موسى... في مقدمة المسيرة

Moses

إعداد سمر شنودة
عن كتاب للأب ريمون بوتريل (*)

إن صلوات القدّيسين نادرة في الكتاب المقدس، ولكن هناك صلوات كثيرة جميلة لعشارين أو خطاة من كل نوع، للصوص أو قتلة أو زناة أو جبناء ولأناس آخرين عاديين. وقد قدمنا في العددين الماضيين صلاة قايين القاتل وصلاة هاجر الهاربة وصلاة يعقوب وزوجتيه، ونستكمل رحلتنا في هذا العدد مع موسى الهارب والثائر وخصوصاً الشفيع. وهدف المقالات هو أن نتعلم فن الصلاة، من خلال كل نداء أو صرخة أو أمنية أو اعتراف منتزع من صميم الحياة اليومية لهذه الشخصيات، حيث تنبع الصلاة منهم دون تكلّف.

الهارب

"ما من أحد يضع يده على المحراث ثم يلتفت إلى الوراء، يصلح لملكوت الله" لو 9/62

كان موسى يصلح لملكوت الله، لأنه لم يلتفت إلى الوراء قط، وربما كان ذلك من أكثر ما يميزه، فقد كان "هارباً"... هارباً حتى من ذاته، فقد كان لديه أكثر من وجه، فهو هارب كيعقوب، وسريع الغضب كعيسو، وشفيع لشعبه كإبراهيم.

وقد كان لمصر طفل النيل الذي تولت تربيته ابنة فرعون، ولكنه كان ايضاً الخارج عن القانون الذي رجع ليهدد الملك. وأما لمديان فقد كان القاتل الذي يجد هناك مأوى وزوجة والذي يرجع يوماً ليستعين بنسيبه، ولكنه كان أيضاً من انتهز فرصة حادث ليقطع عهده، ثم يستحوذ على ممتلكات المديانيين.

كان موسى متقلباً وجاحداً ومخيباً لآمال الكثيرين، ولكنه على نقيض ذلك في مهمته الجديدة، في رسالته التي لم يتطوع فيها بل كُلِّف بها. فالله هو الذي اختار وموسى يعترف له بهذا الحق: "عفواً يا رب أرسل من تريد أن ترسله". وقد كُلِّف هو بالذات لأنه غير مقيد، حر من هذا النوع من الحرية الذي يملكها من لا يستطيع حتى النظر إلى الوراء.

وعند العليقة وجد موسى نفسه مسؤولاً بأن يقود شعب إسرائيل من العبودية إلى أرض الموعد. فهو هارب يخطط للهروب الكبير، أي الخروج. وها هو يغير اتجاه حياته، فبعد السنوات العديدة التي أمضاها في بلاط فرعون يستقي من حكمة المصريين، ويعيش حياة بعيدة كل البعد عن عبودية أبناء شعبه، فإنه يتلقى هوية جديدة، فيصبح نبياً ومشرِّعاً وشفيعاً.

الشفيع

يظهر موسى في سفر الخروج اثنى عشرة مرة في صورة الشفيع. وكمثال على ذلك صلاته بعد أزمة العجل الذهبي، حيث قال الرب: "يارب، لمِ يضطرم غضبك على شعبك الذي أخرجته من أرض مصر بقوة عظيمة ويد قديرة؟ ولِمَ يتكلم المصريون قائلين: إنه أخرجهم من ههنا بمكر ليقتلهم في الجبال ويفنيهم عن وجه الأرض؟ ارجع عن اضطرام غضبك واعدل عن الإساءة إلى شعبك واذكر إبراهيم وإسحق وإسرائيل عبيدك الذين أقسمت لهم بنفسك وقلت لهم: إني أكثر نسلكم كنجوم السماء، وكل الأرض التي تكلمت عليها سأعطيها لنسلكم فيرثونها للأبد" (خر 32/11 – 13).

يستخدم موسى حجتين في هذه الشفاعة: الحجة الأولى تتعلق بكرامة الله، "ولِمَ يتكلم المصريون قائلين..." ويستخدم الحجة نفسها في قادش حيث يقول: "تحدثت الأمم التي سمعت بأخبارك هذه قائلة: لأن الرب لم يستطع أن يدخل هذا الشعب إلى الأرض التي أقسم له عليها، ذبحه في البرية". ويستغل الحجة نفسها في سفر التثنية "لئلا يقول أهل الأرض التي أخرجتها منها إن الرب لم يستطع أن يُدخلهم الأرض التي وعدهم بها، ولأنه أبغضهم أخرجهم ليميتهم في البرية".

وهي الحجة نفسها التي يستخدمها شعب بأثره في مراثيه، وهي أيضاً الحجة التي يستخدمها دانيال في واحدة من أجمل تضرعاته (دا 9/18). "فإننا لسنا لأجل أعمال برّنا نلقى تضرعاتنا أمامك، بل لأجل مراحمك الوافرة. اسمع أيها السيد، اغفر أيها السيد، أصغ وأعمل أيها السيد ولا تبطئ وذلك لأجلك يا إلهي لأن اسمك دُعي على مدينتك وعلى شعبك".

وأما الحجة الثانية التي يعرضها موسى على الله فهي نابعة من تذكار الآباء "تذكر إبراهيم وإسحاق وإسرائيل". ولم يمر سوى فترة وجيزة منذ تسلّم موسى الوصايا العشرة من يد الله. لذلك فهو يدرك قوة برهانه هذا، إذ إن الله نفسه قد بادر واستعان بالبرهان نفسه في الوصايا: "أعاقب إثم الآباء في البنين إلى الجيل الثالث والرابع من مبغضيّ، وأضع رحمة إلى ألوفاً من محبي وحافظي وصاياي".

وهي أيضاً حجة شديدة الأهمية للمصلي ذاته، لأنه يعلم أنه بذلك يذكر الله بدعوته له عند العليقة المتقدة، ولأن الغاية من رسالة موسى والخروج من مصر، هي الدخول إلى الأرض التي وعد بها الآباء.

"... وإلا فأمحني"

تأخذ صلاة موسى نبرة جديدة، لم تكن بالأمس/ فهو يصلي الآن بصفته الشخصية: "والآن إن غفرت خطيئته... وإلا فأمحني من كتابك الذي كتبته". ليست هذه الصلاة بمجرد تهديد، بل هي أروع من ذلك بمراحل (خر 32/32)، فالأسلوب الذي يستخدمة موسى في صياغة صلاته، هو أسلوب "الكتبة"، بل إن موسى يدرك أنه في طليعة "الكتبة"، فقد حمل موسى بين يديه لوحي الشريعة المكتوب بكتابة الله، فالله أيضاً كاتب. ولكن الله لديه ألواح أخرى سرّية، ألا وهي كتاب الأحياء الذي يحتوي على أعمال الناس ويعرض مصائرهم (راجع مز 69/29).

ويقول موسى لمن يملك هذه الألواح: إن رفضت أن تقود شعبك إلى النهاية، فلك أن تشطبني، لأني فقدت هويتي الأولى عندما تركت دار فرعون، وهاءنذا سأفقد الثانية التي أشركتني فيها في قيادة شعب إسرائيل إلى الأرض الموعودة. فإذا فشل هذا المخطط، تفقد حياتي معناها، "فاشطبني إذاً يا رب".

وهذا أيضاً ليس مجرد تهديد، ولكنه يبدو كنتيجة حتمية... والرب يفهم ذلك جيداً إذ يجيب موسى "الذي أخطأ إلىّ إياه أمحو من كتابي، والآن اذهب وقد الشعب إلى حيث قلت لك" (خر 32/33).

صلاة الإعياء:

قد كانت لموسى رسالة ألا وهي أن يقود شعب إسرائيل إلى الأرض الموعودة، وقد كلف بهذه الرسالة من قَبِل الله، فالله هو الذي يرسل... لكنه من الصعب أن نفصل بين كيان موسى العميق ورسالته.

فهو يعيش للرسالة التي كلف بها، وهو عندما يشفع للشعب يصلي لنفسه أيضاً، إذ أنه لا يعيش على مستويين: حياته الشخصية ثم الرسالة بل الاثنان واحد. ويعبرّ موسى عن موقفه هذا أمام الله (كما في عدد 11، 11/14) "لم أسأت إلى عبدك... اقتلني إن نلت حظوة في عينيك ولا أرى بليتي". ويتلقى موسى جواب الرب، فالله يقدر إعياء موسى ويفهم جوع الشعب ولكن أكان يجب أن يصل موسى إلى هذا الحد كي يستجيب الله.

وهناك صلاة أخرى لموسى تدعو للتفكير إذ يبدو أن الله هذة المرة لم يستجب له. وصل موسى مع شعب إسرائيل إلى جبل حوريب، ولكن الله لا يريد أن يكمل معهم الطريق إذ إنهم شعب قاسي الرقبة. ويحاول موسى أن يلجأ إلى حظوته في عين الرب، وأن يجعله يعدل عن مخططه. ويرضخ الله بعد محاولات عديدة: "حتى هذا الذي قلته أفعله، لأنك نلت حظوة في عيني وعرفتك باسمك".

قد تشجع موسى بسبب نجاحه هذا، ودنا يطلب "في حَمْوتها" منحة أخرى من الله، ولكنها منحة شخصية هذه المرة، :أرني وجهك" ويأتي رد الرب واضحاً وصريحاً لا جدال فيه، "وجهي، لا تستطيع أن تراه لأنه لا يراني إنسان ويحيا".

ويخطط الرب للقاء من نوع آخر، "هوذا مكان بجانبي، قف على الصخرة فيكون، إذا مرَّ مجدي، إني أجعلك في حفرة الصخرة، وأطللك بيدي حتى أمرّ، ثم أرفع يدي فترى ظهري وأما وجهي فلا يُرى".

فالإنسان لا يرى الله إلا مثلما يلمح من بعيد ظهر عابر طريق، يختفي عند ناصية الشارع. ولكن لا تقل إنك لم تلتق به من قبل، فقد مر الله من هنا، وقد رأيت دليل عبوره لكنك لم تلحق به. وقد تنظر إلى أحداث حياتك، وتلمح آثار مرور الله لكنك لم تتوقع ذلك، فلم تنتبه إلى وجوده كما حدث لتلميذي عماوس. قد تلتقي بالله ولكنك لا يمكن أن تراه.

كانت هذه هي سياسة الله مع موسى بصفة عامة: فقد رأى موسى مجد الله ولكن من الخلف، كما أنه رأى أرض الموعد ولكن من بعيد.

لم يكن من السهل على موسى أن تتحول حياته إلى صلاة، فقد دفع ذلك غالياً: دفعه تارة إلى مصر وتارة ثانية إلى شعب إسرائيل وتارة ثالثة إلى الله نفسه. ومع ذلك فقد وجد حظوة في عين الله وعرفه الله باسمه.

إن أرض الموعد، النتيجة المرجوة لكل مجهود نقوم به، ربما لا نراها. وإن مرور الله قريب، ومع ذلك لا نتعرف عليه إلا من الخلف، ولعل ذلك كافٍ لندرك أن الله قد مر من هنا وأنه كان قريباً قرباً شديداً. وتبقى مسيرتنا – شأننا شأن موسى – مسيرة إيمان.

"كان موسى يطمح إلى الثواب... فقد ثبت على أمره ثبوت من يرى ما لا يرى" (عب 11/ 26 – 27).

(*) عن كتاب "Vers Toi Ils Ont Crié" للأب Raymond PAUTREL اليسوعي الصادر عن مجلة رفاق الكرمة بالرنسية. Supplément Vie Chrétienne no. 375