تأملات في الأوضاع الحالية في مصر - الاب بولاد

 

ولكن بمجرد قيامها، سرعان ما حاول استغلالها الإخوان المسلمون وإرجاع الفضل فيها لأنفسهم وجعلها قضيتهم ، وكأنهم سرقوها من الشباب الذين ابتدعوها وقاموا بها.

إذا فمن جهة نجد الشباب، أصحاب تلك الثورة وقادتها الفعليين ... ومن جهة أخرى الإخوان المسلمين الذين يسعون لنسبها لأنفسهم .

هل هناك عناصر أخرى للأحداث التي تجري حاليا في مصر؟

يوجد بالتأكيد أهل السلطة – وأولهم الرئيس - الذين لا يرفضون إرخاء قبضتهم وترك مناصبهم ... فيتشبثون بأسنانهم وأظافرهم بالكرسي الذي أشغلوه لوقت طويل.

هذه الزمرة المشبوهة الفاسدة، التي تتمتع بامتيازات هائلة وحصدت المليارات على حساب عامة الشعب، تشعر اليوم أن الأمور تفلت منها وتسعى للتفاعل مع ذلك وللمواجهة. ربما تكون هي التي دبرت الاعتداء الوحشي الذي حدث يوم الأربعاء 2 فبراير المشئوم ، عندما رأينا زمرة من البلطجية الهائجين، المسلحين بالسيوف والبنادق، والراكبين الخيول والجمال، يقومون بهجوم وحشي جنوني على حشد أعزل كان قد اختار أن تكون الثورة سلمية مرتكزة على الحوار والتفاوض.

وفي الواقع، يبدو أن تلك الوحوش المطلقة العنان كانت مأجورة ليس فقط للزمرة التي كانت في السلطة ولكن لأقطاب التجارة والصناعة ورجال المال الذين كانوا يستفيدون من "النظام". ومن الصعب أن ترخي تلك العصابة قبضتها وربما تكون هي التي جندت قطاع الطرق هؤلاء الذين لا دين ولا ضمير لهم لترويع الشعب وتحطيم إرادته.

هل هناك عناصر أخرى ؟ ربما بعض العملاء الأجانب تحاول أن تصطاد في المياه العكرة.

ولكن أهم من ذلك ، عصابة البلطجية وقطاع الطرق الذين نهبوا المحلات وسرقوا الشقق وسلبوا المارة... ومن مصلحتهم طبعا أن تستمر الفوضى.

من أيضا؟

الجيش، بالتأكيد! الضمانة الوحيدة لحفظ الأمن ، ويعد جهة محايدة حتى الآن وهو قريب من الشعب وخصم للإخوان المسلمين وسيعارضهم بشدة إذا ما حاولوا الاستيلاء على السلطة. هل سنرى إذاً دكتاتورية عسكرية جديدة تعود بنا إلى نقطة البداية، أي الانقلاب العسكري الذي حدث عام 1952؟ ... هل هذا ممكن؟ أليس هناك أية سيناريوهات أخرى؟...

وماذا عن الكنيسة في خضم تلك الأمور؟ الكاثوليك – السلطة الكنسية ورجال الدين والرهبان والراهبات والمؤممين- يلتزمون بصمت حذر في كنائسهم عباداتهم . ولكن بطريرك الأقباط الكاثوليك أنهى هذا الصمت بإصداره إعلان يؤكد فيه لمبارك دعمنا وصلواتنا.

أما بالنسبة للأقباط الأرثوذكس، الذين يشكلون الأغلبية الساحقة من المسيحيين في مصر، فهم منقسمون أكثر من أي وقت مضى . فعلى مستوى السلطات الكنسية، هناك سباق على الخلافة في جو يخيم عليه نهاية عهد. وفيما يختص بالبابا شنودة، فلقد أشاد هو أيضا بالرئيس مؤكدا له صلواته على حساب تيار علماني لا يؤيده في ذلك ويرى أنه بوقوفه هذا ورط نفسه بشكل خطير إلى جانب أحد طرفي الأزمة. ويرون أنه كان ينبغي عليه اتخاذ موقف أكثر حيادية لكي لا يتهم فيما بعد بالتعاون مع ال"نظام السابق".

يقف معظم المسيحيين – فيما عدا بعض الناشطين أو المثقفين الملتزمين- بعيدا عن تلك الاضطرابات السياسية ويبدو أنهم تلقوا تعليمات بهذا الشأن من سلطاتهم الكنسية. في الحقيقة، فإنهم يعيشون في خوف ويتوقعون الأسوأ في حالة استيلاء الإخوان المسلمين على الحكم . نشكر الله أنه لم يقع حتى الآن أي حادث طائفي مع أن الكنائس والأديرة لم تعد تحت حماية الشرطة.

فلنتحدث الآن عن البطل الأخير – والأول - لتلك الأحداث: وهو الشعب نفسه الذي فوجىء بالاختفاء المباغت لقوات الأمن والتهريب العفوي للمساجين... فأصيبوا بالذعر أول الأمر أمام جحافل اللصوص الذين تدفقوا على المدينة. ولكنهم سرعان ما استعادوا توازنهم ونظموا أنفسهم للتصدي والمقاومة. وتم تلقائيا تشكيل لجان شعبية في كل الأحياء يقفون أعضائها أمام البنايات السكنية أو عند تقاطعات ونواصي الشوارع وفي كل مكان للدفاع عن أنفسهم وحماية عائلاتهم وممتلكاتهم وتنظيم المرور وجمع القمامة.

إن تولي الشعب أمره بنفسه كان أمرا رائعا حقا وكل شيء تم في جو من الهدوء والأدب وبكفاءة مدهشة. وللتعبير عن الامتنان والاعتراف بالجميل، وزعت نساء الحي على كل هؤلاء المتطوعين وجبات كن يقمن بإعدادها بأنفسهن بكل محبة. وعندما أرادت إحداهن أن تدفع للجزار ثمن اللحم الذي كانت تشتريه لهذا الغرض، كان رد هذا الأخير : "يا مدام، كيف تريدين أن أقبل نقودا مقابل هذه الخدمة التي تقدمينها بالمجان لكل هؤلاء المتطوعين؟". لقد ترقرقت الدموع في عيني عندما سمعت منها هذا الكلام.

تولدت عن هذه الموجة العارمة من التضامن على مستوى القاعدة أخوة غير عادية في كل الطبقات مما كشف عن الطيبة المتأصلة في الشعب المصري. فالمرأة التي ذكرتها سلفا قالت لي في هذا الشأن : "هذه هي مصر، هؤلاء هم المصريين. فليس هم الذين يقومون بالسرقة والسلب والنهب بل هؤلاء البسطاء الذين يتحلون بطيبة فائقة ولا يتطلعون إلا للسلام والأخوية".

فلنأمل أن يساعدنا النظام الجديد على بناء هذه "الوحدة الوطنية" المنشودة ، البعيدة عن كل صراع حزبي أو طائفي – تلك الوحدة التي تبدو للكثير محض يوتوبيا - أي حلم مستحيل . ومع ذلك ، اعتقادي أن حلم اليوم قد يصبح حقيقة الغد بشرط أن نومن به إيمانا راسخا ونستغل كل إمكانياتنا وطاقاتنا في سبيل تحقيقه .

لقد رأينا في ميدان التحرير إشارة نبوية لهذا الانسجام المستقبلي عندما تشابكت أيدي الجميع وهم يهتفون بقلب واحد : "كلنا يدا واحدة !... نحن جميعا واحد".

 

هنري بولاد اليسوعي، مدير المركز الجزويت الثقافي بالإسكندرية.

سليمان شفيق، صحفي ومحلل سياسي.

الإسكندرية، فبراير 2011

هؤلاء الشباب ... وبالأخص من نال التعليم في المدارس الأجنبية أو الجامعة الأمريكية ... يحلم بالانفتاح والحداثة والمعاصرة ...