تحليل أهم سمات الرياضات الروحية الإغناطية

بقلم الأب فرنسيس بركماير اليسوعي 

لا داعي لكثرة الصلاة...

إن الرياضات الروحية للقديس أغناطيوس دي لويولا لا تنغلق على ذاتها، وليس هدفها أن يبقى المتروِّض في جو من الصلاة وكثرة التأملات فعليه أن يعود إلى حياته العادية، وليس هدفها أن يتعلم كيف يكثر من الصلوات في وسط دوامة الحياة بنوع من الفهم الحرفي لتطبيق نصيحة القديس بولس: "صلوا كل حين"؛ بل كان القديس إغناطيوس يكافح بكل قوته وسلطته بصفته الرئيس العام للرهبنة الناشئة ضد التيار المنتشر بين اليسوعيين في إسبانيا الذين كانوا يدعون إلى إطالة فترة الصلاة والتأمل. فنلاحظ أنه رفض في القوانين التأسيسية للرهبنة أن يحدّد لليسوعيين الذين أنهوا فترة التكوين نوع الصلاة ومدتها، إذ كان يثق تمام الثقة بأن كل يسوعي يستطيع بنفسه باستلهام من الروح القدس ومع إرشاد الأب الروحي ورئيس الدير أن يحدّد ما هو احتياجه من حيث نوع الصلاة ومدتها، على شرط أن يحافظ على غيرته الرسولية وعلى قدرته على أن يجد الله في كل شيء.

لو كانت هذه مرونة موقف القديس إغناطيوس بخصوص حياة الصلاة لليسوعيين، فكم بالأحرى تكون مرونته بخصوص مدة ونوعية الصلوات للعلمانيين. وهذا نلاحظه بين سطور الفائدة الثامنة عشرة والتاسعة عشرة للرياضات الروحية حين ينصح القديس إغناطيوس المرشد بالمرونة في تطبيق الرياضات الروحية حسب القدرات والإمكانيات الواقعية للمتروِّض "من حيث الاستعداد الروحي والذهني وانشغالاته الدنيوية".

... بشرط السعي نحو الحرية الداخلية في سبيل المزيد من المشاركة في رسالة المسيح، ..

من الواضح لمن يدرس كتاب الرياضات الروحية للقديس إغناطيوس أن هدفها الظاهري هو تحرير الإنسان من كل ما يتعلق به ويتسبب في فقدان حريته الداخلية وذلك في سبيل تحقيق هدف الإنسان الأسمى.  

فهذا يتضح حتى من عنوان الكتاب: "رياضات روحية ليتغلب الإنسان على نفسه وينظّم حياته بمعزل عن كل ميل منحرف" -ر.ر. 21- . وعندما يدخل المتروِّض في مرحلة الاختيار في سبيل إصلاح حياته يذكر له القديس إغناطيوس هذا الشرط المهم للتقدم الروحي في سبيل مجد الله الأعظم وهو تحرير الذات "فمن واجب كل واحد أن يفكر أنه يتقدم في جميع الأمور الروحية بقدر ما يتحرّر من حبه الخاص وإرادته الخاصة ومصالحه الخاصة" - ر.ر. 189-.
ولكن ليس تحرير الذات هو الهدف الأسمى، فتحرير الذات مجرد شرط لابد منه في سبيل إدراك الغاية الأسمى التي لأجلها خُلق الإنسان وهي تسبيح الرب وخدمته -راجع المبدأ والأساس: ر.ر. 23- . ولكن هذا المبدأ الأساسي لحياة الإنسان يبقى مجرد فكرة نظرية ما لم يسمع الإنسان صوت الملك المسيح الذي يدعوه شخصيًا لأن يشاركه ويتعب معه في رسالته وهي فتح العالم من أجل مجد الآب وخلاص البشر -ر.ر. 95- . فهدف الرياضات الروحية هو أن يتجاوب الإنسان تجاوبًا متزايدًا مع دعوة الرب لأن يشاركه في سر تجسد الابن في سبيل خلاص العالم: "لنعمل في سبيل خلاص الجنس البشري" -ر.ر. 107- .
إذًا ليس هدف الرياضات الروحية مجرد الخلاص الشخصي الفردي للمتروِّض بل هو أساسًا المشاركة في رسالة المسيح نفسه. فروحانية الرياضات الروحية تتركز حول شخص المسيح في رسالته الخلاصية، وهي روحانية الرسالة واتباع المسيح الذي يسير على دروب العالم، وهي روحانية العمل والنشاط كما يظهر هذا في حياة القديس بولس وأسفاره، وفي حياة رفقاء إغناطيوس مثل الطوباوي بطرس فابر في تنقلاته العديدة بين البلاد الأوروبية ولا سيّما القديس فرنسيس كسافريوس ورحلاته الرسولية التبشيرية إلى أقاصي الأرض...

... وبشرط التمييز الشخصي لترجمة دعوة المسيح في الحياة اليومية، ...

بعدما تجاوب المتروِّض مبدئيًا مع دعوة المسيح لأن يشاركه في أتعاب رسالته الخلاصية - ر.ر. 91 – 98- ، وقدّم نفسه ليمتاز في خدمة الملك، لابد أن يطلب نعمة أن يتعرف على المسيح معرفة شخصية أكثر لكي يتقدم في حبه والاقتداء به - ر.ر. 104 و109- . فمن هنا تبتدئ عملية التمييز، لكي يجد كل متروِّض دعوته الخاصة في ظروف حياته الشخصية وأن يترجم بطريقة ملموسة وواقعية رعبته في مشاركة المسيح في رسالته. ومن خلال التأملات في حياة المسيح الأرضية يلاحظ المتروِّض مشاعره المختلفة وانفعالاته بل الأرواح المختلفة التي يتعثر بها أثناء صلواته. وهكذا يستطيع المتروِّض بمساعدة مرشد الرياضة أن يميّز ويختار ما هو النمط الحياتي الأكثر توافقًا له في سبيل مشاركته في رسالة المسيح.

... وبشرط الاستعداد لحمل الصليب في رسالة المسيح

ولكن إغناطيوس لا يخاف شيئًا أكثر من خوفه من الأوهام الروحية، فلذلك يُفهم المتروِّض أن لا مشاركة فعالة في رسالة المسيح إلا من خلال حمل الصليب معه، وهذا هو الموضوع الأساسي لمناجات المتروِّض في الأسبوع الثاني للرياضات الروحية مثل التأملات في دعوة الملك والرايتّين وخاصة في الأنواع الثلاثة للتواضع إذ يطلب المتروِّض نعمة احتمال أنواع الذل والظلم، و"يفضّل أن يعدّ كالأحمق والمجنون لكي يزداد اقتداءً بالمسيح" - ر.ر. 167 و147 و156- .
فإن إغناطيوس من خلال خبراته الرسولية الشخصية يعرف كيف يعاني من يريد أن يمتاز في خدمة الرب أنواع الإهانة والضيقات من قِبَل من يريد أن يخدمهم ، فلذلك يخاف إغناطيوس أن يبعدنا الحماس السطحي عن النظرة الإيمانية الواقعية إلى مشاركتنا في رسالة المسيح، فطالما بقينا على مستوى الحماس السطحي ظل الخطر هو أن نتوقف عن الخدمة والرسالة عند أول مشكلة أو خبرة فشل تفاجئنا في حياتنا الرسولية. فعلى رسول المسيح أن يستعدّ لأن يحمل نصيبه من صليب قائده، وبدون هذه النظرة الإيمانية تظل اختياراتنا الرسولية غير واقعية وبالتالي غير مجدية.