فدمعت عينا يسوع

بقلم الأب داني يونس اليسوعيّ

قد يكون مشهد إحياء لعازر أكثر مشاهد الإنجيل كشفًا عن مشاعر يسوع. فيه يجيش صدر يسوع مرّتين: حين يرى مريم تبكي ومعزّيها يبكون معها، ثمّ حين يسمع اليهود يقولون: "أما كان بإمكان ذاك الّذي فتح عيني الأعمى أن يردّ الموت عنه؟" فيه تدمع عينا يسوع حين يسأل "أين وضعتموه؟" فيجيبون "يا ربّ هلمّ وانظر". فيه نقرأ: "وكان يسوع يحبّ مرتا واختها ولعازر" ويسمّي لعازر "صديقه". في هذا المشهد يذهب يسوع لإيقاظ صديقه مع أنّه يعرّض نفسه بذلك للموت، كما قال توما: لنذهب ونمت معه. فالأعداء يتربّصون بالمسيح وينوون قتله، ولكنّ لعازر في عزلة الموت، والصديق، يسوع، لن يتركه في هذه العزلة، بل يأتي ليأخذ مكانه    .

إلى أين تذهب يا ربّ في سبيل الصداقة؟ هل من شركة بين الأحياء والأموات؟ هل نستطيع أن نغلب الوحدة؟ إنّ حبّنا أضعف من أن يبلغ المحبوب حين يخفيه عنّا الموت. قد أحيا بالثقة بأنّ صديقي يحتفل بحياتي، يطلبها، يرغب فيها، يجعلها أخفّ وطأة عليّ، ولكن في الموت من يبلغ إليّ؟ أليست مأساة الحبّ هي الموت؟ نقول لمن نحبّ "لن ننساك" ولكنّنا نطلب من نحبّ ولا نجده ونشعر بالفقدان والحزن. نتمنّى لو نحمل وطأة الموت عن صديقنا، نتمنّى لو كان حبّنا يوقظه من رقاده. ونبكي مرّتين: مرّة للفقدان ومرّة للحبّ. نبكي الفقيد لأنّه ابتعد عن شركتنا، ونبكي حبّنا لأنّه لا يستطيع أن يحقّق رغبته، لا يستطيع أن يعطي الحياة الأبديّة.

يسوع أيضًا يبكي مرّتين: يبكي حزن البشر ويجيش صدره لحزن مريم وأختها، ويبكي أمام القبر لأنّه يعلم ماذا سيفعل، يعلم أنّه سيأخذ مكان لعازر. حبّه أقوى من الموت، لأنّه يعلم من هو الآب، يعلم أنّه محبوب إلى حدّ يجعل الآب نفسه يصل إليه وهو في عزلة القبر. ولكن لكي يظهر ذلك للناس، يأخذ مكان لعازر.

يسوع ينظر إلى ظلمة القبر. كما الله ينظر إلى موت الإنسان ويسأل: "آدم أين أنت؟" ينظر إلى العدم الّذي منه أخرج الله الإنسان ويفهم أنّه إن لم يأخذ على عاتقه ذلك العدم سيبقى الإنسان محكومًا به. سيبقى الحبّ أسير الموت إن لم يواجه الموت. يسوع أمام قبر لعازر يرى المصير الّذي اختاره الله لنفسه لكي يبلغ إلى صديقه. هو الراسخ في حبّ الآب، لأنّه يعلم أنّ الآب يستجيب له، وقد أسلم كلّ شيء بين يديه، يختار أن يصير الإنسان المتروك، المهدور، المرميّ في ظلمة النسيان، لكي لا يبقى مكان يضيع فيه الإنسان عن حبّ الله. حين بكى يسوع، أخذ عن مريم ومرتا حزنهما، وأخذ عن لعازر موته. أخذ ما لنا ووهبنا ما له. وما له؟ له حبّ الآب الّذي يستجيب له دائمًا.

وحده الحبّ الّذي بين الآب والابن لا يقدر الموت أن يبتلعه. هذا الحبّ هو الّذي دخل في موتنا ليحوّله. لم يعد الموت شوكة في جسد صداقتنا، ولم تعد وحدتنا انعزالاً وضعف حبّنا يأسًا. بكى يسوع مرّتين لكي نبكي مرّة واحدة ثمّ نفرح: نبكي الفراق ولا نبكي موت الحبّ. نبكي الشوق ولا نبكي ذواتنا. نبكي ألم الموت ولا نبكي ضياع الحبّ. فالحبّ هو حبّ الآب الّذي لا يترك صديقه في النسيان ولا يفقد الشركة مع من يذوق الموت.

مع لعازر نضع أحبّاءنا الّذين نبكي فراقهم، ومع يسوع نثق بأنّ شركتنا معهم لا تنتهي. أسلمناهم إلى الآب ونحن نعلم أنّه دائمًا يستجيب لنا. وإن كان حبّنا أضعف من أن يوقظهم، فالله أعظم من حبّنا. هو قيامة حبّنا، يتغلّب على موتنا. وإن أخذنا الوقت لننظر إلى يسوع يغوص بنظره إلى ظلمة قبر لعازر، وجعلنا هذه النظرة تغوص في ظلماتنا، وإن بذلنا الجهد لنسمع صوت يسوع يخترق الأكفان ويصل إلى أذني لعازر ليحرّك فيه الحياة، وتركنا هذا الصوت يتغلغل في مواطن موتنا، إنّي على ثقة بأنّنا نذوق القيامة منذ الآن، لأنّ لنا صديقًا يذهب إلى أقصى الحدود من أجل أصدقائه.

نشرت على موقع الآباء اليسوعيين في الشرق الأوسط