هدف الرياضة الروحية

هدف الرياضة الروحية

بقلم الأب حنا فور اليسوعي

الرياضة تدريب الإنسان على تمارين تحرره من كل ما يعوقه في مسيرته، ويمنعه عن التقدم الروحي، فتساعده على اكتشاف إرادة الله، لينظم حياته حسب هذه الإرادة الإلهية. إذ أننا نتصرف غالبًا في حياتنا اليومية مدفوعين بتأثير أهوائنا غير الخاضعة للعقل ولا للضمير المستنير بالإيمان. نحتاج إذًا إلى التحرير من هذه الانفعالات غير العاقلة والمنحرفة حتى نكتشف الصواب: ألا وهو ما يراه الله وما يريده.
ويسهل علينا ملاحظة أن بعض هذه الأهواء المنحرفة ينتج من طابعنا الشخصي وأحاسيسنا وعواطفنا، والبعض الآخر هو ثمرة تأثير الجو المحيط بنا، وبنوع خاص تأثير التيارات الفكرية والمتقلبة في بيئتنا وفي جيلنا، كما يصعب على الطالب أن يستمر نزيهًا في جو امتحانات يسودها الغش أو على الموظف أن يبقى صادقًا وخلاقًا ومجتهدًا وسط مجتمع التملق والنفاق والرشوة.
وأما "الأهواء المنحرفة" الشخصية فربما نتجت من خطيئة تعودنا عليها، أو من استسلامنا المستمر للغضب أو للغيرة أو الكبرياء أو غيرها من المشاعر السلبية، مما يجعلنا مقيدين حتى لا نعرف التمييز بين الخير والشر.
حتى نتحرر من هذه القيود لنختار الصواب ونكتشف إرادة الله، لابد من الاختلاء مع الذات ومع الله، كي نعطي الفرصة لذواتنا كي نعود إلى الإحساس الدقيق بإلهامات الله فينا، فننقاد بروحه لإدارة حياتنا حسب إرادته.
إذًا هدف الرياضة تحرير ثم استعداد ثم اكتشاف إرادة الله حتى الوصول إلى حياة الاتحاد والشركة مع الله ومع الآخرين ومع ذواتنا مما يؤهلنا إلى حياة الرسالة.

ظروف تكوين الرياضة الروحية

لم يقصد إغناطيوس أبدًا أن يؤلف "كتاب رياضات"، بدأ الأمر عندما رقد على فراش المرض بعد إصابته بقذيفة، وبدأ يتأمل دون مساعدة أي مرشد إلا إرشاد الروح القدس. كما اكتشف، بعد سقوطه في أخطاء ومشاكل متعددة، أن هناك الروح الشرير الذي يؤثر فيه ليبعده عن طريق الرب. وتعلم أيضًا بالخبرة فائدة سر المصالحة الذي يعيد السلام والنور إلى النفس.
وبعد أن اهتدى إغناطيوس إلى الرب، أراد أن يشارك غيره بهذه الخبرات؛ فاختار بعض الناس وأخذ يكلمهم عن فحص الضمير وعن التوبة والتأمل في حياة المسيح. وهكذا تكونت الرياضة تدريجيًا، ناتجة عن خبراته في حياته الشخصية من ناحية، وعن خبراته مع نفوس الآخرين من ناحية أخرى.

مراحل الرياضة وتخطيطها الهادف

تنقسم مسيرة الرياضة  إلى 4 مراحل نسمي أسابيع. إلا أنه قبل الدخول في تمارين الأسبوع الأول ذاتها نجد أولاً نظرية بعنوان "المبدأ والأساس". فيها نواجه حقيقة خلق الإنسان وهدف هذا الخلق ألا وهو الاتحاد بالله تعالى أبديًا لأنه لا نجاح لحياة الإنسان إلا بالوصول إلى هذه الغاية. ومنها ينتج الاقتناع بضرورة التحرر من كل حب منحرف، أي بكل استعباد أو تعلق لما ليس الله.
تلي هذه النظرية الافتتاحية تمارين الأسبوع الأول. وهي عبارة عن سلسلة تأملات نشاهد فيها من ناحية وجود الشر ورفض الله في العالم وفينا. ومن ناحية أخرى عظمة رحمة الله نحو هذا العالم الخاطئ ونحونا شخصيًا. تلك الرحمة المخلصة التي تتبلور في مشهد المسيح المصلوب من أجلنا. وهكذا فثمرة الأسبوع الأول هو الاقتناع بحب الله والتحرر من كل ما يفصلنا عنه وينتهي هذا الأسبوع بتساؤل: "إذا أحبني الله هكذا، فماذا أعمل حتى أرد على هذا الحب المطلق؟"
ردًا على هذا السؤال يبدأ الأسبوع الثاني بمشاهدة رئيسية مثل نظرية المبدأ والأساس في الأسبوع الأول، إلا أنها تختلف عنها لأنها لا تكتفي بالتفكير في معطيات الإيمان والاستنتاج العملي منها، بل توقفنا أمام المسيح، الابن الذي يتجاوب تمامًا مع حب الآب، في شخصية الملك الذي يدعو متطوعين للاشتراك معه في الجهاد ضد الشر ولبناء ملكوت أبيه، على أن هذا الجهاد يتأسس أولاً على متابعة المسيح في محاربة الحب الذاتي وفي تحمل الإهانات والفقر على مثاله ومعه.
بعد هذه المشاهدة المبدئية، يستمر الأسبوع الثاني بتأمل يسوع في حياته، فنتبعه خطوة خطوة منذ يوم تجسده في سر البشارة إلى أيام ميلاده فقيرًا في بيت لحم، وحياة الطفولة والشباب في الناصرة، ثم سنوات التبشير واختيار رفاقه وتلاميذه، حتى دخوله أورشليم يوم أحد الشعانين.
ولكي يساعدنا إغناطيوس على هذه التأملات، خوفًا من الاكتفاء ببعض الانفعالات والعواطف السطحية، يقدم لنا مفتاحًا لأسلوب متابعة المسيح من خلال 3 تأملات أو محاور: تأمل في "الرايتين" وفي "ثلاث درجات من التواضع" وفي "ثلاث فئات من الناس". وسنأتي إليها لاحقًا عند الحديث عن النعم المطلوبة لكل تأمل.
ويجعلنا الأسبوع الثالث نتأمل المسيح في آلامه وموته على الصليب طوعًا، فنثبت بنعمة الله في قراراتنا حتى نتبعه على الطريق الحرج وندخل من الباب الضيق حبًا فيه وفي سبيل خلاص مجتمعنا. ونصل في الأسبوع الرابع إلى تأمل المسيح المنتصر في قيامته وإرساله لتلاميذه إلى العالم أجمع لنشر رسالة الخلاص بين جميع البشر.
إلا أننا قبل انطلاقنا للرسالة في العالم يقدر لنا إغناطيوس تأملاً خاصًا يمكن اعتباره ميثاق شركاء المسيح، عنوانه "تأمل لبلوغ الحب"، نشاهد فيه حب الله الذي يعمل من أجلنا، بل يعمل من خلالنا بالحب والحكمة، ونشاهد أيضًا جميع ملكاتنا التي تنحدر منه كالنهر من الينبوع، حتى تصبح حياتنا هي حياة الله فينا وحياتنا في الله في شكل مشاركة كاملة. فنكرس له ذواتنا كلها إذ نلنا كل شيء من يده. بل ولا نزال ننال منه كل شيء، بل وننال كياننا ذاته طوال أيام حياتنا في اتحاد دائم مع الله.
وتعتبر النعم – التي يدعونا إغناطيوس لطلبها كعطية مجانبة من الله قبل كل تأمل – مفتاحًا لفهم الرياضة وديناميكيتها.