إغناطيوس ... السائح

St. Ignatius travel

بقلم الأب أوليفر برج أوليفييه

نحتفل في عام 1991 بمرور خمسمائة عام على ميلاد إغناطيوس دي لويولا. وفي كل بقعة من العالم، قرر كل من ينهلون من روحانيته أن يجعلوا من هذه السنة فرصة لتجديد روحي، وذلك بالعودة إلى جذور هذه الروحانية. ولا يختلف رفاق الكرمة في مصر عن العالم أجمع، وسيقودنا ويلهمنا في ذلك كتاب "رواية السائح" أو السيرة الذاتية لإغناطيوس.

أمضى حياته كلها سائحاً:

    يسمى النص الذي أملاه إغناطيوس على سكرتيره الخاص بـ"رواية السائح". وهذا النص لا يغطي إلا السنوات التي قضاها إغناطيوس كسائح يبحث عن إرادة الله. ولهذا يحدثنا "السائح" كثيراً في كتابه "الرياضات الروحية" عن "البحث عن إرادة الله في كل شيء".
    تبدأ رواية السائح بإغناطيوس وقد جرح في موقعة بامبلونا: أصيب في ركبته لينقل إلى مدينة لويولا، وسيلمسه المسيح بعمق في مدينة منريزا. ومنذ اللحظة التي يترك فيها لويولا، بعد فترة النقاهة، يبدأ إغناطيوس سياحته عبر أوروبا والأراضي المقدسة، تقوده دائماً رغبته في اكتشاف إرادة الله. وسنتتبع في هذا المقال رحلة إغناطيوس التي بدأت في لويولا عام 1521 لتقوده إلى روما عام 1538. من لويولا حيث سافر وحيداً على طريق التوبة متجهاً نحو أورشليم، لينتهي في روما مع رفاقه الذين سيؤسس معهم رهبانية يسوع.

الصعود إلى أورشليم:

    إن الترجمات التي بين أيدينا لرواية السائح تقسمها إلى 11 فصلاً و101 فقرة. ويمكن أن نسمي النصف الأول من هذه الفقرات الواحدة والستين "الصعود إلى أورشليم".
    ففي الفقرة التاسعة نجد إغناطيوس الفارس المغوار يقرر قراره الأول: "الذهاب إلى أورشليم حافياً"، وكان ما دفعه لذلك هو رغبته في الاقتداء بالقديسين، و"عزم في نفسه أن يعمل بعون الله ما عملوه هم وذلك بقلب سخي ومضطرم بحب الله".
    في البداية، لم تكن تلك الزيارة لأورشليم سوى حجاً عادياً، ولكنه يبدأ في التساؤل على طريقه إلى أورشليم (فقرة 12) عما "سيفعله عند عودته ليعيش دائماً في التوبة". وعندما وصل إلى منريزا أخذت أورشليم بعداً آخر: ففي منريزا، وبفضل خبرة روحية عميقة أحس بارتباطه الشديد بشخص يسوع المسيح ربنا. ولم يعد الاقتداء بالقديسين أو التوبة هي ما يجذبه، بل حياة المسيح ورسالته: "وكان عازماً عزماً ثابتاً أن يبقى في أورشليم ليزور دائماً تلك الأماكن المقدسة، وكان ناوياً أن يساعد النفوس" (فقرة 45).
    وبعد مدة قضاها – على حد قوله – في "مدرسة الله" والتغيير بواسطة الروح القدس (19 – 35)، يصل إغناطيوس إلى تنفيذ غايته: وصل بالفعل إلى أورشليم. فبعد طريق طويل من الصعاب وأعمال التوبة، وصل إلى المدينة المقدسة حيث "شعر بتعزية كبيرة". ولم يشك للحظة في أنه يجب أن يمكث في ذلك المكان لتسبيح الله ومساعدة النفوس.
    ولكن لم يستمر هذا الاعتقاد طويلاً، فبعد بضعة أيام طلب منه رئيس الآباء الفرنسيسكان أن يترك الأراضي المقدسة ويعود إلى إسبانيا. وحاول إغناطيوس المقاومة ولكنه وافق في النهاية عندما علم أن الرئيس الأعلى يتكلم بناءً على السلطة الممنوحة له من الكنيسة. فوافق لأنه رأى في ذلك إرادة الله. وفهم حينئذ السائح أن "مشيئة ربنا لم تكن أن يبقى في تلك الأماكن المقدسة" (47). ومنذ أن فهم السائح أن إرادة الله ليست في أن يبقى في أورشليم، كان يرجع دائماً إلى نفسه ليتساءل عما يجب عمله" (50)

ماذا أفعل ؟ أين أذهب ؟

    هذا الفشل في أورشليم دفع إغناطيوس إلى العودة إلى إسبانيا. فقرر أن يدرس في برشلونة "ردحاً من الزمان حتى يستطيع أن يساعد النفوس"، ومع أن الظروف قد تغيرت، فالهدف ظل كما هو "مساعدة النفوس". ونعرف أن ذلك يعني بالنسبة لإغناطيوس المرافقة الروحية والرياضات الروحية. وشيئاً فشيئاً بدأ نفر من الناس في الالتفاف حوله، مكونين بذلك أول مجموعة من الرفاق. وبعد الدراسات الأولى في برشلونة، مضى إلى مدينة "القلعة" ثم إلى "سلمنكة".
    ووجد صعوبات في مساعدة النفوس كما وجد في البقاء في أورشليم: ففي مدينة القلعة "عنى أيضاً بإعطاء الرياضات الروحية وبشرح التعليم المسيحي، وكان ما ينتج من ثمر روحي يؤول إلى مجد الله"، ولكنه ما لبث أن قُبِضَ عليه وأدخل السجن متهَماً بالهرطقة. وبقى هناك 42 يوماً، وخرج بعد الاعتراف ببراءته، ولكنه "مُنِعَ كما مُنِعَ باقي رفاقه من الحديث عن أمور الإيمان، مدة أربع سنوات، ريثما يزداد علمهم" (62).
    وذهب مع رفاقه لاستكمال الدراسة في سلمنكة، وهناك اتهم ثانية بالهرطقة واقتيد أمام القضاء، ومكث في السجن لحين استجوابه. ولكنه كانت تأتيه الكثير من الزيارات حتى في سجنه وكان يتكلم كثيراً عن الأمور الروحية. وعندما سُئل عن حالته في السجن وعما إذا كان يشق عليه أن يكون سجيناً، أجاب السائح: "أما أنا فأقول لك أنه ليس في مدينة سلمنكة سلاسل وقضبان إلا وأنا مشتاق أن أتحمل أكثر منها حباً لله" (69). فما يحركه هو الشيء نفسه: "محبة الله ومساعدة النفوس". وفي سلمنكة، لم يحكم عليه بشيء "فلم يجدوا في حياته أو تعليمه أي ضلال"، وخرج إغناطيوس ورفاقه أحراراً.

باريس:

    وأبان سجنه في سلمنكة، لم يفقد "رغبته في إفادة النفوس ولا في البدء بالدرس في سبيل ذلك، ولا في جمع رجال لهم الهدف عينه ولا في حفظ الرفاق الذين كانوا معه" (71). "وذهب إلى باريس وحده سيراً على الأقدام" (73)، وأمضى هناك 8 سنوات في الدراسة ووجد هناك الرفاق الأوائل الذين سيؤسسون الرهبانية.
    ولم تكن هذه السنوات بلا متاعب، فقد زخرت بالمعاكسات، وبالمشاكل المالية والصحية، وبالمتاعب في الدراسة... ومع ذلك لم يفقد إغناطيوس حماسه، وكان يعطي الرياضات الروحية لرفاقه، وشيئاً فشيئاً أصبحت لهم الرغبة نفسها في "تمجيد الله ومساعدة النفوس".
    "وبعدما أتم دراسة الآداب ودروس اللاهوت لعدة سنوات واكتسب بعض الرفاق... كانوا كلهم على بيئة مما يترتب عليهم القيام به: أي الذهاب إلى البندقية وأورشليم وبذل الحياة في سبيل خير النفوس، وفي حالة عدم حصولهم على السماح بالبقاء في أورشليم، يرجعون إلى روما ليقدموا أنفسهم إلى نائب المسيح لكي يستخدمهم حيث يرى أن ذلك يؤول بالأكثر لمجد الله وخير النفوس" (85 – 84).
    ولكن قبل تنفيذ هذا القرار اضطر إغناطيوس إلى العودة إلى إسبانيا ليرتاح لأن صحته تدهورت. و"انتهز الفرصة ليرتب بعض أمور رفاقه في إسبانيا ليتمكنوا هم من السفر". وحتى هذه الرحلة القصيرة لإسبانيا كانت فرصة لمساعدة النفوس لا بالتعليم المسيحي أو التبشير فقط، بل بالتشجيع على إصدار بعض القوانين للإصلاحات الاجتماعية التي تحقق عدالة أكبر.

إيطاليا:

    ومن إسبانيا سافر إلى جنوة في إيطاليا ومنها إلى بولونيا حيث وقع ثانية فريسة للمرض. وبعد شفائه واصل سفره إلى البندقية حيث كان من المفروض أن يلتقي برفاقه ويبحرون معاً إلى أورشليم. كل هذه الأسفار أتمها سائحاً متسولاً واضعاً نفسه بثقة بين يدي الله. وعند وصوله إلى البندقية، احتمل السائح اضطهاداً آخر، وأقيمت عليه دعوى ولكن جاءت النتيجة في النهاية لصالحه. وفي الرابع والعشرين من شهر يونيو 1537، سيمَ إغناطيوس ورفاقه كهنة. وأثناء انتظارهم لسفينة تنقلهم للأراضي المقدسة، تفرقوا في عدة مدن إيطالية لمساعدة النفوس. "ولما مضت سنة واتضح أن السفر مستحيل، قرروا أن يذهبوا إلى روما ... منقسمين إلى ثلاث أو أربع فرق" (96).

روما:

    وذهب السائح مع فافر ولاينز (وهما اثنان من رفاقه) على طريق روما. "وكان يصلي كثيراً إلى سيدتنا مريم، بعد رسامته كاهناً، أن ترضى وتجعله مع ابنها. وكان ذات يوم يتأمل في كنيسة على بعد بضعة اميال عن روما، فشعر بتغير بالغ في نفسه ورأى بوضوح أن الله الآب وضعه مع المسيح ابنه" (96). وفي نفس الوقت، كان يحس بأنه سيواجه الكثير من المضايقات في روما.
    وأثناء إقامته في روما، كان يعني أيضاً بمساعدة النفوس وخصوصاً بإعطاء الرياضات الروحية، ولكن الاضطهادات لم تتأخر!! ولكنه في آخر الأمر استطاع أن يصل إلى البابا الذي أعلن براءته، وقرر مع رفاقه أن يكونوا الرهبانية اليسوعية، وأن يقدموا أنفسهم إلى البابا ليرسلهم حيث الاحتياج الأكثر لمجد الله الأعظم والمساعدة الأكبر للنفوس.

تعليق:

    في شبابه لم يحلم إغناطيوس إلا بأوسمة الشرف والغزوات النسائية. ولكن الله كان ينتظره في موقعة بامبلونا. فعندما يدخل الله حياة إنسان فإنه يأتي دون انتظار ويقلب حياته رأساً على عقب، فلقاء المسيح دائماً نداء لمتابعته، والمضي على الطريق، في سياحة. فنداؤه دائماً: "تعال وانظر".
    ومنذ اهتداء إغناطيوس، كانت رغبته هي التأمل في حياة المسيح وتمجيد الله ومساعدة النفوس. ولكن الوسيلة الخاصة بإغناطيوس – والتي كان يعده لها الله لتحقيق هذه الرغبة – لم تتضح إلا بعد سبعة عشرة عاماً، سبعة عشرة عاماً من الرحلات، ومن المحاولات والفشل، ولكن أيضاً من التعزيات والنور. وخلال كل هذا كان الله يكشف له عن إرادته.
    وكما حدث مع إبراهيم، طلب الله من إغناطيوس أن "يذهب" دون أن يحدد له وجهته. وعلى مر الطريق، اكتشف إبراهيم وإغناطيوس أين يقودهما الله. وكان ما يدفع إغناطيوس إلى المضي في سياحته، وإلى البحث عن إرادة الله رغم كل العقبات، هو أنه كان يضع دائماً هدفه نصب عينيه: "مجد الله ومساعدة النفوس".

للتأمل الشخصي:

    1) إن كل حياة روحية هي سياحة أو حج، وكما يقول القديس بطرس فكلنا سائحون، ما المراحل التي أشعر بأن الله قادني فيها حتى الآن؟
    2) ما الصعوبات أو الحواجز التي قابلتها على طرق حياتي؟
    3) ما المكانة الذي أعطيها فعلياً لإرادة الله في حياتي ؟
    4) بالنسبة لإغناطيوس لم يكن يفرق بين مجد الله ومساعدة الآخرين. فماذا تعني مساعدة الآخرين بالنسبة لي؟ ما الارتباط – في حياتي أنا – بين علاقتي مع الله ومساعدة الآخرين ؟