إغناطيوس دو لويولا من خلال ذكرياته الشخصية

بقلم فادي حليسو

لم يحاول إغناطيوس في ذكرياته الشخصية التحدث عن إغناطيوس المؤسس للرهبنة اليسوعية، بل لم يحاول أن يرسم عن نفسه صورة مشبعة بالقداسة والأعمال العظيمة، وإنما تحدث عن إغناطيوس الإنسان. الإنسان الذي خاض مسيرة روحية طويلة وشاقة لم تخلُ من العقبات والتجارب الروحية والوساوس التي أوحت له بالانتحار سبيلاً للخلاص. مسيرة جعلته يرى الله في كل شيء.

إنه يروي لنا قصة تحول إنسان كرّس نفسه لحماقات العالم من فروسية وملاحقة نساء ورغبة عارمة بالشهرة قادته إلى الدفاع عن حصن بامبلونة الحدودي، إلى رجل كرس ذاته فيما بعد من أجل خلاص النفوس. إنه يروي لنا تحول ولاء الفارس وتوقه لخدمة الملك الأرضي، إلى حب كامل ورغبة مطلقة في خدمة الملك الأزلي.

إنه يتحدث عن الإنسان الذي افتقد في بداية مسيرته الروحية لروح المحبة والتفهم المسيحية حين كان مدفوعاً بإيمانه البدائي وغيرته، كما في لقائه مع المغربي على طريق مونسراته. الإنسان الذي افتقد للحكمة فيما يتعلق بدرب القداسة، فقام بتقشفات وإماتات أضرت بصحته حتى أيامه الأخيرة.

إنها قصة عن الوداعة والتواضع اللازمين ليتمكن الإنسان من لقاء الله. التواضع الذي مكنّه وهو في الثالثة والثلاثين من الجلوس على مقاعد الدراسة في برشلونة مع الأطفال الصغار لتعلم اللاتينية الضرورية من أجل رسالته. التواضع الذي مكنّه، هو سليل العائلة النبيلة، من الاستعطاء من أجل لقمته وتكاليف دراسته. التواضع الذي مكنّه من بدء دراسته من الصفر في باريس كما لو لم يكن قد أمضى بضع سنوات يدرس بين مختلف المدن الأسبانية.

إنها قصة عن الحرارة والحماسة التي تجتاح من يخوض خبرة اللقاء بالله، فيسعى جاهداً لنقل هذه الخبرة إلى الناس ويعمل على خلاص نفوسهم دونما مبالاة بما قد يعترضه من مشاكل ومضايقات، وما قد يتكبده في سبيل ذلك من جهد وتعب. أفلا يصف لنا خبرته في منريسا بأن الله كان يعلمه ويعامله كما يعامل الأستاذ صبياً فكيف يضن بتلك الخبرة على الآخرين؟

إنها قصة عن الشجاعة التي تسم شخصيته والمتجلية في أكثر من موقف، سواء في حجّه إلى أورشليم رغم الظروف الصعبة والحرب القائمة آنذاك مع الأتراك، أو في عدم سكوته عن الخطأ ورفضه عقد صفقات مع الشيطان ضماناً لحياته أو لإتمام مشاريعه. أو حتى في تأليفه لكتاب الرياضات الروحية وإلقائه للرياضات والعظات في ظل محاكم التفتيش المرتابة بكل جديد، هو العلماني الذي لم يتلقّ أي تعليم لاهوتي أكاديمي.

إنها قصة الشخص الممتلئ من روح الله والباحث دوماً عن المزيد في سبيل خدمة الله، الشخص الذي يسعى إلى الكمال ولا يرتضي بأنصاف الحلول أو الأحكام المائعة سواء من محاكم التفتيش أو سفير البابا، وإنما يسعى دوماً إلى حكم واضح وصريح ينهي الجدال ويضع حداً للأخذ والرد بشأن أسلوبه.

قصة الشخص الذي ملأه روح الله حكمة، فتحول الفقر والتقشف لديه من غايةٍ إلى وسيلة للوصول إلى الله. وظهر هذا التحول واضحاً في تغييره لأسلوب حياته وفي القوانين التي تركها لرفاقه.

إنه الشخص الذي اكتشف دعوته الخاصة للعمل على خلاص النفوس وسعى وراءها باستمرار. فقاده سعيه إلى الانتقال من مدينة إلى أخرى وإلى الدراسة في عمر متأخر. إنها الدعوة التي بالرغم من أخذها أشكالاً مختلفة خلال مراحل حياته، إلا أنها كانت على الدوام مدفوعة بتساؤل عن "أفضل طريقة لخدمة النفوس؟"

إنه الشخص الذي يغوص في رحلة التمييز الروحي، فيعيش حالة تمييز مستمر ومراجعة دائمة لحياته في سبيل اكتشاف إرادة الله فيها والسبيل الأفضل لتحقيق هذه الإرادة.

الشخص الثوري والحداثي، ليس بالنسبة لعصره فقط، إذ ما يزال أسلوب الصلاة والتأمل العقلي الذي بلوره يلقى رواجاً بين مختلف الفئات الاجتماعية حتى بعد مضي 450 سنة على وفاته ما. الشخص الذي لم يدع التقاليد الكنسية تحاصره فرفض تقييد رفاقه بصلاة جماعية قد تعيقهم عن الأداء الأمثل لرسالتهم، بالرغم من كل الاعتراضات التي واجهته حول هذه النقطة بالذات.

الشخص الذي تعلم أن يستجيب بحرية إلى إرادة الله من خلال النضال لإزالة العوائق التي تعترض حريته هذه.

تكشف لنا ذكريات إغناطيوس الشخصية عن أربع حوادث أو محطات أساسية في مسيرته الروحية التي تشبه إلى حد بعيد مسيرة كل إنسان باحث عن الله...

1-       تمييز الأرواح إثناء فترة نقاهته في لويولا... واكتشافه لوجود أرواح طيبة وأرواح سيئة تعتمل في نفسه، والأثر الذي يخلفه كل منها في نفسه.

2-       خبرة منريسا مع الوساوس والتجارب... الخبرة التي أتاحت له اكتشاف الأساليب الملتوية التي يتبعها الروح الشرير في إغرائه ومحاولة إغراقه في اليأس رغم أنه يأتيه في أفكار ظاهرها جيد ورائع. هذه الخبرة التي منحته القدرة على مقاومة التجارب حتى آخر أيامه.

3-       استنارة الكوردونير... بالرغم من أن إغناطيوس لم يبح يوماً بمضمون هذه الاستنارة أو الرؤيا إلا أنها من الخبرات المؤسسة في حياته وروحانيته، ويبدو أنها كانت لقاء مع الله منحه إحساساً عميقاً بأن كل المخلوقات تنبثق من الله وأنها بالمسيح تعود إلى الله. وهو ما عبر عنه فيما بعد بأننا كلنا قطرات في النهر العظيم الذي له دوره الخاص في مشيئة الله المتكشفة للعالم. إنه التحول من التأمل إلى المشاهدة، إلى مشاهدة الله في كل شيء.

4-       رؤيا لا ستورتا... هذه الرؤيا هي خلاصة مسيرته الروحية، إنها ما كان ينتظره ويصبو إليه أن يكون مع الآب والابن. فيها أحس إغناطيوس بالتعزية الأكبر "سأكون داعماً لك في روما"، وبالرغم من أنه لم يعرف ماهية الدعم الذي سيوفره له الله، وبالرغم من أنه ظن بادئ الأمر أنه قد يتعرض للاضطهاد، إلا أن فكرة كونه مع المسيح كانت تعزيه وتكفيه.

إن الصورة التي تتكون لدينا عن إغناطيوس لدى قراءة ذكرياته الشخصية أنه شخص شديد، ذو إرادة حديدية، عملي، يظهر القليل من المشاعر أي ذو شخصية غير جذابة أو قليلة الدفء. ولكن إن كان الحال كذلك، كيف يمكن تفسير تأثيره الكبير على الذين عرفوه؟ يجيب لويس جونكالفز دي كامرا، أحد أقرب رفقائه، على هذا السؤال بقوله:

في الواقع كان إغناطيوس ميالاً إلى الحب؛ بل أكثر من ذلك لقد كان كله حباً، وبسبب ذلك كان بشكل عام محبوباً من الجميع. وما من أحد في الرهبنة لم يكِنّ لإغناطيوس أعظم قدر من الحب ولم يعتبر نفسه محبوباً من قبله."