حركات النفس... أهي من الله أم من البشر؟

flowers

بقلم الأب أوليفر بُرج – أوليفييه اليسوعي

دائماً ما نميل إلى وضع ما يأتي من الله وما يأتي من الطبيعة البشرية في موضع تعارض ومواجهة. وهذا ثمرة تكوين ديني وروحي معين. وننسى أن طبيعتنا البشرية أعظم وأجمل ما وهبنا الله. فهل تتعارض فعلاً الرغبات البشرية مع ما يحركنا نحوه الله؟ أم بالأصح تتوافق الرغبات العميقة المتأصلة في الإنسان مع رغبات الله ؟ هذا ما سنحاول استجلاءه في هذا المقال.

التمييز والاختيار وارتباطهما بالعلاقة مع الله

إن التمييز يعني البحث عن الفروق ومن ثم الاختيار واتخاذ القرارات. واختياراتنا هي استجابتنا ما تقدمه الحياة لنا، وهي تعطي شكلاً لحياتنا ويعكس هذا الشكل نوعية الخيارات التي اتخذناها. وتتفاوت هذه الاختيارات في مدى جديتها، ومن البديهي أن يكون لبعضها ثقل أكبر من الأخرى. وأهم هذه الاختيارات هي تلك التي تعني لنا الكثير لأنها تمثل فعلاً اللحظات الحاسمة في حياتنا، تلك اللحظات التي تضفي على حياتنا شكلاً جديداً وتوجهها اتجاهاً جديداً.

ومن البديهي أننا نحتاج إلى التمييز في مثل هذه اللحظات لكن التمييز لا يقتصر على هذه اللحظات. فالتمييز المسيحي يعني أن نحيا، بحيث يصبغ جميع قراراتنا واختياراتنا ويحكمها كوننا أولاداً لله الآب وإخوة ليسوع المسيح وفي شركة مع الروح القدس.

ولكي نقوم بتمييز حقيقي، يلزمنا علاقة حية يومية مع الله، إذ لا نستطيع التمييز بمجرد اتباع سلسلة من القواعد بدون أساس، والأساس هو العلاقة الشخصية مع الله. صحيح أن التمييز المسيحي يتبع منهاجاً محدداً، وخاصة عندما يتعلق الأمر بقرارات هامة. ولكن هذا المنهاج لن يثمر إلا إذا استند على حياة منفتحة وعلى تأثرات الروح ونداءات الإنجيل وحساسة لها.

التمييز والخبرات الوجدانية

إن التمييز يقوم على عملية تفكير مزدوجة: أولاً تفكير في استجاباتنا الوجدانية لله والعالم، وثانياً تفكير في ما للاختبارات المطروحة وما عليها حينما نقوم بالاختيار. ويشمل المجال الوجداني أحاسيسنا ورغباتنا وإرادتنا.

وفي مواجهة ظروف الحياة العادية أو أمام قرار مصيري، قد نشعر بمجموعة متباينة من الأحاسيس والأمزجة والميول والرغبات المختلفة بل والمتناقضة في بعض الأحيان، وهي ترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بالله.

فالسلام أو الفرح أو الحزن أو القلق أو الثقة أو الخوف أو الحقد أو الغيرة أو النشاط والحماسة أو الخمول والكسل ليست إلا بعض ردود الأفعال التي يمكن أن نكتشفها في أنفسنا. ويساعدنا التمييز على أن نفهم بشكل أفضل معنى هذه الأحاسيس. ومن أجل ذلك يجب أن نعي الأحاسيس التي تنتابنا وأن نجيب على السؤال التالي: ما هي أحاسيسي أمام هذا القرار؟ ويجب أن ننتبه بصفة خاصة إلى الأحاسيس التي تنتابنا في الصلاة لأنها إطار يجعلنا أكثر حساسية لعمل الروح ويتيح لأحاسيسنا الأصدق والأعمق أن تظهر.

الرغبات

إن كان علينا أن ننتبه إلى أحاسيسنا، فيجب أن نضفي لرغباتنا أيضاً أهمية خاصة. فالرغبات هي الميول الوجدانية التي تدفعنا نحو "أمر" ما أو تنفّرنا منه، وينطبق هذا على جميع الأشياء غير الشخصية أو الأشخاص. والرغبة هي الرد الوجداني الذي تولده فينا هذه الأشياء، ورغباتنا إما أن تدفعنا إلى الاستمتاع بهذا الأمر وامتلاكه أو تدفعنا إلى رفضه.

وكثيراً ما نتحدث عن رغبات جسدية ورغبات عاطفية ورغبات روحية، ولكن يجب ألا ننسى أن الذي يرغب هو شخص واحد وأن هذا الشخص لا يتجزأ. فرغبات الروح تعبر عنها أحاسيسنا وعواطفنا وأجسادنا. مما يعني أن الرغبات الروحية لا تنعزل عن بقية حياتنا، فكل حياتنا روحية والله يملأ كل أبعادها سواء أدركنا ذلك أم لا. وإن كانت العلاقة الدائمة والحوار مع الله يمثلان الإطار الذي نعيش فيه حياتنا اليومية، فجميع الرغبات التي نشعر بها يمسها الروح، وتصبح كلها موضوع تمييز. ويصبح التمييز ممكناً فقط لأن جميع أبعاد حياتنا مرتبطة ببعضها وتتعلق الواحدة بالأخرى لأن الله موجود في كل منها.

ونكتشف عند التفكير في خبرة حياتنا أن رغباتنا تتفاوت كثيراً في شهدتها وفي قوتها، تتراوح من الرغبات العارضة الخفيفة إلى أكثر أهوائنا وميولنا عنفاً وقوة والتي تسيطر علينا وتتحكم في جميع أفكارنا وأقوالنا وأعمالنا. نكتشف أيضاً أن هذه الرغبات وتتفاوت في مدتها.

ومن كثر الخيرات شيوعاً هو إحساسنا بأننا منجذبين إلى اتجاهات متعارضة بواسطة رغباتنا وميولنا. ولا تتلاحق هذه الرغبات والأمزجة المتناقضة وغير المتوافقة في تتابع سريع فحسب، بل أحياناً تأتي معاً في آن واحد. والتمييز معناه فحص جاد لأهوائنا ورغباتنا لكي تتشكل حياتنا بواسطة أفضلها.

الرغبات العظمى

إن فكرنا من جهة نظر مسيحية في الرغبات التي يمكن أن تحث اختياراتنا وتكّونها وبالتالي تكّون حياتنا، لاكتشفنا إنها تتباين كثيراً في نوعيتها. فمن ناحية تراودنا رغبات في المكافأة الفورية في مسائل غالباً ما تكون حقيرة ومحدودة، ومن ناحية أخرى تراودنا ما يسميه إغناطيوس "الرغبات الكبرى" مثل الرغبة في أن نكون مع المسيح وأن نشارك في إعلان الخبر السار في العالم أجمع، وبين النوعين الكثير من الرغبات المختلفة بل والمتناقضة غالباً.

يساعدنا التمييز أولاً على أن نعي هذه الرغبات المختلفة التي نختبرها وأن نقبلها وهو ما ليس سهلاً دائماً، ثم يساعدنا ثانية على أن نكتشف كيف تختلف في نوعيتها اختلافاً عميقاً إذا نظرنا إليها من وجهة نظر المسيحية وهذا يساعدنا بالتبعية على الاختبارات التي تسمح لحياتنا بأن تشكلها رغباتنا العظمى أكثر من غيرها من الرغبات.

إن هذه الرغبات جزء من طبيعتنا البشرية، مثلها مثل أحاسيسنا ويساعدنا التمييز على أن نعيها ويساعدنا على أن نخطو خطوة إضافية، ونكتشف كيف أنه من خلال هذه الرغبات والأحاسيس يرشدنا الله إلى تحقيق "رغبته العظمى" الخاصة بنا أي مشيئته ويجب علينا بدلاً من أن نتساءل إن كانت هذه الرغبات من الله أو منا، أن نتساءل كيف يمكن لله أن يقودنا ليترجم أفضل هذه الرغبات إلى اختيارات وأفعال وأسلوب حياة ؟

الرغبات والهَويِة

إن أهمية تمييز الرغبات تنبع من العلاقة الوثيقة التي بينها وبين الهوية الشخصية وإن أردنا معرفة من هو الآخر فمن المفيد أن نعرف قصته، ولكن يلزمنا أيضاً أن نفهم رغباته العميقة التي يعبرّ عنها بكلماته وبأعماله، فإن ما يرغبه شخص رغبة حقيقية في صميم كيانه، يكشف لنا عن مَن هو هذا الشخص في أعمق أعماق شخصيته.

وقد ذكرنا أن التمييز هو أن نعي رغباتنا وأن نفكر فيها في إطار من الصلاة والعلاقة الحية مع الله. وهذا اللقاء مع الله في الصلاة أو في أي وقت آخر، يولد فينا رغبات قد تتعارض مع الله، وقد تكون رغبة في مشاركة كل شيء مع الآخرين حباً في المسيح. وتتخفى أعمق الرغبات وأفضلها خلف احتياجات وميول أكثر سطحية وظهوراً. وفي مثل هذه الأحوال يحتاج الأمر إلى المزيد من الوقت والإرشاد الروحي وأحياناً إلى الظروف المناسبة لاكتشاف ما هي الرغبات الأصيلة. ولكن مسيرة التفكير هذه تعلمنا شيئاً فشيئاً كيف نفصل بين الرغبات الصادقة والرغبات الزائفة.

وإذ إن العلاقة وثيقة بين الرغبات والهوية، فإن التمييز يأتي بنتيجتين هامتين: أولاً إن كشفت لنا رغباتنا مَن نكون – بظلالنا وجوانبنا المضيئة – فإن التفكير يكون قد ساعدنا على معرفة "ذاتنا" الحقيقية، فهو يساعدنا على أن نرى ما تحت القناع الذي نرتديه، وعلى أن نكتشف مَن نحن حقاً.

وثانياً يساعدنا التمييز على أن نصبح ما يريد الله أن نكونه. فإن أفضل رغباتنا، و"أعظمها"، تلك التي لا تتجه نحونا بل نحو ملكوت الله، تعكس رغبة الله نفسها من أجل العالم ومن أجل كل شخص في العالم. وهكذا تضعنا رغباتنا الكبرى في توافق مع رغبات الله، ونختبر ما رغب الله في أن نكون عليه.
وفي التمييز علينا أن نتأكد من أن أفضل رغباتنا لا تظل غير محققة، بل أن تترجم إلى اختبارات، بحيث يصبح ما نقوله وما نعمله تعبيراً حياً عن أفضل رغباتنا. وإذ أن رغباتنا الكبرى هي رغبات الله ذاتها ندخل في مسيرة أن نصبح ما يرغب الله أن نكون عليه، ولا يكتشف لنا التمييز من نكون فحسب بل يجعلنا قادرين أن نرى ونصبح ما يريد الله في العمق أن نكونه.

تمييز الرغبات

الرغبات جزء من حياتنا، وحياتنا هبة من الله. وقد خلق الله كل منا كمخلوقات لها رغبات وتعطشات، تهبنا الطاقة والحماس لنقوم باختياراتنا ونشرع في أعمالنا. وبعض تلك الرغبات تتوافق مع رغبة الله من أجلنا وبعضها الآخر ليس كذلك. وترتكز كل عملية تمييز على الاقتناع بأن الله قد شاء أن نكون قادرين على أن نختار الرغبات التي سنسمح لها بأن تشكل حياتنا وتوجهها ولن نسمح بذلكلرغبات أخرى. إن اقتناعنا هذا يعني أيضاً أن الله لا يريد أن تتجاذبنا رغبات متناقضة يميناً ويساراً.

ومن البديهي أن بعض الظروف تحبذ أفضل الرغبات أكثر من غيرها من الظروف. فالصلاة والتأمل والعبادة إطارات تحفز "أعظم" رغباتنا وأعمقها، ولكن كل حدث أو سلسلة من الظروف لها القدرة أيضاً في الحقيقة على أن تشحذ رغباتنا العميقة، بما أن الله موجود في جميع الظروف.

وليس فحص الرغبات أسلوباً لل"تأمل الباطني". وليس المقصود البحث في داخلنا لاكتشاف الدوافع الممكنة لأعمالنا السابقة أو الحالية، بل ينصب الاهتمام كله على الرغبات التي تراودنا، وحالات الروح التي تولدها فينا، والاتجاه الذي تدفعنا إليه. وتمييز الرغبات واكتشاف أي منها في توافق مع الله، يمكننا أن نتصرف بطريقة مناسبة.

والهدف من تمييز الرغبات أن يسمح لنا بالتفريق بين الأصيل والزائف، وبين الرغبات المتوافقة مع رغبات الله وتلك التي لا توافق معها، وهدف هذا التفكير معرفة الفرق بين الاختيارات الحرة من ناحية، تلك التي ترتكز على احتياجات أو أهواء لا واعية والتي تسيطر علينا وتحد حريتنا الفعلية من ناحية أخرى.

وإذ نتعلم تمييز الرغبات الأصلية التي من طبيعتنا الحقيقية،
وبالتالي من الله الذي أعطانا تلك الطبيعة،
يمكن أن نبني اختياراتنا وأعمالنا على ذلك الرغبات.