قبول الذات أسلوباً للحياة

بقلم الأب أوليفر  بُرج – أوليفييه اليسوعي

كلّ شخص هو مزيج من الآمال والمخاوف المختلفة بل والمتناقضة، إذ تموج نفوسنا بمجموعة من الطموحات والمثل العليا والمخاوف والشكوك أيضاً، فما أكثر الأشياء التي نود أن نكونها أو نفعلها، وما أعمق المخاوف والشكوك التي لا تنفك تصاحب أحلامنا وطموحاتنا. وليست بعض هذه الشكوك والهواجس إلا وقتية لا تظهر إلا في ظروف معيّنة، بينما هناك مخاوف أخرى أكثر استمراراً وتصاحبنا طوال حياتنا أو على الأقل طوال سنين عديدة    .

مشاعر متنوعة

   وقد يظل تنوع مشاعري بل وتعارضها سراً دفيناً أخشى افتضاحه، فحياتي الباطنية محيّرة بمفاجآتها واضطرابها وعدم وضوحها. ويمكنني – في أحسن الظروف – أن أحتملها فحسب، ولكن يصعب عليّ أن أسبر غورها وأشاركها حتى مع نفسي. ولكن عليّ – إن شئت النضوج – أن أعيش صداقة حميمة مع ذاتي، فهذه الألفة تنمّي وعيي بكياني الشخصي وبالإنسان الذي أنا مدعو لأكونه ومعرفته وقبوله، وتؤكّد هويّتي وتوضحها وتضفي عليّ الثقة في ذاتي وتنمي تسامحي مع نفسي وحبي لها. إنها قوة حب ناضج للذات يرتكز عليها حبي للآخرين وخدمتي لهم    .

وبقدر ما أبذل الجهود لاكتشاف الأنا الباطنيّ والكشف عنه، ازداد انتباهاً إلى الكيان الذي يكشف عن نفسه ويتطور. فكيان الإنسان المعقد الغني والذي خلقه الله ويسكنه – يكشف عن نفسه على مرّ السنين شيئاً فشيئاً وللمراقب المنتبه والمحب فقط، والله الذي يظهر في الطبيعة والآخرين يكشف عن نفسه فيه أيضاً... وهذا الحضور الإلهي في حياة الإنسان يدعو لتخطي الأنانية وللنظر إلى أنفسنا بنظرة إلهية    .

وهناك تحديّان متكاملان أمام النمو النفسي والروحي وهما تغيير الذات وقبولها، وما النضوج إلا توازن بينهما    .

والتقليد المسيحي أوليّ انتباهاً أكبر للتحدّي الأول ألا وهو تحدّي التغيير والتوبة والإصلاح. وإذ خَبِرنا أنفسنا خطأة وأنانيين وهدّامين وقليلي الإيمان، فنحن مدعوون إلى الاستجابة إلى جهود الله في الرامية إلى توبتنا وشفاء جروحنا. و"تغيير قلوبنا الحجرية إلى قلوب من لحم". ويتطلب جهوداً دائمة وصبورة وما يمكن أن نسميه "تطلّب مقدّس" مع أنفسنا، أي رغبة عميقة في الأفضل و"المزيد". ومن المهم أن نلاحظ فائدة التطلّب ولا سِيَما في سن الشباب أو بداية سن الرشد. فالشباب لا يتطلبون من الآخرين ومن أنفسهم، وكذلك عادة ما لا يتساهل المهتدون الجدد مع من لا يشاركونهم إيمانهم الجديد و"رؤيتهم الواضحة". وفي هذا التطلّب شيء من الإيجابية    .     ولكن يأتي سن النضوج يصبح فيه التطلّب أقل "قداسة"، فلنلمح المظهر الآخر للتوبة وهو دعوة لألفة حميمة مع ذاواتنا    .

ولا تعني مسيرة الألفة ومحبة الذات تواطؤاً مع العناصر الهدّامة فينا، بل هي نداء لتخطي رفض الذات الذي عرفناه في مرحلة سابقة من حياتنا، تسامح أكبر مع مزيج القوة والضعف الذي اكتشفناه فينا ودعوة للنظر إلى بعض الأبعاد الملتبسة أو المخزية أو المُقلِقة في شخصيتنا، وإلى إدماجها في كيان أكثر تجانساً وتكاملاً. إنها دعوة روحية للوصول إلى مستوى أعمق من الارتياح مع "شخصنا" وإلى ألفة شاكرة مع ما يفعله الله فينا ومعنا وغالباً رغماً عنا  .

قبول تعددنا الآني وعمل صداقة معه

إن كل واحد وكل واحدة منا متعدد الوجوه، لا على مر تاريخنا وما فعلناه وعشناه فحسب، بل كل منا متعدد الجوانب في اللحظة الآنية، وأعيش متحمساً لأبعاد عديدة من حياتي وجزعاً أمام أبعاد أخرى: فأنا شجاع وجبان في الوقت نفسه، مليء بالأمل ومحبط. وأكتشف أن أنبل الجهود التي أبذلها في سبيل الآخرين تحركها مجموعة متنوعة من الدوافع والأحاسيس. وأتحقق في مسيرة نضوجي أن تنوع الدوافع والأحاسيس لا يجعل مني بالضرورة شخصاً سيئاً بل يشكل شخصيتي كما أنا، بتركيبتي المميزة من قدرات وحدود من إبداع وصرامة.

ويمكن أن أستقي معرفة "من أنا" و"كيف أنا" من مصادر ومعلومات كثيرة. ويندرج بعض هذه المعلومات تحت مسمى "المصائب" أو "المآسي" كأن أصاب بقرحة أو أزمة قلبية، ولكن الإرهاق المستمر والاكتئاب هما أيضاً أعراض لعدم الاتزان أو فقدان التوافق الباطني أو عدم تكامل أبعاد حياتي، وينطوي النضوج النفسي والروحي على قدرة للانتباه إلى المعلومات المأساوية كما إلى المعلومات اليومية والعادية.

ولكن إيقاع الحياة المعاصر – الذي تتحكم فيه قيم النجاح والاكتفاء بالذات – يدفعني دفعاً إلى عدم أخذ وقفة مع الذات وإلى تجاهل هذه المعلومات، وفي مثل هذا الأسلوب نوع من نكران الذات ولكن بطريقة تختلف تمام الاختلاف عما تدعو إليه المسيحية، فهذا النكران ثمرة شخص إراديّ النزعة ومنهك القوى أكثر منه ثمرة لشخص راشد وملتزم وراضٍ.

وتبدأ الألفة مع النفس بالانتباه إلى المعلومات الصادرة من الداخل، وباستماعي إلى ذاتي أكتشف حدودي وأيضاً قدراتي وآمالي، فأبدأ إذاً بإبعاد التأثير السلبي لانتظارات الآخرين ولأهدافي الشخصية المجردة وإن كانت مثالية، وأستبدل هذا بما تقدمه في حياتي فعلياً. فأدخل بالتالي في إيقاع النضوج وسن الرشد وأصل إلى سلام باطني وصبر أكبر مع مسيرة حياتي. إن الألفة مع ذاتي تؤدي إلى فهم أفضل لدوافعي، فأعي مثلاً لماذا أدمن العمل أو لماذا أغضب أو أكتئب، وتزداد قدرتي على شفاء أبعاد شخصيتي هذه، أتخطاها أو أنتصر عليها أو أقبلها في سلام.

إن هدف صداقتنا مع ذواتنا هي "امتلاك الذات"، وربما يعرف كل منا بعض الأشخاص الذين يعيشون في ارتياح تام مع مَن هم عليه، بدون أن يكونوا لا قدَريين مستسلمين للحياة ولا إراديين ينطحون الصخر، ولكنهم يقومون بما يقدرون عليه بوعي هادئ بحدودهم واحتياجاتهم. لقد وجدوا إيقاعهم واكتشفوا دعوتهم وبدأوا في تحقيقها بتمام معنى كلمة دعوة، بل وقد وصلوا إلى ما هو أفضل من ذلك أي محبة حقيقية للذات.

وربما أكون قد اكتشفت بعض مظاهر إيقاعي الداخلي، فعرفت مثلاً – مع الوقت – أنني لا أقدر إلا على القيام بقدر معين من العمل. وربما وددت لو كنت أكثر صلابة لأعمل فترة أطول مثلما يفعل البعض من حولي، ولكني لا أستطيع، وقد قبلت ذلك في نفسي. وأن أعرف شكلي؛ فأنا لست طويل القامة أو وسيم الوجه، فهكذا جسدي وهكذا هيئتي وهذا أيضاً أقبله، بل أكثر من هذا؛ فهذا أنا وأنا أحبه.

هناك أيضاً مخاوف وشكوك تراودني مراراً وتكراراً وتبدو لي جزءاً لا يتجزأ مني. وكنت أظن أن السنين وما بذلته في مواجهتها من جهود قد محتها. ولكني أتحقق يوماً بعد يوم أن هذه الشكوك والمخاوف سترافقني مدى حياتي. ولذا سأحاول أن أستفيد منها أكبر استفادة ممكنة، حتى أقدر على احتواء هذه الشياطين الداخلية وهذه الضعفات التي لم أكن أستسيغها في ما مضى. وربما كان القديس بولس يقصد مثل هذه الأمور حين كان يكتب عن "شوكة في جسده"، إذ لا يمكن أن يتخلص المرء من ضعفات معينة أو أطوار غريبة. ويبدو الله سعيداً بألا ينزعها عنه.

وأخيراً تتيح لنا الألفة مع ذواتنا أن نعيش الحاضر، فقبول الذات يعني أن نحب أنفسنا الآن في هذه اللحظة المحددة من حياتنا. وإذ نتقدم في هذه الفضيلة، نصبح أكثر قدرة على أن نعيش عمرنا الحقيقي، فلا نشعر بالحاجة إلى إنكار سننا أو إخفائه لأننا نحب المرحلة التي نعيشها الآن. وبذلك نتحرّر من تسلط رأي الآخرين، والذي قد يعوق قبولنا للشيخوخة مثلاً.

أحبب نفسك الآن ولا تنتظر إلى أن تتغير

لا يمكن أن ننتظر الكمال لكي نحب أنفسنا، وإن كانوا علمونا ذلك، وربطوا بينه وبين الإيمان المسيحي، فأسطورة الكمال بهذه الصورة لا شك قد ألحقت ضرراً جسيماً بجهود المسيحيين في نموهم الروحي أكثر مما أفادتهم. فإننا بهذه الصورة نتعلم فقط أن نكره أنفسنا لأننا خطأة وناقصون.

وحين يفاجئنا شخص آخر بأنه يحبنا، فنحن لا نصدقه أو على الأقل نفسر هذا الحب بأنه حتماً لا يعرفنا على حقيقتنا. فنميل بالتالي في علاقتنا معه إلى إخفاء نواقصنا وعيوبنا لنحافظ على هذا الحب غير المستحق. ولكن إن كنا محظوظين فسنعرف أن صديقنا يحبنا حباً صادقاً كما نحن، بعيوبنا وبكل ما نحن عليه. ونحتاج إلى أن نعيش هذه الخبرة – بل هذا الدرس – لكي نتذكر أن الله يحبنا كما نحن. فلنا قيمة في عَيني الله وهو يرانا رائعين (راجع إش 43 وزكا في لو 19)، ولكن لا بفضل أعمالنا ولا إنجازاتنا ولا حتى تقوانا، بل لأن الله يحبنا! ولهذا السبب وحده نحن رائعون.

وقد كتب الشاعر الإنجليزي شيستيرون: "لأنه بالحب نصبح محبوبين". وهذا ينطبق على الألفة مع النفس، ونحن مدعوون إلى لقاء مع أنفسنا الآن، لا لأن ذلك سيتيح لنا أن نتحسن ونتغير إلى الأفضل بل لأننا الآن رائعون، وبقدر ما نرتاح مع ما يميّزنا ومع قيمتنا وجمالنا، نصبح قادرين على محبة الآخرين والألفة الحقيقية معهم.

تدريب

لكي تفهم تعدّد جوانب شخصيتك يمكنك أن تستعين بالرسم.

ابدأ أولاً برسم دائرة كبيرة. واكتب في الدائرة بعض الأدوار التي تقوم بها في الأسرة والعمل ومع الأصدقاء وغيرها من الأدوار. قرّب من المركز الأدوار الأكثر أهمية ومعنى عندك، واجعل الأدوار الأخرى أبعد أو أقرب من المركز وفقاً لأهميتها في حياتك.

ثم أضف إلى الدائرة ثلاثة أو أربعة أمور تتقنها أو جوانب تحبها من شخصيتك. ثم أضف أيضاً ثلاثة أو أربعة حدود أو مظاهر ضعف تعرفها في نفسك واستطعت أن تقبلها.

امضِ وقتاً في تذوق هذه الصورة التي رسمتها لنفسك. انتبه إلى الأدوار التي قرّبتها من المركز وتلك التي أبعدتها عنه، انتبه إلى ما أضفته من نقاط للقوة ونقاط للضعف. ما الذي تقوله هذه الاختيارات عن نفسك "هنا والآن"؟

والآن اكتب خارج الدائرة جوانب من شخصيتك تشعرك بعدم الارتياح. اعتبر كل جانب على حدى: أهو عيب أو خطأ فيك عليك التغلب عليه، أم هو جزء حقيقي منك يجب أن تتآلف معه وتصادقه ويتطلب منك قبولاً في دائرة أكبر من تلك التي رسمتها؟ أيمكن اعتبار هذا الجزء من شخصيتك طاقة كامنة فيك وإن كنت تجهلها ولا تقبلها؟

فكّر في كيفية التعامل مع كل جزء من شخصيتك لتتخذه صديقاً لكي ما تساهم في تكامل شخصيتك وتوافقها.