عندما تفتُر الهمّة في الرسالة...

بقلم الأب داني يونس اليسوعي

 

في الالتزام الرسوليّ كما في الصلاة نمرّ بفترات "انبساط" وبفترات "انقباض". أي بفترات يكون فيها نشاطنا الرسوليّ حارًّا يكاد لا يحتاج إلى أن نتساءل عن معناه وعن مجراه، أي عن "لماذا" و"كيف" نقوم به. ثمّ هناك فترات أخرى يكون فيها نشاطنا كسولاً فاترًا. والأسوأ أنّ في هذه الفترات بالذات تظهر الأسئلة "الأساسيّة": ما معنى عملي، ما الفائدة منه، إلخ. كيف نتعامل مع هذه الفترات الصعبة؟

ما هي الرسالة؟

.قبل أن نناقش هذه المسألة الصعبة، لا بدّ لنا من توضيح مفهوم "الرسالة" على ضوء الإنجيل وكما تقترحه روحانيّتنا الإغناطيّة

 النشاط الرسوليّ على ما يُقال هو الالتزام بخدمة كنسيّة (إيمان ونور، جنود مريم وغيرهما من الحركات والجماعات والأخويّات). يُضاف أحيانًا المبادرات الشخصيّة من خدمة للفقراء والعمل على التنمية (محو الأمّيّة، مساهمات ماليّة، تنشيط اجتماعيّ...). يضيف بعض الأشخاص أنّ مهنته هي رسالة. كلّ هذا جيّد، بل جيّد جدًّا، لكنّه يبقى خطيرًا إن لم نقم بالخطوة الحاسمة الّتي يسمّيها القدّيس إغناطيوس "المبدأ والأساس".

 في الواقع ينبّهنا القدّيس بولس ألاّ نحوّل الالتزام المسيحيّ إلى مجموعة من الأعمال، من نوع: "قم بذلك تكن مسيحيًّا". المسيحيّة ليست أعمالاً بل علاقة، إيمانًا، لا ينفصل بالطبع عن العمل بالمحبّة، لكنّه لا يقتصر عليه.

 الخطوة الحاسمة هي أن أكتشف أنّي رسول لا في الأعمال الّتي أقوم بها، بل في أصل كياني: الله يخلقنا لنكون في علاقة معه، وهذه هي رسالتنا الّتي تتجسّد في مختلف الخدمات، بحسب ظروف كلّ شخص وإمكانيّاته. وحين نقوم بالخطوة الحاسمة هذه نكتشف أنّ كلّ شيء رسالة: حياتي العائليّة، حياتي المهنيّة، حياتي الداخليّة... كلّ شيء رسالة، وكلّ شيء عبادة.

فلندخل في العمق أكثر: في الكتاب المقدّس نرى الملك داود قلقًا يرى تابوت عهد الله في خيمة وهو يسكن في قصر عظيم. أراد أن يبني لله مسكنًا، فأجابه الله: أأنت تبني لي بيتًا، بل أنا بنيتُ لك فصرك وأبني مملكتك، وسأبني لك اسمًا يبقى. (2صموئيل الفصل 7).

 في نشاطنا الرسوليّ نريد أن نعطي بسخاء، لكنّنا إذ نعيد قراءة حياتنا نجد أنّنا نلنا أكثر ممّا أعطينا. هذا وعد من الله يلازم خبرتنا الرسوليّة. ومع ذلك، ففترات الفتور تصبح أكثر ثقلاً علينا: أين وعد الله؟ "هل الله معنا أم لا؟" (خروج 17/ 7).

نقطة أخيرة في المفهوم المسيحيّ للرسالة: هذا الّذي أرسلني، هو يهتمّ لي وأنا أهتمّ له. في كلمة "رسالة" أو "دعوة" دليل أنّي لا أقدر أن أتعامل مع رسالتي على أساس ثنائيّ: أنا من ناحية وواجباتي من ناحية ثانية. فهناك المرسل أيضًا. نحن في مثلّث: لا أنغلق على رسالتي لأنّ الله أعظم منها، والله لا يسلّمني رسالة فحسب، بل هو يعمل ويسعى في جميع الأشياء لأجلي أنا، والرسالة لا تستند عليّ وحدي، بل الله الكفيل أن تأتي بالثمر الّذي يريده الله. 

الفاعليّة أم الخصوبة

والآن نعود إلى موضوع البداية: كيف نتعامل مع فترات الاضطراب والفتور؟ ماذا نفعل حين لا تعود رسالتنا تغذّينا روحيًّا وحين لا نعود نذهب إليها إلاّ بحكم الواجب؟من المهمّ ألاّ نتسرّع لأنّ هناك فخًّا خفيًّا ينتظرنا: السؤال عن الـ "لماذا". من الطبيعيّ أن نرغب في معرفة سبب تقلّباتنا، والسؤال يصير ملحًّا بشكل مقلق خلال فترات الاضطراب. لكنّ السؤال عن السبب في هذه الحالة يخفي تجربة، لأنّه يحبسنا في إحباطنا، وبكلّ الأحوال لا يساعدنا على الخروج من الأزمة. فالأفضل أن "نشاهد" ما الّذي يحصل ببساطة وواقعيّة، بحكمة.

في العدد السابق من مجلّة الرفاق تكلّمنا على منطق الفاعليّة ومنطق الخصوبة، منطق التحكّم ومنطق الحكمة. كثيرًا ما يرافق الانقباض الروحيّ في الصلاة كما في الحياة الرسوليّة منطق التحكّم. نشعر بجفاف في القلب وبضياع في العقل لأنّنا لا نسيطر كما يجب على الأمور. أحيانًا هي الأمور الخارجيّة: نودّ أن ننجح أكثر وأن نأتي بنتيجة أوفر، لكن "فلان لا يسمع، وعلان ليس عميقًا كفاية"، أو "علينا أن ننظّم أنفسنا كما يجب..." النظام جيّد، وهو مطلوب. لكنّ النظام صُنع للإنسان لا الإنسان للنظام. فالمشكلة (والحلّ) ليست هنا. في العمق ما نبحث عنه هو المجد الشخصيّ، الاكتفاء الداخليّ بأنّنا جيّدون، ناجحون. هذا الشعور الطبيعيّ قد يدفعنا إلى البحث القلق عن ثمار واضحة، يعترف بها الناس، ويعجبون بها. فتتحوّل الرغبة الطبيعيّة في حمل الثمار إلى قلق وجفاف، بل إلى مصدر نزاع وتجريح متبادل صريح أو متضمّن، فنحمل ثمار الغيرة والحسد بدل ثمار السلام والمحبّة (راجع غلاطية 5). وأحيانًا نريد أن نتحكّم بالأمور الداخليّة: نكتشف في فترات الانقباض أنّنا ما زلنا أنانيّين، غير قادرين على حمل مجانيّة الله بشكل كامل، فنحزن لهذا الاكتشاف، ونحزن لحزننا، ثمّ نحزن لأنّنا حزنّا لحزننا، وندخل في دوّامة من الحزن لأنّنا لم نتعلّم أن نقبل أنفسنا على ما نحن عليه، وخصوصًا لم نتعلّم أن نقبل أنّنا لا نقبل أنفسنا بسهولة. 

وما العمل؟

قيمة فترات فتور الهمّة أنّها تظهر لنا من نحن وكيف يعمل فينا منطق الفاعليّة وإلى أيّة درجة نسجد ضمنيًّا أمام صنم النجاح. ولمن يبقى أن نعرف كيف نتعامل معها؟ أقترح هنا سبيلاً بثلاثة عناصر، ليس الوحيد، وقد نثريه باقتراحات مختلفة، لكنّ هذا الّذي أذكره مبنيّ على اختبار شخصيّ، وكم من المهمّ أن يتكلّم غيري عن اختباراتهم أيضًا.

1. يقول لنا القدّيس إغناطيوس أن لا نخاف (ر.ر. 325، آسف للسيّدات، أرجو ألاّ تشعرنَ بالإهانة)، فالخوف هنا مؤذٍ جدًّا. علينا أن نواجه، أن نقبل أن ننظر في المرآة عالمين أنّ الله يدعونا إلى هذا، وهو لا يرينا أنفسنا إلاّ لأنّه يقبلنا كما نحن ويدعونا إلى أن نرى ما يراه هو فينا، إمكانيّات النموّ والحياة.

2. في فترات الانقباض ننسى المثلّث الله – أنا – الرسالة، وأحوّله إلى ثلاث ثنائيّات: الله وأنا، فيها الله يطلب وأنا لا أنجح بالردّ، الله والرسالة وفيها الله يهمّه الإنجاز وكأنّه ربّ عمل يهمّه العمل لا العامل (task-driven  )، أنا والرسالة مثل أيّ واجب عليّ أن أتمّمه. والنتيجة أنّي أبدأ أطالب بحقّي وباعتراف الآخرين بتعبي (وأحزن إن لم أنل ما أريد) لأنّي في الواقع لا أتغذّى من رسالتي، لكنّي لا أعترف لنفسي بما أشعر به، وأنفيه أو أرفضه فتصير الرسالة حربًا بيني وبين نفسي. عليّ هنا أن أعيد إلى ذاكرتي العمليّة (لا العقليّة فقط) المثلّث الأصليّ. أعطي مثالاً: حين كنتُ أعمل في مدرسة العائلة المقدّسة، عرفتُ مرارًا لحظات ملل وإحباط. ما أنقذني هو أنّي تأمّلتُ بعلاقة الله الّذي أرسلني بالتلاميذ الّذين أرسلني لخدمتهم. تأمّلتُ بما يريد الله أن يعطيهم، وكيف أنّهم من ناحيتهم يبحثون عن الله. وشيئًا فشيئًا عاد الدفء إلى قلبي، فالله يكلّمني من خلالهم ولا ينساني، لذلك يمكنني أن أنسى نفسي على قدر استطاعتي. من جديد عادت رسالتي تغذّيني. على فكرة، لا أحبّ فكرة أنّنا في الصلاة أو في الرياضة الروحيّة "نملأ الخزّان" وفي الرسالة والحياة "نفرّغه". في الصلاة وفي الرياضة بشكل خاصّ لا نملأ شيئًا، بل نتعلّم كيف نتغذّى من حياتنا ومن رسالتنا، كيف نجد الله في كلّ شيء.

3. علينا أن ننمّي في أنفسنا فضيلة الاستقبال: استقبال الزمن الّذي نحن فيه سواء كان زمن انبساط أم زمن انقباض، استقبال ذواتنا كما نحن فلنا نحن الوعد بحمل الثمار، وإن حاولنا أن نكون غير ما نحن عليه، أخشى أن نضيّع الوعد ونصاب بالعقم... فضيلة الاستقبال أيضًا تجاه الشخص الّذي يعبر في الانقباض، فلعلّ استقبالنا له يعكس شيئًا من وجه الله الغائب. وهنا ألفت نظر القارئ الكريم إلى وجه مريم العذراء. المرأة الّتي استقبلت الملاك، واستقبلت الطفل والسيف الّذي جاز في قلبها. لطالما التجأ الروحانيّون الكبار إلى مريم في أوقات الظلمات. ربّما لأنّ مريم، الأمّ الحكيمة، تظهر مثل كلّ أمّ المجّانيّة الصادقة الّتي تجعل الحياة ممكنة، تظهر فضيلة الاستقبال في شكلها الكامل.

ملاحظة: نترك السؤال معلّقًا ما إذا كانت فترة الانقباض دليلاً على عدم مناسبة رسالة معيّنة لشخص ما، راجين أن نعالجها لاحقًا. 

أعرف نفسي

من المهمّ أن أتعرّف على فترة الانقباض لكي أتعامل معها. لهذا من الضروريّ أن أستطيع أن أقول لنفسي وحتّى لغيري (في إطار الصداقة الروحيّة مثلاً) ما أعيشه بصراحة.

- هل رسالتي تغذّيني؟ هل تدفعني للصلاة؟

- مثل مَن مِن البشر أودّ أن أعيش رسالتي؟ من هو مثالي؟ لماذا؟

- متى أعتبر نفسي فشلتُ في رسالتي؟

إنّ الإجابة عن هذه الأسئلة تفتح المجال لحوار قد يساعد على معرفة نفسي. من الممكن استخدام هذه الأسئلة في إطار مشاركة (كما يحصل في اجتماعات رفاق الكرمة مثلاً  (.