انطلاقًا مما اكتشفناه عن السمات الأساسية لروحانية الرياضات الروحية الإغناطية، أحب أن أبرز بعض المبادئ التي لابد أن نضعها في الاعتبار عندما نحدّد ما يناسب كل إنسان في ظروفه الشخصية لخير حياته الروحية ولا سيّما نمط صلواته وكثرتها ومدتها.
1- أهمية خبرة الرياضة الروحية وخطورتها
المبدأ الأول الذي لا بديل عنه هو أن نختبر بأنفسنا خبرة الرياضة الروحية بأية صورة من صورها المختلفة. فإن الرياضة الروحية لإغناطيوس هي الوسيلة المفضلة لكي يكتشف الإنسان في عمق حياته دعوة المسيح لأن يشاركه في رسالته، وهذه الخبرة المعاشة في صمت الرياضة هي الأساس لكي يعيش الإنسان حياته كلها مشاركًا في رسالة المسيح.
ولكن من ناحية أخرى هناك خطر أن يُفهم جو الصمت والعزلة الخاص بالرياضة فهمًا خاطئًا خاصًة لمن استمتع أثناء الرياضة بالإحساس القوي بحضور الله في حياته. فالخطر فعلاً أن يحاول الإنسان – إذ يعود إلى حياته العادية – أن يحافظ على هذا الجو اللطيف من الصمت والصلاة، مكرسًا جيدًا لا بأس به للصلاة والتأمل والقراءة في الكتاب المقدس والكتب الروحية الأخرى إلخ.
ولكن سرعان ما يتضح أن الحفاظ على جو الرياضة في وسط دوامة الحياة من رابع المستحيلات للعلماني الذي يلتزم يعيش إيمانه المسيحي وهو يساهم في بناء المجتمع - 8- ، فقد تكون النتيجة هي أن يلوم العلماني نفسه لأنه لا يواظب على الصلاة بالاستمرار المطلوب، - أو أنه يشكو أن صلواته سطحية تعاني من الشتت والملل بل والنوم...
وقد يتضح أن أنماط الصلوات الخاصة بالرياضة قد لا تناسب العلماني في وسط العالم، ولابد من تكملة البحث عن المبادئ التي تساعد على خلق أنماط الصلاة المناسبة لظروف العلماني.
2- دوامة الحياة اليومية هي نفسها مشاركة في رسالة المسيح
أهم مبدأ – من واقع خبرتي الشخصية – هو أن نجدّد نظرتنا إلى حياتنا وأعمالنا من جهة وصلواتنا من جهة أخرى فلا نعتبرهما عالمين الواحد بجانب الآخر بل هما وجهان لنفس الرسالة: أعني المشاركة في رسالة المسيح في سبيل خلاص العالم، وإن اعتبرنا أن حياتنا بكل مجالاتها وتفاصيلها هي المشاركة العملية في رسالة المسيح نفسه فهذه الرؤية وحدها تضمن التوفيق بين الحياة والصلاة.
من يعيش كفاحه من أجل لقمة العيش والسعادة الأسرية والعدالة الاجتماعية كرسالة كلّفه بها المسيح، لا عجب أن يجلس من حين إلى حين مع الرب ليتبادل معه فرحه وحزنه وهمومه ومخاوفه وإنجازاته وفشله، ويكلمه عن أتعابه أو يأسه بل ويسمح لنفسه أن يستسلم أمام الرب للراحة والنوم الذي يحتاج إليه.
فمن البديهي أن المُرسَل يقدّم من حين إلى حين لمن أرسله تقريرًا عن سهولة الرسالة أو صعوباتها، ويناقش معه التساؤلات والظروف الغامضة والتعقيدات التي تحيط بالرسالة، "ورجع الاثنان والسبعون رسولاً فرحين فقالوا ليسوع: يا رب حتى الشياطين تخضع لنا باسمك فقال لهم يسوع: لا تفرحوا بأن الأرواح تخضع لكم بل افرحوا بأن أسماءكم مكتوبة في السماوات" - لو 10/17 – 20- .
3- مضمون الرسالة هو شخص المسيح نفسه
من خلال تكرار هذه اللقاءات الشخصية مع من أرسلنا، نكتشف أكثر وأكثر أن مضمون الرسالة هو شخص يسوع نفسه، فأساس رسالتنا في العالم أن نجعل المسيح نفسه حاضرًا بين الناس بل أن نصبح مسيحًا آخرًا في البيئة التي نعيش فيها، ولذلك ينمو في داخلنا الاشتياق لأن نتعارف عليه أكثر لكي نحبه أكثر ونقتدي به أكثر في وسط الظروف المتقلبة والمتغيرة لحياتنا اليومية، وهذا يدفعنا إلى فتح الأناجيل والتأمل في سيرة حياة يسوع الأرضية.
ومن خلال هذا الحوار مع الرب يسوع الذي يرسلنا وبإرشادنا من روحه القدوس، نميّز ونغربل شيئًا فشيئًا انفعالاتنا وأفكارنا واهتماماتنا ومخاوفنا وأفراحنا، فنتمسك بتلك التي تقربنا من المسيح والتي تتفق أكثر مع روح رسالته الخلاصية، ونبتعد عن تلك التي تبعدنا عن محبة الرب وتغلقنا في أحاسيسنا السلبية من خوف وكبرياء واهتمام زائد بأنفسنا وعدم الانفتاح على مشاعر وآراء الآخرين إلخ.
4- أهمية التجرد عن الذات في سبيل الرسالة
وعملية التمييز هذه – من خلال لقائنا بيسوع في حياته الأرضية – تساعدنا على اكتشاف مصادر المقاومة في داخلنا، ومن هنا نكتشف ضرورة التجرد عن الذات بل إماتة الذات. ويرى إغناطيوس أن التجرد عن الذات أهم من الصلاة، فهو يوضّح للمتروِّض الذي يرغب أن يمتاز في خدمة الرب أن تقديم الذات لخدمة الرب يتطلب أولاً أن "نقاوم ما هو محسوس فينا وحبنا الجسدي العالمي" - ر.ر. 97- .
ويمكن أن نفهم هذا النص من منطلق أن إغناطيوس يقصد إماتة الجسد بالصيامات والسهرات إلخ، وبالفعل كان إغناطيوس يعرف قيمة هذا النوع من الإماتات خاصة في بداية الحياة الروحية والتي تكون فيها تعبيرًا صادقًا عن الحب في خدمة الرب، ولكن ينبع القديس إغناطيوس – في رسائله خاصة – إلى خطر المبالغة في هذا المجال، والتي تنشئ الكبرياء والعناد وعدم الطاعة، لذلك يلحّ إغناطيوس أكثر فأكثر في إرشاداته على أهمية إماتة الإرادة.
فهف الإماتة والتجرد عن الذات إذًا هو المزيد من الحرية التي تسمح لنا أن نختار دائمًا من بين أمنياتنا وميولنا تلك التي توحدنا أكثر مع الرب ورسالته، ونقاوم تلك التي تقلل بل تشلّ فينا روح الخدمة والتأهب والانفتاح على أبعاد جديدة للرسالة مع المسيح.
5- الاجتهاد المستمر في التطبيق العملي لقيم الإنجيل ومطالبها
وليست ثمرة كل صلاة عملاً أو نشاطًا رسوليًا، ونصلي كثيرًا لمجرد اختبار تعزية الرب أو غفرانه أو قوة شفائه لنا أو لقريبنا، ولكن إغناطيوس يحذرنا من أن حبنا للرب قد لا يفوق مستوى المشاعر والأقوال إن لم تظهر ثمرته على مستوى أعمالنا وتقدمنا في خدمة الرب في إطار روح الإنجيل.
والتطبيق العملي للقيم الإنجيلية في حياتنا الشخصية ونشرها في البيئة التي نعيش ونعمل فيها يتطلب منا اختيارات ومواقف حاسمة وفاصلة بين ما هو روح الدنيا وقيّمها وما هو روح المسيح وقيم إنجيله، وكثيرًا ما تتطلب هذه الاختيارات والمواقف الاستعداد لأن نتخلى عما يفعله الناس من حولنا تحت ضغط الموضة والعادات والتقاليد، بل تتطلب منا الموت عن الذات. ولكن من ناحية أخرى تفجر فينا هذه الاختياراتُ الشجاعةُ ينابيعَ من الفرح والسلام بل ملء الحياة لأننا نختبر ارتباطنا الوثيق بالمسيح ورسالته.
ولا نلومّن الروحانية الإناطية كأنها تعاني من مرض العصر الحديث وهو إدمان العمل "Activisme"، فإن مدمن العمل يبحث عن العمل ويكثر منه لمجرد إثبات أو بالأحرى كنوع من الهروب من الذات وبالتالي الهروب من دعوة الاهتداء إلى تحقيق الذات الحقيقية في قبول القيم الإنجيلية التي تعطي ملء الحياة في المسيح. ففي إطار الروحانية الإنجيلية ليس الدافع إلى العمل هو تحقيق الذات بقدر ما هو اكتشاف واختبار أن دعوة المسيح نفسه لأن نعمل ونتعب معه في سبيل نشر ملكوت الآب بين البشر ليست إلا نعمة نطلبها من الرب بالإلحاح والتواضع بقوة الإيمان وبدافع من الروح القدس الذي يعين ضعفنا.
6- التمييز الجماعي كخبرة واقعية لجسد المسيح : الكنيسة
ليست مشاركتنا في رسالة المسيح عملية فردية بحتة بل على العكس هي خبرة إلهام الروح القدس، هذا الإلهام يتعدى خبراتنا الشخصية مهما كانت روحية وصادقة، فالروح يربطنا أكثر بجسد المسيح أي جماعة المؤمنين في الكنيسة.
وكان القديس إغناطيوس يعتبر أن عملية تأسيس الرهبانية اليسوعية هي خبرة جماعية عاشها مع رفقائه – بل وأصدقائه في الرب – في عملية تمييز شاق، من خلال صلوات ومناقشات وأزمات وإجراءات طويلة لدى السلطة الكنسية، حتى حصلوا في النهاية على الاعتماد الرسمي للرهبنة ممن هو قائم مقام المسيح على الأرض: بابا روما. فهدف إغناطيوس من كتابة "القوانين التأسيسية للرهبنة اليسوعية" هو أن يوضّح لليسوعي المراحل المختلفة للمزيد من انتمائه إلى جسد الرهبنة التي تساعده من خلال رؤسائه وإخوته على أن يميّلز رسالته تمييزًا أدق في المكان الذي يُرسب إليه باسم المسيح.
ولا يكتمل تمييزنا لرسالة المسيح وشكلها الواقعي الملموس هنا والآن إلا من خلال خبرة الجماعة في المسيح. ولابدّ للعلماني الملتزم برسالة إيمانه بالمسيح من أن ينتمي إلى جماعة من المؤمنين الملتزمين مثله – كرفاق الكرمة أو غيرها من الجماعات – لكي يختبر بطريقة عملية وملموسة عمل القدس من خلال حياة الشركة في الجماعة كخلية حية صغيرة للكنيسة جسد المسيح. ومن خلال هذه الجماعات الصغيرة، يواظب على عملية التمييز الشاقة هذه في سبيل البحث عن كيفية تطبيق متطلبات الإنجيل الآن وهنا في المجتمع والعالم الذي يجوع ويعطش إلى العدالة والسلام.
7- اختبار محبة الله من خلال الحياة اليومية
بقدر ما يعيش الإنسان الملتزم حياته كمشاركة في رسالة المسيح، يختبر حضور الرب نفسه في جميع جوانب حياته اليومية وأعماله، فهذا النوع من الخبرة الإيمانية التي تجد الرب في كل شيء تدفعه إلى التعبير عن حبه للرب في صلاة تتسم بالشكر والسجود الصامت أمام عظمة محبة الله في كل شيء، فيقول خذ واقبل حريتي كلها... - ر.ر. 234- . ولكن خبرة حضور الله في كل شيء هو موضوع مقالنا الثالث الذي يتناول التوحيد بين الصلاة والحياة.