معجزات بالملايين.

miracle

بقلم الأب جاك ماسون

 

طبقًا لقوانين الكنيسة الكاثوليكية، لا يمكن أن يُعلَن شخصًا ما قديسًا طالما لم يقم بمعجزتين على الأقل، معجزتان مُعترف بهما رسميًا، هذا بالطبع علاوة على عمق فضائله والخضوع الكامل لقانون الكنيسة.

وسأتوقف في هذا المقال عند ظاهرة "المعجزة".

وآخذ مثلاً: كان الطوباويّ كلود دي لاكولومبيير – وهو يسوعيّ من القرن السابع عشر – معروفًا بفضائله وكان الأب الروحيّ للقديسة مارجريت ماري الاكوك، ومعها، كان مؤسسًا للتنسك لقلب يسوع المقدس، ولكنه لا يقوم بمعجزات. ولم يُعلَن قديسًا، ويقولون إن اليسوعيين لا يصنعون معجزات.

على النقيض، تأخرت الكنيسة كثيرًا في إعلان الراهب الماروني شاربل قديسًا لأنه كان يصنع الكثير من المعجزات! وكان هذا يعطي انطباعًا أن قداسته ما هي إلا نتيجة لسذاجة شعبه، أو كأنها رواية محبوكة. وكان يجب إدماج شك وريبة أحد اليسوعيين وكذلك معجزة واضحة كان ذلك اليسوعي شاهدًا لها حتى ترضخ روما ورغمًا عن المعجزات تُعلن شاربل قديسًا.

وهكذا ف"الأقل من اللازم" و "الأكثر من اللازم" يتلاقيان أمام الكنيسة، وكل منهما مثير للشك.

هل تتأثر المعجزة نفسها بنوعية من شاهدها بسرعة تصديقه أو على العكس شكه وريبته؟ بعض الوقائع قد تحمل على أن نفكر كذلك، فأثناء زيارة قمت بها لمدينة لورد (Lourdes) الفرنسية، كان بعض الفرنسيين من أهل الشمال يعودون بالقطار بعد 5 ايام قضوها في لورد... أناس باردون... ذوي تقوى قوية ولكنها هادئة، قضوا حجًا ورعاً وكانوا يحكون عن معجزتين... وحدثت معجزة ثالثة عند وصولهم للمحطة!

هذا الحج الهادئ شوّش عليه حج آخر لإيطاليين من الجنوب، أناس صاخبون... حارون... ذوي تقوى مفرطة في حيويتها... قضوا يومين في لورد وعادوا ب 48 معجزة. واحدة كل ساعة! هل هو تشكك الأولين أو سذاجة المجموعة الثانية؟

ألا يؤيد الإنجيل هذه الفرضية؟ ففي الناصرة، "لم يقدر أن يصنع ولا قوة واحدة غير أنه وضع يديه على مرضى قليلين فشفاهم" (مرقس 6 :5) / وهو نفس الشخص الذي في كفرناحوم "قد شفاهم كلهم" (متى 8: 16)

 هل تعمل المعجزة بنفس طريقة الطاقات الباراسيكولوجية او القدرات النفسية الخارقة؟

عندما كان والدي طفلاً صغيرًا، كانت جدتي تمضي وقتها يوم الأحد في جعل منضدة صغيرة في حجرة الجلوس تدور، كانت تفعل ذلك مع أولادها الثلاثة لتسليهم، فلم تكن السينما أو التليفزيون قد ظهرا بعد! وكانت المنضدة تدور وترقص جيدًا حتى ذلك اليوم الذي مرّ فيه الجد في حجرة الجلوس وقال: "ألن تتركوا هذه المنضدة؟ فسيأتي أجَلها على أيديكم!" انتهي! لم يستطع أحد أن يحرك المنضدة بعد الآن، فاعتراض الجد أصبح حاجزًا أمام القوة النفسية للأولاد وأمهم.

 هل هذا هو ما حدث في الناصرة؟ هل وقف عدم إيمان الناس حائلاً أمام المسيح ليقوم بمعجزاته.

 أنا يسوعيّ وأتحفظ من المعجزات، وأظن أنني أيضا حفيد لجدي! وأكن إعجابًا عميقًا لقداسة البابا كيرلس السادس ولا يفوتني أن أذهب لأصلي عند قبره، عندما أمرّ بدير مار مينا. ولكن الأحد عشر كتابًا لمعجزاته الملحقة بكتاب سيرته الوحيد لا تريحني. وأجد نفسي محمولاً على ألا أرى في ذلك إلا سذاجة هذا الشعب البسيط الذي لا يملك أي روح نقدية والذي أعجب جدًا في نفس الوقت بتقواه وإيمانه.

من أين يأتي هذا العطش للخوارق، للعجيب؟

فيسوع يتنهد قائلاً: "لماذا هذا الجيل آية؟" (مر 8: 12) ويلاحظ القديس بولس " اليهود يطلبون معجزات" (1كو 6: 22) . ولكن ليس للآية والمعجزة نفس القيمة. فالآية للتعليم. بينما المعجزة هي إعلان عن قدرة الله. الآية تحمل في داخلها رسالتها – فعرس قانا الجليل هو إعلان للإفخارستيا – أما المعجزة فتؤكد ولكنها لا تعلن شيئا بنفسها "إذا لم تؤمنوا لأجل ما أقول، فآمنوا على الأقل لأجل الأعمال".

ولكن كل هذه المعجزات والخوارق التي تشغل مكانًا كبيرًا في الروحانية الشعبية لا تحمل معها أي رسالة. فالناس لا يبحثون عن رسالة وإنما عن العجيب والمدهش والخارق.. بل يخلقونه في بعض الأحيان!

في ذلك المنشور الذي وزع في الصعيد في شتاء 1988، والذي كان يتّهم الأمريكيين بإمداد المسيحيين بمسحوق سريّ يلقونه على أحجبة أخوتنا المسلمات في الجامعة. هذا المسحوق عند ملامسته للماء يظهر صلبان على الحجاب. وليس الغريب في ذلك المنشور هو سذاجة المضمون وإنما أن كل الناس قد صدقوه سواء كانوا مسيحيين أم مسلمين.

ولا أجد في هذا أي قيمة دينية. لا يوجد الا الجهل وسذاجة. وأظن أن أي شيء قابل للتصديق طالما هو ديني وعجيب.

وإني لأتساءل إذا لم يكن سبب ذلك النهم للمدهش الخارق هو نقص للإيمان، وكما يلاحظ القديس أوغسطينوس:
    "لماذا تحتاجون الى ما هو غير مألوف في معجزة إشباع الجموع من 5 خبزات لتؤمنوا؟ هل يجب ألا تتكرر الظاهرة إلا مرّة واحدة ليستيقظ إيمانكم؟ بينما معجزة إنبات آلاف من بذور القمح تصبح عادية جدًا في عيونكم الي الدرجة التي تكف عن إثارة دهشتكم، ولا تتمكنون من تمييز عمل الله الأكثر روعة؟"

المعجزة، هي عمل الله... ولكن الله هو الذي يعمل الكل في الكل (1كو 12: 6). ألا يمكن للإيمان الذي يميز المعجزة كعمل الله، أن يميز عمله في الكون كله؟ ما قيمة معجزة إذا لم يتبعها اهتداء؟ فلا فائدة لها إذا لم تؤت بثمرة. لا تتوقف عند غير المألوف، التصق بالله... اقترب منه... إذا كنت تقول إن المعجزة هي عمل الرب، اذهب إذا نحو صانع المعجزة ولا تقف أمام ما لا يمثل الا مظهر من مظاهره. 

ما أنا شاعر به بوضوح عندما أتناول مثل هذا الموضوع هو استحالة إيجاد حجة تقنع من تخاطبه. فكل واحد يتطور في عالم لا علاقة له بالآخر. الأول يصف الثاني بالعقلانية والشك، أما الثاني فيرد متهمًا الأول بإشاعة الجهل والسذاجة وغياب أي حس نقدي. فمن سيفصل بينهما؟ الواقع؟ ولكنهم من خلال هذا الواقع نفسه يتطورون كل على ضفته. فمن ناحية كون يختلط فيه ما هو مقدس بما هو عادي، وفي داخله تلمس مباشرة عمل الله أكثر من الفعل المباشر للإنسان. "ربنا عايز كدة!"، وعلى الضفة الأخرى، عالم تحكمه قوانين السببية العلمية وفيه يغيب الله عن المحسوس، والإيمان وحده يمكن أن يكتشف عمله.
    ثقافتان تخلفان عالمين لا يلتقيان مما جعل الحوار مستحيلا.

خاتمة مزدوجة:

أولاً المعجزة موجودة بالفعل.
والتعريف التقليدي يقدمها على أنها:
"حدث يخرج عن المألوف ولم يتمكن من شاهدوه من تفسيره بأسباب طبيعية وعادية. ولذلك تعزى المعجزة الى عمل الله المباشر الذي يريد من خلاله أن ينقل رسالة أو تعليمًا إلى شهود ذلك الحدث".

والحدث الخارق نفسه يمكن أن يراه الكل، ولكن ليس بالضرورة. فليس كل حجاج لورد شهودًا على معجزات الشفاء التي تحدث هناك. وبعض الظهورات فردية (لورد وميديوجوري – يوغوسلافيا -)، وأخرى جماعية (فاتيما)، وهناك أيضا ظهورات شبه جماعية (كما في الزيتون). ولا يعزى الحدث الخارق إلى الله إلا بالإيمان الشخصي... أما غير المؤمن فسيكتفي بأن يقول: "ياه.. حاجة غريبة!".

ثانيًا، يقلل التقدم العلمي عدد الاحداث التي توصف بمعجزات، لأنه يفسر بعض الظواهر التي كانت في الماضي تندرج تحت بند الخارق والعجيب وغير القابل للتفسير. كما أيقظ التقدم العلمي الروح النقدية التي تتحفظ من خداع الحواس والسراب الظواهر الباراسيكولوجية، وكذلك السحر والإيحاء الذاتي وحتى ظواهر الخداع الجماعي. ويطالب الحس النقدي بتحليلات وتأكيدات للحدث قبل ان يعترف حتى بوجوده. 
وبعد ذلك يقرر ما إذا كان غير قابل للتفسير. فالحس النقدي يخشى الاوهام.

المهم هو ألا نربط المعجزة وجهل الانسان...فذلك لن يخدم الله.

ويظل الله دائما سيد المستحيل.