العناية الإلهية

بقلم الأب جاك ماسون اليسوعي

"وأما أنا، فأقول لكم أنه لا يمكن أن تقولوا شيئاَ عنها"

1) الفلسفة تضع أساس فكرة العناية الإلهية ولكن الواقع المعاش يقاوم الفكرة

 بحسب تعريف قاموس "المنجد"، فإن معنى كلمة عناية هو"الاعتناء بشيء والاهتمام به" وتحت مصطلح" العناية الإلهية يكتب" ترتيب جميع الأشياء من قبل الله". لا يعود أصل مفهوم العناية الإلهية لا إلى العهد القديم ولا إلى العهد الجديد، بل هو استنتاج فلسفي. ولربما يبدو ذلك غريباَ، ولكن الإغريق - منذ القرن الرابع قبل الميلاد - هم أول من كتب عن العناية الإلهية: "إن من يهتم بجميع الأشياء ويعتني بها أنشأها للمحافظة على المجموع ولصالحه"،"وإن الله صالح، وقد خلق العالم أصلح وأحسن ما يمكن خلقه"     (إفلاطون، حوارات أفلاطون   (le Timée 29 c)  )  . 

"إن كان لنا عقل، لما فعلنا أي شيء في حياتنا، سواء في العلن أو السر، سوى أن نشكر العناية الإلهية على الخيرات التي أنعمت بها علينا والتي نتمتع بها في جميع لحظات حياتنا". (أبيقطاط، المحاورات).

وبعد بضعة آلاف من السنين، لن يقول الفيلسوف ليبنيتز (1646-1716) شيئاَ مختلفاَ في نظريته عن العدالة الإلهية "علم الإلهيات Théodicée  "، إذ انطلاقاَ من أن الله صالح، يستخلص ليبنيتز أنه خلق "أفضل" عالم "ممكن"، وأفضل عالم ممكن ليس عالماَ مثالياَ، بل أفضل عالم من الممكن خلقه.

وكون الله يعمل في العالم، وكونه يعتني به ويرشده، ذلك كله نتيجة لاحتياج ميتافيزيقي. فإن وٌجِد الله وإن كان صالحاَ فلا يمكن أن يكون سوى أنه يعمل ويعتني بالعالم!

ولكن يبدو الواقع وكأنه على العكس تماماَ. فبعد خمسين عاماَ من الصياغة المتفائلة للفليسوف ليبنيتر"إن كل شيء هو للأفضل في أفضل العالمين"، حدث زلزال لشبونة عام 1755 وخلَف 60 ألف ضحية، وكتب فولتير قصيدته الشهيرة:

"ياأيها الفانين! أيتها الأرض!...

 ان الله يمسك بالسلاسل، ولا يقيده شيء،

 باختياره جميع الأشياء مقدرة مسبقاً؛

 هو حر وعادل بل لا يؤثر فيه شيء

فلماذا نتألم إذاً تحت حكم هذا السيد العادل؟"

وأتى الفليسوف كانط ونزع عن الفلسفة كل نزعة ميتافزيقية، حين صرح أنها ثمرة صياغة العقل البشري لا انعكاس لحقيقة وجودية. وجاء دور سارتر بعد ذلك بالفلسفة الوجودية الملحدة وعبثية العالم.

ومن يومها – كما كتب جان إيف لاكوست في القاموس النقدي لّلاهوت –:"إن البحث العلمي الحديث يبدو وكأنه يحفظ صمتاً مقلقاً أمام إشكالية العناية الإلهية".

ونحن نعيش اليوم في ما بعد الحداثة، متشككين في كل شيء وفي أنفسنا. وقد دخلنا في عصر الريبة – أو الشك المعمَم –  فنشك أيضاَ في وجود الله وفي عنايته الإلهية! إذ كيف يمكن أن نتحدث عن العناية الإلهية إن كنا نشك أساساَ في وجود الله، فالإيمان بالعناية - حتى وإن بدت نتيجة حتمية للتفكير الميتافزيقي - تفترض بالطبع إيماناَ بالله وأيضا نظرة أنثربولوجية للإنسان تضعه في مركز الكون.

ولكن ذلك كله ليس إلا تاريخ الفكر الفلسفي في الغرب لا تاريخنا نحن في الشرق!

2) إيمان المؤمن البسيط يميل إلى تأكيد رؤية الفلاسفة 

 كتب البابا شنودة الثالث مقالات عديدة، ولكني أتوقف عند أربعة منها: "نظرة تفاؤل" (الكرازة-12/9/2003-ص14)،"ربنا موجود" (الكرازة-13/12/2004 - صـ10)،"كل الأشياء تعمل للخير لمن يحبون الرب" (الكرازة – 8/7/2005 - صـ10)، و""معاَ ولكننا لا نشعر بذلك" (الكرازة-11/5/2007-ص13).

إن مصطلح"العناية" غير مستخدم، ولكن الإيمان بالاهتمام الذي يضفيه الله على الإنسان حاضر في المقالات حضوراَ واضحاَ. 

إن "هذا التفاؤل يأتي من الإيمان والرجاء: الإيمان بأن الله صانع الخيرات والرجاء في أنه سوف يعمل عملاَ." "تذكروا ثلاث عبارات في كل ضيقة تصيبكم: ربنا موجود، كله للخير، مصيرها تنتهي" " فبالنظرة المتفائلة - أي بالرجاء - نتأكد أن الله سيتدخل. وحينما يتدخل الله – بل ولا بدأن يتدخل – ستنحل كل الصعاب، وتزول كل المشاكل، وينصلح الأمر." (الكرازة 12/9/2003 – صـ 14-15).

وسيعود البابا شنودة إلى الحديث نفسه حين سيعتكف في الدير عقب الاضطرابات التي صاحبت قضية زوجة القس قسطنطين وحبس بعض الشباب الذين تظاهروا في الكاتدرائية المرقسية بالعباسية: "ربنا موجود" تعني ربنا شايف، ربنا سامع، ربنا عارف إيه اللي بيجري. ربنا هايتصرف ويعمل، ولا يترك الأمور هكذا.."." وحينما نقول "ربنا موجود"، نقصد أنه الحافظ والمعين... وأنه المهتم بالكل... بالحيوان والطير، حتى بالدودة التي تسعى تحت حجر. وإن كان الأمر هكذا، فكم بالأولى يهتم الله بالإنسان! إن الله يهتم بنا، أكثر مما نهتم نحن بأنفسنا." (الكرازة 31/12/ 2004- صـ10).

 "كل الأشياء تعمل معاَ للخير للذين يحبون الرب" (رو 8/28). ويعلق البابا شنودة على هذه الآية من خلال أمثلة مستقاة من الكتاب المقدس ومن الحياة فيها ينتصر الخير على الشر في النهاية: "كل ما هو صالح ينتهي نهاية صالحة". ولكنه يؤكد على الشرط لكي تكون النهاية سعيدة، فهذه النهاية ليست إلا "لمن يحبون الرب"، إذاً ليست نهاية صالحة "للمتذمرين أو الذين يفتقدون إلى الحكمة، بل فقط لمن يعرفون أن يميزوا الإيجابي في كل ما يحدث". (الكرازة: 8/7/2005 – صـ10-11).

وفي تعليقه على وعد يسوع"ها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر" (متى 28/20) ، يضيف ملحوظة على مجموع النصوص: "إنه كثيراً ما يكون الله معنا ونحن لا نشعر بذلك." "في بعض الأوقات نظن أن الله قد تخلّى عنا؛ بينما هو يشعرنا بذلك إلى حين لأجل منفعتنا. فهو معنا سواء أدركنا ذلك أو لم ندرك". (الكرازة: 11/5/ 2007- صـ 13).

لا شك أن البابا شنودة يعبر عن إيمان هادئ لم يهزه شيء، إيمان لم تقترب منه ديدان الشك ولم تأكله. ولكن أشعر أن سفر أيوب في العهد القديم يحمل نغمة أكثر واقعية وربما أكثر صدقاَ. إنها نغمة تحمل صرخة إلى الله وإلى عنايته بل إلى عدله . لأن كل شيء صار سيئاً، بالنسبة لأيوب، ولم يفهم ما يحدث. 

3) نحو لاهوت ملكوت الله

لم يستعمل يسوع كلمة "العناية الإلهية"  حتى وإن بدت الحقيقة مؤكدة: "انظروا إلى طيور السماء ...." (مت 6/26). "فالغد يهتم بنفسه" (مت 6/34). "إنكم أثمن من العصافير جميعاً" (لو 12/7). "ما من أحد ترك بيتاً أو أخوةً أو أخوات أو أماً أو أباً أو بنين أو حقولاً من أجلي وأجل البشارة إلا نال الآن في هذه الدنيا مائة ضعف من البيوت والإخوة والأخوات والأمهات والبنين والحقول مع الاضطهادات" (مر10/29).

ومن ناحية أخرى، لم يقل يسوع إن الأحداث غير المتوقعة هي نتيجة أعمالنا الطيبة أو السيئة: فبالنسبة للمولود أعمى "لا هذا خطِئَ ولا والداه" (يو 9/3). "كذلك الذين سقط عليهم البرج في سلوام وقتلهم، ليسوا أكثر ذنباً من سائر أهل أورشليم" (لو 13/4). فهناك عند يسوع اليقين بأن الله يعمل في خليقته وبأنه يسهر عليها، دون أن يلغي ذّلك الصدفة. فكل شيء غير محدد مسبقاً. وستظل هناك أحداث غير متوقعة أو غير مفهومة.     

لم يَعِد يسوع بأن جميع الأمور لن تعمل معاَ للخير لمن يتبعونه، بل على العكس وعدهم بالاضطهادات. قد تسير الأمور إذاً إلى الأسوأّ! ومع ذلك فهو يعلن أن ملكوت الله قريب، وأن وجوده يحقق الملكوت."إن كلمات النبي تتحقق اليوم"، و"إنني بأصبع الله أطرد الشياطين، فاعلموا إذاَ أن ملكوت الله ينتظركم".

ويمكن أن نتساءل إن لم يكن ما يسميه الفلاسفة "العناية" هي ما يمكن أن يترجم مع يسوع بكلمة "الملكوت". أليس الملكوت هو عمل الله في خليقته؟ إنه تمام وملء مشروعه الخلاق، ولكنه تمام وملء مختلف... مختلف لعدة أسباب:

أولاَ لأن الملكوت لا يمكن مراقبته، فبالنسبة للملكوت لا يمكن أن نقول "ها هو هنا أو ها هو هناك، فهو لا يُلاحَظ؛ "فملكوت الله في وسطكم". 

فلو كان قدوم الملكوت هو عمل الله، إذاً لا يمكن أن نعرفه إلا بالإيمان، وما الإيمان إلا معرفة الأشياء التي لا نراها. إن النهاية السعيدة لحدث ما - والتي يمكن أن يرجعها مؤمن للعناية الإلهية - ليست إلا أسلوباَ للحديث. وسيعلن المؤمن: "حقاَ هذه معجزة، وكان الله هنا وأنقذني"، ولكن في الواقع، هو حدث لا يمكن أن نتحكم فيه. ولا يمكن إلا أن نلاحظ أن حدث ما لا يمكن تفسيره أو لم يكن متوقعاَ، ولكن لا يمكن أن نقول - إلا بالإيمان- "إن الله تصرف بعنايته الإلهية".

ثانياً، إن هذه "العناية الإلهية"- أو" مجيء الملكوت" - تمر مروراً حتمياَ بالصليب

وكما قال يسوع "يجب على ابن الإنسان..." " ألا يجب على ابن الإنسان..."، إذ يبدو أن هناك ارتباط بين العناية الإلهية والصليب، ارتباط هو على نقيض مفهوم أن العناية الإلهية تبعد كل شر. وتعرض الرسالة إلى العبرانيين الألم طريقاَ إلى الكمال (عب 5/8). وهذا سر يصدم العقل البشري. "فإننا نبشر بمسيح مصلوب، عثار لليهود وحماقة للوثنيين" (1كو1/23).

وأخيراَ، تبقى الإشكالية بين قدرة الله الكلية وضعفه. ألا تشكل الحرية البشرية عائقاَ أمام إرادة الله؟

إن إرادة الله هي أن يخلص جميع الناس، ولكن لا يمكن أن يخلص إنسان رغماَ عنه. إن حرية الإنسان تتطلب أن يستطيع أن يقول "لا" لإرادة الله. إن الحرية تتطلب إمكانية رفض الله وبالتالي وجود الخطيئة. وفي خلفية كهذه، إشكالية مسألة قدر الإنسان ومعلومية مصيره مسبقاَ.

إن كان الله محبة – ولا يمكن أن يكون سوى محبة – فلا يستطيع أن يكون إلا ضعيفاَ، فالحب لا يمكن إلا أن يهب ذاته ولا يستطيع أن يفرض نفسه. 

الخلاصة

نشأ مفهوم "العناية الإلهية" من رحم الفكر الفلسفي وتأكد كحتمية لا غنى عنها، ولكنه اصطدم مع واقع الشر. وحاول الإيمان التقليدي أن يحافظ على النتائج المستخلصة من الفكر الفلسفي. ولكن اللاهوت المؤسس على واقع حياة ابن الإنسان وحده قادر على إدماج سر الشر بفضل الخلاص على الصليب. ولكن مثل هذا اللاهوت يحَوّل تحولاَ جذرياَ طبيعة النتائج الفلسفية.

إن الفلسفة – المنطلقة من الفكر البشري وحده - تضع مفهوم"العناية الإلهية" في مستوى الطبيعة الملموسة نفسه. إذ يجب أن تكون"العناية الإلهية" على المستوى المرصود وإلا فهي غير موجودة. ويكاد الإيمان غير النقدي أن يقع في الفخ نفسه، لأنه يظل في فكره على مستوى الخبرة الإنسانية، مثله مثل الديانات الطبيعية، يسعى لأن تنتهي جميع الأمور إلى النهاية السعيدة.

ووحده اللاهوت الذي ينبع من حياة ابن الإنسان يتمكن من الجمع بين المتناقضات كحُلول الله وتعاليه، أي يتيح قراءة الواقع المعاش على ضوء طبيعة المسيح التي هي في الوقت نفسه حالّة في الطبيعة البشرية ومنزّهة متعاليّة، بشرية وإلهية. وهكذا بفضل هذا اللاهوت، يعود إلى مفهوم"العناية الإلهية" بعده "المتعالي"، والذي لا يمكن معرفته إلا بالإيمان لا بالفكر البشري وحده.

وهكذا لا يمكن أن نقول إن العناية الإلهية تعمل فقط من خلال عشوائية الصدفة التي تتخلل حتمية قوانين الخليقة، فهذا يقلّص الله إلى مستوى الأشياء المخلوقة ويتجاهل تعاليه عزّ وجلّ. وإن كانت "العناية الإلهية" لا تٌعرف إلا بالإيمان، فهذا معناه أنها – مثلها مثل الله - لا يمكن أن نقول عنها شيئاَ إلا أنها موجودة!

"وأما أنا، فأقول لكم أنه أنه لا يمكن أن تقولوا شيئاَ عنها".