لم يكن السفر بالأمر السهل في تلك الأيام، إذ توجّب على مريم، الحامل في شهرها الأخير، أن تمتطيَ حماراً في طرق جبليّة وعرة حتّى تصل ويوسف إلى قريته في بيت لحم. هناك كانت المفاجأة! ما من مكان ليستضيف المسافرين. ما العمل؟ أما كان لهذه العائلة أن تستريح؟ من جديد، لن ينقضي الأمر بولادة تحت ظروف صعبة، في مزود وفي إسطبل بين الحيوانات، لا بل ستستمرّ آلام هذه العائلة فيما بعد، عندما يُضطرّها جشع الحاكم وتمسّكه بالسلطة إلى الهجرة حفاظاً على حياة وليدها، ليدعوها الرب من جديد لتعود إلى أرض الجذور.

 

 

لم تنتهِ متاعب الأبوين هنا، ففيما بعد، يبدو أن تربية صبيّ تقع على عاتقه مهمة خلاصيّة بهذه الأهمية، ليست بالأمر السهل، إذ يخبرنا الإنجيل عن القلق والرعب الذي عاشه والدا يسوع بعد أن تأخّر عنهما ليعلِّم في الهيكل، في الواقع لا نعلم إن كان قلق مريم ويوسف نابعاً فقط من إضاعتهما ليسوع، أم أن رعبهما قد ازداد عندما وجداه وسط علماء الشريعة منهمكاً في مجادلتهم! لربما تكرّرت مثل هذه الحادثة أكثر من مرّة، فمن الصعب على من يشعر بأنّه مدعوّ لرسالة بهذه الأهمية أن يبقى صامتاً. في نهاية المطاف، وعندما ابتدأ يسوع رسالته العلنية، كان لزاماً عليه لكي يمضي في رسالته، أن ينفصل عن أهله ويترك البيت. أمضى أيامه في سنوات رسالته الثلاث متنّقلاً مرتحلاً من مكان إلى آخر، حتى اضطرّت أمّه إلى اللحاق به وعيش حياة الترحال معه لتظلّ قريبة منه.

كلّنا يعرف القصة، ولربما يمتلك البعض منّا تفاصيل أكبر، بل لربّما قد يكون ثمّة من بيننا من قرأ كتباً تصف الحياة في ذلك الزمن، مكّنته من رسم صورة تقريبية لتلك المرحلة، فأدرك كم كانت صعبة مسيرة العائلة المقدسة: سمعة سيئة، تنقّل وترحال وهجرة، أحوال سياسية مضطربة، ورسالة شاقّة التزمها حتى النهاية.

أتأمّل في هذه العائلة وأُقارنها بأحوال عائلاتنا المسيحية اليوم، فأُدهش لمقدار التشابه. كيف؟ لنتأمّل في أحوال الغالبية العظمى من شبابنا اليوم. أفلا يعاني معظم الشباب المسيحيّ في دول المنطقة من أوضاع صعبة على أكثر من صعيد؟ ليس تكوين العائلة بالأمر السهل على الصعيد الاقتصادي، لا سيما بالنسبة للشباب الذي لا يتمكّن أهلهم من مساعدتهم. وهم إن تجاوزوا هذه العقبة بعد جهد، فسيصطدمون مع غيرهم ولا شكّ بأوضاع مضطربة في بلدانهم على الصعيدين الاجتماعي والسياسي، تزيدُ من أعباء حياتهم اليومية. فعدا عن اكتظاظ سوق العمل وندرة الفرص التي يعرضها على داخليه الجدد، فإنه يتعرّض لهزّات مستمرّة مع الثورات التي تشهدها المنطقة. وفيما يبدو المستقبل ضبابياً، لا نتمكّن من تلمّسه، يزداد خوفنا واضطرابنا. من دون أن ننسى بالطبع المؤشّرات الموحية بصعود قوًى دينيّة متشدّدة، يمكن لها أن تُضيّق علينا وتُهدّد نمط حياتنا. إنها مسيرة صعبة من دون أدنى شكّ، مسيرة تكوين عائلة وتنشئتها هذه الأيام، تماماً كما كانت مسيرة العائلة المقدسة، فما أن نذلّل صعوبة أو عائقاً حتى نصطدم بآخر.

وكما كانت مشاركة يسوع في الحياة العامة أمراً مقلقاً لأهله لا سيّما في فترة صباه، فإنّ كثيراً من الآباء والأمهات يصيبهم الذعر اليوم حيال مشاركة أبنائهم في الحراك الشعبي والسياسي في بلدانهم، البعض منهم يراه ربيعاً فيما يرى فيه آخرون تباشير شتاء بارد. هذا ليس بالمهم، فكثير من أبنائنا منخرط في هذا الحراك بغضّ النظر عن المعسكر الذي اختاره، وهذا في حدّ ذاته أمر يصيب الأهل بالرعب، لا سيّما بعد فترات طويلة من الخمول السياسيّ والاجتماعيّ. إنّهم قلقون من الأخطار التي قد يتعرّض لها أبناؤهم وعائلاتهم. يفكّر كثيرون بالهجرة والرحيل إلى مصر جديدة، كما فعلت العائلة المقدسة، فيما يتكلّم آخرون عن ضرورة الثبات في الشرق وعدم إفراغ أرض الرسالة من حامليها. أفكار كثيرة تتقاذفنا ونصاب بالحيرة أمام تيّارات متعددة تبدو متعارضة ومتناقضة في كثير من الأحيان، فما العمل؟ وما هو القرار الصائب وما هو الأنسب؟

لنا في سيرة العائلة المقدسة خير مثال، وإن كان ثمة ما يمكن تعلّمه منها، فلدينا خصال ثلاث: الحكمة والمثابرة والرجاء. يخبرنا الإنجيل من جهة عن مريم ويوسف اللذين لم يسمحا لكل الظروف بأن تصيبهما بالإحباط، بل احتفظا بصبر وثبات مكّنهما من أداء رسالتهما، من دون أن يتهرّبا من أي استحقاق. لقد واجها بإرشادٍ من الروح، كلّ مرحلة بحسب متطلّباتها، ولم يستسلما للظروف التي لم تكن سهلة في أكثر من مناسبة، بل لعل بعضها كان بمعايير تلك الأيام كارثياً. ومن جهة أخرى لدينا مثال يسوع الذي أصغى إلى نداء الروح، فلم يخشَ الشهادة له رغم كل ما تضمّنته هذه الشهادة من صعوبة وألم، بل مضى في رسالة أبيه إلى النهاية، إلى الصليب.

وفي كلتا الحالتين، نحن أمام مثال عن رجاء لا يخيب، رجاء بالله الحاضر وسط شعبه، رجاء جعل مريم تقول "فليكن لي بحسب قولك"، ويسوع يقول "فلتكن مشيئتك".

إن إيماننا المسيحيّ هو إيمان العقل والقلب في آن، وإذ يخلو العهد الجديد من النصوص تشريعية أو التعليمات والقواعد التي تنظم حياة المسيحيين، فإنه يقدّم لنا من الأحداث ما يُرشد خطانا ويساعدنا على التماس الطريق. وإن كان مثال العائلة المقدسة يخاطبنا على مستوى العقل، فلنصلّ لكي يعمل فينا اليوم على مستوى العاطفة والقلب أيضاً، ويجلب لنا التعزية المطلوبة هذه الأيام، طالبين من العليّ أن نحصل في ذكرى ميلاد ابنه على نعم الحكمة والمثابرة والرجاء، فنتمكّن من تجاوز العقبات والصعاب التي تواجهنا اليوم في تاريخنا الشخصي والعام على حدّ سواء.

في الختام، لا أجد تعزية أبلغ من التفاؤل الذي فاجأني به أحد الأصدقاء، إذ رأى في كلّ ما يحدث في المنطقة علامة رجاء. لقد شبّه ما نعيشه اليوم، على صعوبته، بلحظة اكتمال الأزمنة التي وُلد فيها المسيح. ولد يسوع في حقبة شهد فيها العالم القديم الممتدّ على ضفاف المتوسط الثلاث عولمة على قياسه، تجلّت في سيادة دولة عظمى هي الإمبراطورية الرومانية وانتشار اللغة اليونانية في شتى أرجائها. أكان من الممكن أن تنشر البشارة بهذه السرعة من دون تلك العولمة؟ لا بل أن مجيء يسوع تمّ في وقت تأزّم شديد للشعب اليهودي، شهد انسداد الأفق أمام حلم التحرّر من الاحتلال الروماني، فجاءه محرّر من نوع آخر، فهل نرى في أحداث الساعة علامات لرجاء متجدد؟

الأخ/ فادي حليسو اليسوعي