الروح القدس... هل نلته؟

holy spirit in me

بقلم الأب جاك ماسون

 

" وصل بولس إلى أفسس، بعدما جاز أعالي البلاد، فلقى فيها بعض التلاميذ فقال لهم: "هل نلتم الروح القدس حين آمنتم؟" فقالوا له: "لا، بل لم نسمع أن هناك روح قدس"" (أع 19: 1 – 2).

عندما قرأت هذا المقطع من أعمال الرسل لأول مرة، تساءلت في نفسي: "وأنا، هل نلت الروح القدس؟" – بالطبع، نلته. ألم أعتمد؟ ألم أنل سر التثبيت؟

ولكن الصعوبة تكمن في أنني لم أشعر بأنني قد تغيرت في أي أمر! كيف أعرف أنني نلت الروح القدس؟ هل يمكن أن أختبر هذا الروح في حياتي؟ وظلت أسئلتي بلا إجابة.

" روح الله يرفرف على وجه المياه"

وجدت حينئذ نشيد أخناتون الذي ظهر في ما بعد في مزامير داود، ذلك المزمور 104 المعروف، ووجدت فيه: 

"تسحب أرواحهم فيموتون        وإلى ترابهم يعودون
 ترسل روحك فيخلقون        وتجدد وجه الأرض"
                            (29 – 30)

وبالطبع وجدته مشابهاً لنص سفر التكوين:

"ونفخ في أنف (آدم) نسمة حياة، فصار الإنسان نفساً حية"
                            (تك 2: 7)

وكذلك نص القديس يوحنا:

"ونفخ في (التلاميذ) وقال لهم: "خذوا الروح القدس".

وقلت في نفسي أن اختبار الروح ربما ما هو إلا اختبار الحياة، ويجب ألا نبحث أبعد من ذلك، فحسبي أن أتنفس لأختبر الله. وتذكرت ما كتبه القديس يوحنا في بداية إنجيله: "وفي (الكلمة) كانت الحياة، والحياة نور الناس".

 وهكذا، وإذ كنت أظن أنني لا أختبر روح الله، كنت أعيش في الواقع في داخله منذ أول صرخاتي خارجاً من بطن أمي، عندما دخل الهواء ومعه الحياة إلى رئتاي. عندئذ أيقنت أني لم أنل هبة الروح – نسمة الحياة – عند العماد، بل منذ مولدي! فوقعت ثانية في حيرتي الأولى.

إنها قصة مجانين:

فكرت في يسوع، بعد عماده، عندما حلّ عليه الروح وقاده إلى البرية، وبعدها على طرق فلسطين، هذا الروح الذي جعل أقرباءه يقولون عنه "إنه ضائع الرشد" (مر 3: 21).

وذكرتني تلك الآية بكلام القديس بولس: "إن عد أحد منكم نفسه حكيماً من حكماء هذه الدنيا، فليصر أحمق ليصير حكيمًا، لأن حكمة هذا العالم حماقة عند الله". (1 كو 3: 18)، وكذلك: "إن لغة الصليب حماقة عند الذين في سبيل الهلاك، وأيضاً: "حسن لدى الله أن يخلص المؤمنين بحماقة التبشير" (1 كو 1: 18، 21).

وتذكرت أيضاً أنه حينما امتلأ التلاميذ من الروح يوم العنصرة، قال لهم الناس: "قد امتلأوا من النبيذ" (أع 2: 13). وهناك أيضاً تساؤل القديس بولس: "فلو اجتمعت الجماعة كلها وتكلم جميع من فيها بلغات، فدخل قوم من غير العارفين أو من غير المؤمنين، أفلا يقولون إنكم جننتم؟" (1 كو 14: 23).

وقلت في نفسي حينئذ إن هبة الروح تجعلنا نقوم بأعمال مجنونة، ويمكن بمثل هذه الأعمال المجنونة أن نميز ما بين الإنسان والروح القدس.

ألم يقل يسوع: "الريح تهب حيث تشاء فتسمع صوتها، ولكنك لا تدري من أين تأتي وإلى أين تذهب. تلك حالة كل مولود للروح" (يو 3: 9). أي أن الروح "غير متوقع" و"مفاجئ".

إعطاء كل ما تملك للفقراء، ترك كل شيء لتعيش في البرية، الإيمان بالحب أكثر من القوة، الزهد في الزواج ومباهج الجسد، إنفاق الساعات في الصلاة بدلاً من الجلوس في هدوء أمام التليفزيون، الصوم، نعم!! جميع هذه الحماقات في عين العالم هي حكمة الله – هي هبة الروح!

وابتهج قلبي حينما وصلت إلى كل هذه الأفكار، فقد أحسست في داخلي أن هناك شيئاً من الحقيقة في كل هذا... لقد تقدمت. ولكن، هل أنا مجنون بما يكفي؟
ليس كل جنون من عند الله:

بل أي جنون سيعتريني؟ فليس كل جنون إلهياً. فهناك حماقات وحماقات.

عند قراءتي لحياة آباء البرية من النساك القدامى، وجدت العديد من القصص جنونية تماماً، مثل تلك القصة عن الرهبان الذين كانوا يتجولون عرايا تماماً لإظهار أنهم قد أماتوا كل شهوات الجسد.

وفي أعماقي، كنت أعي جيداً بأن حكمة الله يمكن أن تكون جنوناً في عيون العالم، ولكنني كنت أريد أن أجد في هذا الجنون الإلهي لا شذوذاً للروح بل حكمة علوية، لا عودة إلى الحالة البدائية، بل سُمُواً نحو الله.

شعرت بأنه ليس كل جنون من الله وبأنه ليست كل الأرواح قدوسة.

ألم يُظهر القديس بولس في عرضه لثمار الروح أن جنون الله يجب أن يكون قدوساً قبل كل شيء: "أما ثمر الروح فهو المحبة والفرح والسلام والصبر واللطف وكرم الأخلاق والإيمان والوداعة والعفاف" (غل 5: 22- 23).

ولاحظت أن هذه الثمار ليست كلها "أخلاقية" بحتة. فالسلام والفرح والإيمان ليست فضائل أخلاقية تمارس بل هي حالات "روحية". فالإيمان هو معرفة الله، ثقة به، وهو هبة منه ... لا مبادئ أخلاقية فحسب.

وشعرت بالخطأ والزيف والنقص في نظرة الكثير من المؤمنين – مسلمين ومسيحيين – إلى الدين، عندما يحولون الدين إلى مبادئ أخلاقية وبعض الفروض الطقسية والانتماء إلى مؤسِّس؟ فالدين عندهم هو عمل الخير والابتعاد عن الشر (والمبادئ الأخلاقية متشابهة تقريباً عند كل الناس)، والدين أيضاً هو القيام ببعض الأفعال مغلفة بمظاهر دينية (وبالطبع تختلف العبادات من دين لآخر، ولكنه عادة ما تظل خارج الإنسان ولا تلزم حياته)، وكذلك فالدين هو انتماء إلى محمد أو إلى يسوع (وكأن ذلك الانتماء هو بحث عن هوية ولكنها بعيدة عن شخصية من تنتمي إليه).

وهنا أحسست بأهمية الروح القدس، فهو نسمة الحياة ومسيرة في الليل وجنون إلهي، ولكنه قوة للتمييز. ووقع نظري صدفة على نص للقديس بولس: "فمن من الناس يعرف ما في الإنسان غير روح الإنسان الذي فيه؟ وكذلك ما من أحد يعرف ما في الله غير روح الله. ولم ننل نحن روح العالم، بل نلنا الروح الذي أتي من الله لنعرف ما أنعم الله به علينا من المواهب" (1 كو 2: 11). إنه روح الجنون حقاً، ولكنه الروح الذي يتيح لنا أن نميز بين جنون الله ومبالغات الجسد.

وماذا عن مواهب الروح؟

لم أنل في عمادي ناراً! ولم أتكلم بألسنة! أنا أجهل الناس بالتنبؤ، وبالطبع لم أقم بمعجزات. فأنا أشعر بأنني إنسان "مثل كل الناس".

من ناحية أخرى، لم تطرأ على ذهني قط فكرة "تنمية" الروح في داخلي، فلا يمكن أن أنمي الله في داخلي كما أنمي قوتي العضلية بالتمارين مثلاً، فلا يمكنك أن تمسك بالله، ولا أن تمتلكه! فهو ليس استحقاقاً! بل يعطي الله نفسه مجاناً وبكل سخاء!

ولكن القديس بولس يشجعني: "اطمحوا إلى مواهب الروح، ولا سيما النبوءة" (1 كو 14: 1).

وبينما كنت أتحسر على فقري في مواهب الروح، سمعت في داخلي صوتاً يقول: "ولماذا تريد هذه المواهب؟" ولم أعرف كيف أرد، فقد اكتشفت أنني في أعماقي كنت أريد هذه المواهب لأغني نفسي! ونسيت أن روح الله يعطي كل واحد مواهبه لبنيان جسد الكنيسة، لا لغنى شخصي أو لتفتح ذات من يتلقاها.

وماذا عن الموهبة التي أعطاني الروح! ألا وهي إعطاء المسيح للبشر من خلال سر الإفخارستيا؟ وظللت في حيرة وطلبت الصفح من الله! فالإنسان لا يعرف قيمة ما يملك ولا يرضى أبداً عن نصيبه في الحياة!

الولادة من فوق!

الولادة من الروح! لا أتذكر من أنارني لفهم هذا النص للقديس يوحنا (يو 3: 5)؟ لا أتذكر. بل أعرف أنه غير حياتي الداخلية.

"الولادة من فوق – " الولادة من تحت"،
" الولادة من الروح" – " الولادة من دم ولحم".

نحن نولد من خلال قراراتنا. فقراراتنا تصنع حياتنا. قيمة الإنسان في قراراته.

ويحدث أحياناً – لا بل كثيراً – أن نستسلم للحياة، ونعيش دون أن نتخذ أي قرار. والحياة تقرر عوضاً عنا، فندخل إلى الكلية بحسب المجموع، ونتزوج لنفعل مثل "باقي خلق ربنا"، ونمتهن أية مهنة متاحة أمامنا. ولا نختار قط. فحياة مثل هذه ليست آدمية، فالإنسان يصبح إنساناً بحريته واختياراته. فما يصنع الإنسان هو قراراته وخيارات حياته.

" الولادة من تحت" هي أن أقرر ما أريد "أنا" أن أفعل. ويجد قراري منابعه فيَّ أنا، في تفكيري وحساباتي ورغباتي وطموحاتي. فأنا أقرر بلحمي ودمي.

" الولادة من فوق" هي تقبل الاختيارات من الله. "يا رب، ماذا تريد أن أفعل؟ تكلم، فإن عبدك يسمع". إنه أسلوب حياة يسوع، إذ قال: "لا يستطيع الابن أن يفعل شيئاً من عنده، بل لا يفعل إلا ما يرى الآب يفعله" (يو 5: 19)، فالابن يتقبل ذاته من فوق، فهو "مولود من الروح القدس".

" الولادة من فوق" هي ألا نريد شيئا من أنفسنا بل ما يريده الله.

فحياة الاستماع إلى الروح حياة محررة حقاً! فهي تحررنا من ذواتنا، وتجعلنا نحيا غير مركزين على أنفسنا. نحيا بلا خوف ولا قلق، فقد وضعنا ذواتنا بين يدي الله. إنها عُري كامل، موت ذواتنا، جنون ولكنه جنون إلهي لأنه يسمح لنا بأن ندخل في الحب. فهذه الحياة مثل زوجين يبذلان حياتهما الواحد في سبيل الآخر.

لا تطفئوا الروح:

"إن الحرف يقتل وأما الروح فيحيي. والكلام الذي كلمتكم به روح وحياة" (يو 6: 63).

" العباد الصادقون يعبدون الآب بالروح والحق... إن الله روح فعلى العباد أن يعبدوه بالروح والحق". (يو 4: 24).

" إذا كنا نحيا حياة الروح، فلنسر أيضاً سيرة الروح" (غل 5: 25).

" ننال بالإيمان الروح الموعود به" (غل 3: 13).

تعال يا روح الحق
تعال يا روح القداسة
تعال يا روح الحب.