هل لنا الحق في السعادة؟!

Happy as a child

بقلم الأب جاك ماسون

 

"إن السعادة إحساس دنيوي.. بل أكاد أقول "وثنيًا". فلكي تصبح سعيدًا يجب أن تنسي الآخرين. لذلك لا يمكن أن تكون مسيحيًا وسعيدًا في الوقت نفسه. فالسعادة تفتح للجسد، لكل الكيان. السعادة هي أن تتنفس بحرية. أما المسيحية فهي إنكار الذات وحمل الصليب والسير على طريق التوبة. فالمسيحية هي أن تحارب جسدك وشهواته. لهذا، يا أخي، لا حق لك في السعادة باسم مسيحتيك!"

تلك هي – باختصار- الفكرة التي أود نقضها رغم أني أعرف تمامًا مدى رسوخها فينا. بل أشعر أن كل تقاليدنا النسكية تساند هذه الفكرة، وأن المدافعين عن هذه التقاليد سيتمنون إخراجي من جماعة المؤمنين، وإلقائي في الجحيم حيث سيختنق صوتي، لأنني أجرؤ على الحديث عن إمكانية وجود قداسة سعيدة.

لذلك يكره الشباب الدين، فهم يقولون انه حرّم عليهم المرح والضحك والرقص، ويمنعهم من الحياة. يقولون أيضًا: "يجب ألا نقترب كثيرًا من الدين ما دمنا شبابًا، بل أن نمرح، وعندما نصل إلى سن الكهولة، سيكون هناك متسع من الوقت للاقتراب من الله. فسيكون وقت المرح قد فات".
    هكذا يرون أن الحياة والدين لا يلتقيان.

ولكن ألم يخلق الله الانسان للسعادة والحياة؟ ألم يضعه في أروع جنة؟ ألم يخلق للرجل المرأة، جسدًا من جسده وعظامًا من عظامه، لأنه "لم يجد حسنًا أن يكون الرجل وحده"؟
    أفلم يقل يسوع من جهته: "أتيت لتكون لهم حياة ولتكون لهم أفضل." (يو 10: 10)، وكذلك "كلمتكم بهذا لكي يثبت فرحي فيكم ويكمل فرحكم" (يو 15: 11)، وأيضا: "ولا ينزع أحد فرحكم منكم" (يو 16: 22)؟

أقول لإلهي كل يوم في القداس: "أرتجي السعادة التي تعدنا بها". فهل أنتظرها فيما بعد موتي؟ ألم تبدأ الحياة الأبدية على الأرض (راجع يوحنا 5: 24)؟ وهل يمكنني أن أكون سعيدًا وأنا أمنع نفسي من الفرح ومن الضحك؟

أظن أن الضحك والصحة والفرح من علامات الحياة، وأن الله قد خلقنا للحياة.
أظن أن الحزن والمرض والدموع هي من علامات الموت، وأن الله لا يحب الموت.
 فرسالتنا هي للحياة: لنشفي ونقيم ونساند الآخرين، فلا نبكي مع الباكين بل نعزيهم ونقف بجانبهم حتى يبتسموا ابتسامة الشفاء.

 من أين يأتي إذن، عند بعض المسيحيين، هذا التقليد القديم في الإماتة والتقشف والتكفير عن الخطايا والخوف من الانفتاح على السعادة؟ من أين تأتي تلك التعاليم التي تُبكِّت ضميرنا إذا ما أخطأنا وضحكنا أكثر من اللازم أو لعبنا ومرحنا مرحًا بريئًا في سهرة مع أصدقائنا؟

إن المدافعين عن هذه الروحانية – التي تمت بصلة الى الفلسفة الرواقية (*) أكثر منها الى المسيحية – سيدَّعون أنهم ينهلون من المنبع نفسه الذي أدعي أنني أجد فيه دعوة الى الحياة والفرح، ألا وهو الإنجيل.

" من أراد أن يتبعني، فليزهد في نفسه ويحمل صليبه ويتبعني" (مر 8: 34). وكذلك " من آتى الي ولا يفضلني على أبيه وأمه وامرأته وأولاده واخوته وأخواته، بل عن نفسه أيضًا، لا يقدر أن يكون لي تلميذًا." (لو 14: 26). أليس التخلي عن كل شيء شرط أساسي للسير وراء المسيح؟ ألم تعلن التطويبات "طوباكم أيها الباكون"، وأيضا "ويل لكم أيها الضاحكون الآن"؟ (لو 6: 21 و6: 25).

هذا كان رأي المدافعين عن هذه الروحانية، ولكني أختلف معهم: فالتطويبات تتحدث عن السعادة، وألا نفهم أيضا أن الكلام الذي يدعي تواجد الدموع والفرح، الضحك والتعاسة، هو كلام متناقض؟ إنه كلام متناقض لأنه يطلب إلينا أن نختار الفقر من جهة، ويوصينا بإعطاء كل ما نملك للفقراء من جهة أخرى! بل يُصر على حمل الصليب من ناحية، ويؤكد على عطية الحياة والحياة الفضلى من ناحية أخرى!

كلام متناقض! كيف يكون هذا؟ إن التناقض هو وسيلة للتعبير عن رأي يسير عكس تيار الرأي العام السائد. ولكن التناقض يخفي في طيّاته واقعًا حقيقيًا. وأما إذا فهمنا التناقض فهمًا حرفيًا دون البحث عن معناه العميق الخفي، فسيؤدي بنا ذلك إلى فهم أعتبره خاطئًا تدافع عنه الروحانية التي أتصدى لها.

أما "التناقضات" التي تعبر عنها التطويبات وآيات حمل الصليب، تخفي بالفعل المنطق الداخلي للحب. فشريعة المحبة هي وصية يسوع الجديدة. إن شريعة المحبّة تحوي في داخلها كل الشريعة، وتلخص كل الشرائع.

تتطلب المحبة إنكار الذات بهدف ترك المكان الأول للآخر بصفة مستديمة، تتطلب نسيان الذات أيضًا لأننا نفكر في الآخر. ترفض المحبة الامتلاك كي لا تنزع ملكية الآخر، فهي لا ترغب الا أن تكون تقدمة ومشاركة. تطلب المحبّة الأنانيّة التي ترجع كل الأشياء الى ذاتها، إنها تصلبها لتذهب الى الآخر. تتألم المحبة لآلام الآخرين وترفض أن تسخر من ضعفاتهم.

ويعود شيطان الحون ليهمس في أذني:
    " ولكن كيف تستطيع أن تشعر بالسعادة بينما يتألم الناس بجوارك، ويجوعون ويضطهدون ويشعرون بالإحباط والعجز؟ كيف تسعد بيد أن حولك مرضى، ومن هم بلا مأوى، ومن يحتضرون دون أحد بجانبهم؟

إنه على حق ولكنها ليست كل الحقيقة، فعظته أعرفها جيدًا: كم هي جميلة جدًا، ومؤثرة جدًا، بل وصادقة جدًا.. ولكن كيف لا أفرح أمام انتصار الحياة على الموت؟ كيف لا أفرح أمام طفل بين ذراعي أمه، وأمام حب شاب وشابة؟ كيف لا أفرح أمام ألعاب الأطفال، أمام العمل الذي يستحق افتخار من قام به، أمام التعب الذي يستحق أجرته، أمام الفراشة التي تجمع رحيق الزهرة؟

لماذا تشع الراهبات الممرضات السعادة، رغم أنهن لم يدرسن الفلسفة لأن المرضى لا يتركون لهن فرصة لذلك، بنفس القدر الذي تشع به الراهبات اللاتي في حقل التدريس؟ مع أن هؤلاء تعشن وسط أطفال ينبضون بالحياة، ويصخبون بالضحكات لسبب ما أو بدون سبب. أظن أن سبب هذه السعادة، ليس المرضى أو الأطفال، بل هو تقدمة الحب بصورة ملموسة وبعطاء لا حدود له.
    فالحب هو منبع الحياة، تلك الحياة الفضلى التي تحدث عنها يسوع. الحب هو منبع السعادة.

إن السعادة لا تغتصب، كما أن حبّ الآخرين لنا لا يمكن اغتصابه منهم. الحبّ نعمة لا نستحقها، وكذلك السعادة، فهي فرحة نستقبلها ما دمنا لا نبحث عنها. يمكننا أن نقرر أن نحب ولكن لا يمكننا أن نقرر أن يحبّنا الآخرون. يمكن أن نقرر أن نعيش لنعطي الحياة للآخر، ولكن لا يمكن أن نقرر أن نشعر بالسعادة وحدنا، أو حتى أن نعطي السعادة لأنفسنا. إن الأنانية لا تجلب السعادة، كل ما يمكن للأنانية ان تفعله هو أن تضاعف من رغبتنا في السعادة دونما أي أمل في تحقيق تلك الرغبة. ولكن من يزهد في نفسه إنما يحمل همّ سعادة من حوله، فتنبت فيه السعادة كالزهرة في الربيع، ويكون هو مستعد لاستقبالها. ولماذا يرفضها إذا كانت هدية؟ فالهدية لا تُرفض.

أعطانا أبونا السماويّ حديقة غنّاء، وقال لنا: "كل هذا أعطيه لك". فلماذا أخرج من الحديقة لأذهب وأعيش في الصحراء؟ سأذهب بالقطع إذا ما أخذني من يدي وقال لي: "سآخذك الى الصحراء، وهناك سأتحدث الى قلبك، وسنكون كمثل خطيبين". سأذهب الى الصحراء بدافع من الحب لا للقيام بمآثر في التقشف.

نحن لا نختار صليبنا، كما أن يسوع لم يختر الصليب، بل إن الانسان هو الذي اختار الصليب ليسوع وفرضه عليه. ولا يختار الله الصليب لأي انسان، لأن الله لا يريد الشر ولا الألم، انه يخلصنا منهما: فالصليب هو دائما ثمرة الخطيئة.

وعندما يقول يسوع: "من أراد أن يتبعني فليزهد في نفسه ويحمل صليبه ويتبعني"، فانه يعني أننا لا نستطيع أن نكون تلاميذه الحقيقيين الا إذا اقتدينا به، أي أننا غامرنا بحياتنا من أجل قضية يسوع والانجيل (مر 38: 5).

قال يسوع أيضا: "سيسلمونكم الى مجالس وفي مجامعهم يجلدونكم" (متى 10: 17). ولم يطلب إلينا يسوع أن نضطهد أنفسنا، وإنما وعدنا باضطهادات... من الآخرين. ولم يفرض يسوع على تلاميذه لا صومًا ولا كفارة، إنما أوصاهم بأن يحبوا بعضهم بعضًا كما أحبهم هو.

كان لرجل ولدان يحبهما حبًا شديدًا. إلى كل منهما قدَّم هدية: دراجة رائعة. أخذ الابن الأكبر الدراجة ووضعها بعناية في الدولاب، ولم يلمسها قائلا: "سأحرم نفسي من دراجتي لأنني أحب أبي". وأما الثاني، فركب دراجته وبدأ يلعب ويمرح كالمجنون، سعيدًا بهدية أبيه. تُرى أيهما سيُسعد أباه أكثر؟

لا..لا أرغب لا في ديانتكم السوداء الحزينة، ولا في خوفكم من الحياة. أريد أن أحب الحياة بعمق، كهدية رائعة تلقيتها من أبي. أريد ديانة ترنّم ترنيم فرح الخلاص. أريد أن أكون طفلاً سعيدًا بحبّ أبيه.

* "الرواقية" فلسفة أسسها الفيلسوف اليوناني القديم "زيتون"، تعتمد على العقل ولا تعير اهمية للأحاسيس والمشاعر والألم والمال.. وهي مرادفة للصرامة والتقشف. (ملاحظة للمترجم)