التربية من أجل التنمية المستدامة.. كلام كبير جداً جداً

التربية من أجل التنمية المستدامة.. كلام كبير جداً جداً

بقلم سمر كرم

 أصبحت الآن من خلال عملي كثيرة الاحتكاك بالمؤتمرات الدولية وبالمحافل الكبرى، حيث يلتقي كبار الساسة وصناع القرار في العالم، كما أصبحت ألتقي أيضاً بالكثير من المسؤولين ورجال الإعلام وكل هؤلاء الذين يجيدون "بلعبة الكلام"، وأصبح من الصعب علي في الكثير من الأحيان أن أحكم على ما أشاهده، وأميز الحقيقي من الزائف.. وهو ما جعلني أتردد كثيراً كلما حاولت أن أبدأ في كتابة هذا الموضوع، حتى لا يتحول إلى بوق دعائي لا معنى له.. ولم أكن أريد أن يتحول كلامي أيضاً إلى مجرد تقرير صحفي ممل.. لا يضيف جديد..

فعندما طلب مني الذهاب إلى مؤتمر الأمم المتحدة حول التربية من أجل التنمية المستدامة المقام في مدينة بون في مركز الأمم المتحدة على بعد خطوات من مكتبي، كنت أتمتم في داخلي: "يعني هيقولوا فيه إيه جديد... أهو كلام وخلاص".... واضطررت إلى الذهاب، وبدأ المؤتمر الصحفي مع وزيرة البحث العلمي الألمانية ونائب رئيس اليونسكو وزوجة نيلسون منديلا  وأنا لا أنتظر الكثير.. ولكن كلمات جراسا ماخيل، زوجة نيلسون مانديلا ووزيرة التعليم والثقافة سابقاً في موزمبيق، بدأت تجذبني، عندما قالت إن الدول عليها أن تراجع ميزانياتها وما تصرفه على التسليح مثلاً في مقابل ما تصرفه على التعليم.  ولكن بعيداً عن الكلمات الرنانة التي يرددها السياسيون، وبعيداً عن الهدف الرئيسي من المؤتمر والمتعلق بمراجعة ما توصلت إليه الدول في منتصف العقد الذي خصصته الأمم المتحدة للتنمية المستدامة والممتد من عام 2005 وحتى 2014، فما لفت نظري بشكل خاص هو المشاريع الواقعية التي عرضت وبعض المناقشات التي دارت في ورش العمل والتي شارك فيها العاملون بالفعل في مجال التربية والتعليم..

عندما يصبح الأبناء معلمين للآباء

"بابا... يمكنك أن تنقذ كوكبنا" هو اسم كتاب تلوين للأطفال لا يحتوي كلمات كثيرة، ولكنه يحتوي مواقف يومية مرسومة، تصاحبها عبارات مثل: "أبي يمكنك أن تنقذ الكوكب لو أعدت استخدام الأوراق، لأن ذلك يحافظ على الأخشاب والمياه والطاقة" ، "أبي يمكنك استخدام سبت عند التسوق بدلاً من الأكياس البلاستيكية لأنها تلوث البيئة عند إلقائها". قد لا يغير الطفل كثيراً إذا ما قال بالفعل لوالده مثل تلك النصائح، لكنه بالتأكيد سيتعلم الكثير من تلك المواقف عما يمكنه هو كفرد القيام به للمحافظة على البيئة وللتقليل من استهلاك الطاقة في العالم، كما أنها من ناحية أخرى وسيلة لإشعارهم بالمسئولية تجاه أسرتهم وتجاه الكون بأسره.

وقد أثبت دور الأبناء مع الآباء جدواه في عدد من المشروعات العملية على أرض الواقع، منها مشروع نبعت فكرته من إحدى الشركات اليابانية. ويعلم هذا المشروع الأبناء مراقبة آبائهم فيما يتعلق باستهلاكهم للطاقة وللمياه مثلاً أثناء الاستحمام، ويكون على الطفل بعد ذلك مهمة محاسبة والديه وإخوته وإعطائهم النصائح للتقليل من استهلاكهم. وبالتعاون مع الشركة اليابانية، تم تنفيذ هذا المشروع أيضاً في الكويت، وتؤكد مريم المتيد، الوكيل المساعد للبحوث التربوية والمناهج بوزارة التربية بدولة الكويت، أن هذا المشروع التجريبي الذي بدأ منذ عامين في 24 مدرسة حقق نتائج مذهلة، وقلل من استهلاك الطاقة بشكل كبير، وتضيف: "الفلسفة الأساسية هي تعويد الطلاب أن يكونوا المسئولين عن تغيير سلوك الأب والأم والأخوات وأيضاً الحي الموجودين فيه. مسئولية الطالب هي أن يراقب الأب والأم عند استهلاك المياه والكهرباء، الأنوار المضاءة، ويسجل ملاحظاته ويبدأ محاسبة الأهل. جربت في دولة الكويت لمدة سنتين، في 24 مدرسة، وكان فيه نتائج مذهلة ونقص في كمية الطاقة المستهلكة، والأولاد والبنات بدأوا في تدوير النفايات ووضعها في شكل جميل". كذلك يقوم طلبة المدرسة في إطار المشروع التربوي بتدوير النفايات وتحويلها إلى أعمال فنية جميلة.  

أما تلاميذ مدرسة إيميلي هيرمان الألمانية، فقد تمكنوا من تنفيذ مشروع لتزويد مدرستهم بالطاقة الشمسية، وذلك بمساعدة بلدية مدينة بون والمختصين في الطاقة الشمسية. وفازت المدرسة بجائزة الشمس الألمانية لعام 2005، وهي جائزة تمنحها الجمعية الأوروبية للطاقات المتجددة يوروسولار للمدارس الألمانية الناشطة في مجالات توفير الطاقة واستغلال الطاقات النظيفة. وفي زيارتي لتلك المدرسة، فاجأني بداية كون الأطفال قد قاموا بأنفسهم ببناء النظام الشمسي الذي يزود المدرسة بالطاقة، كما أعجبت باللوحات الإرشادية والرسومات التي تملأ جدران المدرسة، والتي تعبر عن الطبيعة الجميلة ومدى تأثير الشمس في حياتنا اليومية، وتعد توعية الأطفال بهذا الأمر من أهم أهداف المشروع كما أكد القائم عليه الدكتور ميشائيل باكيانا، من إدارة بلدية بون، قائلاً: "أنظر لهذا المشروع أيضاً من وجهة نظر تربوية، فنحن لا نتكلم عن حماية البيئة، بل نفعل شيئاً حيال ذلك، وبهذا نوفر الفرصة للتلاميذ لمشاهدة أثر الاعتماد على الطاقة البديلة، وهو أمر أكثر تأثيراً مما لو درسوه بشكل نظري أثناء الحصص المدرسية".   ولا يكتفي التلاميذ بإفادة مدرستهم وأسرهم فقط، لكن هؤلاء "الخبراء الصغار" أرادوا توسيع دائرة عملهم ونقل خبراتهم إلى الآخرين، فقرروا أن يعملوا كـ"مستشارين للطاقة الشمسية" بالمجان، لكل من يحتاج هذه الخدمة. فبعد أن قاموا باستطلاع للرأي في شوارع بون اكتشفوا أن الناس لا يعرفون الكثير عن هذا الأمر، وأنه بالرغم من اهتمام الأغلبية في الشارع الألماني بالطاقات المتجددة، إلا أن لديهم الكثير من الأفكار الخاطئة عن تطبيقها. ولم يكتف التلاميذ بدورهم في بون، ولكنهم قرروا التوسع عالمياً، وبدأوا في التعاون بشكل مستمر مع مدرسة جادور في بودابست. وفي مايو/ أيار 2005، قرر "الخبراء الشمسيين " التوسع في دول أخرى أكثر احتياجاً، فأقاموا مشروعاً مع إحدى المدارس في أوزبكستان. وأثناء رحلتهم هناك حاولوا نقل خبرتهم إلى تلاميذ تلك المدرسة . وتقول اندريا،  إحدى الخبيرات المشاركات في هذا المعسكر: "لقد كانت خبرة رائعة، لم تكن خبرة عملية فقط، لكنها كانت أيضاً فرصة للتعرف على ثقافة أخرى". 

 أكثر من مجرد حماية البيئة .. مشروع للوعي بالذات وبالآخر.

وبعيداً عن مشروعات حماية البيئة والمناخ، كان هناك مشروعاً مميزاً، أسسه الدكتور هانز ليفاندر، دفعه لتنفيذ مشروعه كما يقول عمله سابقاً في مكافحة انتشار الأسلحة النووية لما تسببه من آثار سلبية على صحة الأفراد بالإضافة إلى مخاطرها المحتملة. فقرر الطبيب المتقاعد أن يبدأ بالعمل مع الشباب، وبدأ في التسعينيات في دعوة الشباب لمشاركته في مشروعه لمكافحة انتشار الأسلحة النووية.. ومن هنا بدأ هذا المشروع الذي يطلق عليه "لايف لينك"والذي يهدف لتوعية الشباب بذاتهم وبالآخر وبالطبيعة.. وينقسم المشروع إلى أربعة محاور: أولها يحمل عنوان "فلأهتم بنفسي"، ويهدف إلى توعية الشباب بأفكارهم ورؤاهم في الحياة وما يؤمنون به وتوعيتهم أيضاً بجسدهم، فيعرفون كيف يهتمون به ويغذونه التغذية السليمة. ويقدم البرنامج وسائل عملية لتحقيق هذه الأهداف من خلال برامج منظمها للتعريف بطرق التغذية السليمة، وبالتمارين الرياضية المفيدة للجسم وبرامج تعبيرية يمكن للشاب من خلالها أن يعبر عن نفسه سواء بالكتابة أو عن طريق الفن، وتدريبات لبناء الثقة بالنفس.

أما المحور الثاني فهو تنمية الوعي بالآخرين: ويهدف هذا البرنامج بشكل خاص لتنمية ثقافة السلام ومواجهة العنف عن طريق التعرف على الآخر ويسلط الضوء على التعدد الثقافي، كما يعلم الشباب كيفية التعامل مع الأزمات والصراعات التي قد تواجههم. كذلك يخصص البرنامج يوماً لمناقشة الفروق بين الجنسين وحقوق كل منهما في المساواة، ثم يخرج إلى نطاق أوسع من خلال الحديث عن حقوق الطفل، وعن معاناة الأطفال الذين يعيشون وسط حروب، ويوسع الدائرة أكثر للتحدث عن ثقافة السوق ولتوعية الشباب بالحركات التي تقاوم "التجارة غير الشريفة"، والمبنية على استغلال الفقراء في الدول النامية. أما المحور الثالث للمشروع، فهو متعلق بالطبيعة، فمن خلال الأعمال الفنية والمسرحية يمكن للشباب التعبير عن محيطهم والتعرف على مشاكل البيئة ومشاكل الطاقة ونقص المياه وخطر الجفاف الذي يواجهه عالمنا اليوم. وتقوم كل محاور المشروع في إطار التعاون بين المدارس من الدول المختلفة عن طريق مشاريع عملية، يشارك فيها شباب من أكثر من ثمانين دولة في العالم.

ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه، هو ما معنى التربية من أجل التنمية المستدامة؟ وما الذي يمكن أن نستفيد به على الأرض الواقع، من مثل هذه الشعارات الرنانة؟؟ وتأتيني الإجابة من خلال الإعلان النهائي الذي خرج به المؤتمر، حيث طالب المشاركون المجتمعون في بون منظمة اليونسكو باتخاذ مواقف أكثر إيجابية لدعم الدول الأعضاء في عملية نشر ثقافة السلام بين الأطفال والشباب وكذلك في زيادة وعي الشباب والأطفال بالعالم حولهم، لكي يمكنهم بناء عالم الغد بقيمهم الخاصة وإدراك آثار مآسي اليوم على عالم الغد.