بقلم خوسيه ماريا رييرا - الرئيس التنفيذي الأسبق لرفاق الكرمة العالمية
هدفنا أن نبحث عن إرادة الله ونجدها في ما يختصُّ بالرسالة: فماذا يريد الربّ منّا في الواقع الذي نشاهده الآن؟ قبل أن نتطرَق إلى المعايير الإغناطيّة من أجل الرسالة، فنوجه تمييزنا ونلبّي كجسد رسوليّ نداءات عالمنا اليوم وتحديّاته، أريد أوّلاً أن نتوقّف لنكتشف مصدر هذه المعايير وكيف أنّها لا تزال سارية حتى الآن.
كان إغناطيوس عاشقًا للحياة ولآمال العالم. وكان رجل المثل العليا أيضًا. متأهبًا للخدمة ومستعدًا للوصول إلى أعلى مراتب السلطة في زمانه.
إنّ هذه الخبرة العميقة بالحياة و"الرغبة" في أن يعيشها مندمجًا تمامًا فيها. لم تفارقه قط. فالمسيرة الروحيّة التي كان الربّ يقوده من خلالها قد ساعدته على أن يعيش كل لحظة طبقًا لما كان يخال إليه أنّه ملائم لتحقيق الأمل الذي يسعى إليه. وفي النهاية تحوّل هذا الأمل إلى طلب من الآب أن يضعه مع المسيح كخادم له وأن يسعى لأن يكون مشابهًا له في إتمام إرادة الآب.
وإذاً كان إغناطيوس يفكر في إرادة الآب تفكيرًا مستمرًا. فيتساءل: "ما هو الأكثر شموليّة؟"
في عصر النهضة في عالم يتحوّل كلّ التحوُّل، عوّض إغناطيوس التوجُّه الإنسانيّ عن القيم الدينيّة السائدة آنذاك، وحيث الثورة الصناعية وتمركُّز العالم حول الإنسان. فتعلَّم إغناطيوس تحليل هذا الواقع المُعقّد بمرجعيّة المسيح الدائمة، فيتساءل: لو كان الربَّ مكانه، كيف يتصرّف؟ إننا نعيش في عصر يشبه كثيرًا العصر الذي عاش فيه إغناطيوس. فعالمنا متغيِّر يسعى نحو عولّمة حيث تؤدِّي بنا متغيِّراته المستمرة وابتكاراته التكنولوجية إلى تحوّل بالغ الأهميّة في ما يخصّ القيم السائدة حتى الآن، مع تشديد على المادية والانفرادية وتمحور سائد حول الاقتصاد. إنه عالم اختار نظام ما بعد الرأسمالية المُهيمن على الاقتصاد. لهذه العولمة ظلالها، فإننا نعيش في الواقع عولّمة مشوهّة تُستَبعدُ منها مناطق كثيرة من كوكبنا ويتزايد فيها عدم تكافؤ الفرص. وبالرغم من عالميّة مظهر وسائل الاتصال، فإن البيئة المحيطة والمصالح الفرديّة تحوِّل الإنسان إلى كائن متمركّز على أنانيّته ولا يهتمّ بالمعلومات إلا بقدر ما تتفق مع مصالحه الشخصيّة.
نجد المعيير الإغناطية الخاصّة بالتمييز الرسوليّ في "سيرته الذاتيّة"، بالإضافة إلى ما نجده في كتاب "الرياضات الروحيّة" وكذلك في "رسائله" حيث يرسم الخطط ويحدِّد الأهداف ويعرض الأساليب في سبيل تحقيقها. أما "القوانين التأسيسيّة" للرهبنة اليسوعيّة فيعرض فيها القديس إغناطيوس معايير اختيار الخدمات والرسالات بأسلوب منهجيّ:
أ- "المزيد"
إن تأهُّبنا الرسوليّ، لا يمكن أن يحدّه مجال رسوليّ معين، فيجب أن نكون مستعدّين مبدئيًا لكل شيء ولأي شيء، شرط عدم تعارضه مع حالتنا الحياتيّة ومع التزاماتنا الأساسيّة كعلمانيّين (العائلة... إلخ). أي إنّ المزيد، الذي نختبره في "الرياضات الروحيّة" والذي نحمله في حياتنا كشعار، يجب أن يكون معيار رسالتنا الأساسيّ.
ب- "يكون الخير إلهيًا بقدر ما هو شمولي": الخير الأكثر شمولية والأكثر استمرارية
فالخير، الذي نسعى إليه في خدمتنا "كلما زاد طابعه الشمولي زاد طابعه الإلهيّ "القوانين التأسيسية" رقم 622). وبما أن الخير يزيد طابعه الإلهيّ بقدر ما هو شمولي، فعندما نميِّز رسالتنا ونختارها، يجب أن نفضِّل الأشخاص والأماكن حيث يمتد تأثير هذا الخير إلى آخرين.
لذلك يجب علينا نحن العلمانيِّين ألاّ نرفض، عن خوف أو خجلّ، تحمّل مسئوليات قياديّة أو سياسيّة تضعنا في الصفوف الأولى من اللقاءات الوطنيّة أو الإقليميّة أو الدوليّة. ويجب علينا ألاّ نخشى مجاورة ذوي النفوذ أو ذوي السلطة، إذ علينا التواجد – بتأهُّبنا وقداستنا – حيث يمكن مضاعفة إعلان البشرى أو التأثير في المؤسّسات أكثر منه في الأشخاص، مُدركين لحدودنا ومستعينين بالآخرين (مساعدينا الكنسيِّين ورفاق جماعاتنا، إلخ). ليس من الأصلح أن نختار الأمور الصغيرة خوفًا من مواجهة تحديات ما هو أعظم.
الخير الأعظم: لمضاعفة تأثير خدمتنا الرسولية أهميّة كُبرى في رسالتنا. فربما نكون ميَّالين للالتزام بخدمة ممتازة وجليلة، ولكنّ تمييزنا قد يؤدِّي بنا إلى غيرها من الخدمات، يمكننا من خلالها الوصول إلى عدد أكبر من الناس، فيجب تفضيل هذه الخدمة الأخيرة على الأولى. إنّ هذا مهمّ جدًا في الأزمنة التي نعيش فيها حيث الحصاد كثير والفعلة قليلون. كذلك ما هو دائم يجب تفضيله على ما هو مؤقت.
جـ- "الحاجة الأكثر إلحاحًا": ضرورة الخدمة
إنّ تحليلاً متعمقًا ومتخصصًا لمعرفة حقيقة الواقع الاجتماعيّ والثقافيّ، وما يتضمنّه من مظاهر دينيّة وسياسيّة، لَمِنَ العناصر الضروريّة للتمييز الرسوليّ الفعّال. وإنّ هذه الوسائل لابد وأن تكون مرتبطة بالوسائل الروحيّة، كالصلاة والتمييز والتوجُّه الروحيّ الذي نستلهمه من "الرياضات الروحية".
د- الحضور حيث لا يحضر الآخرون والتواجد حيث لا يتواجدون
يرشدنا هذا التحليل للواقع الاجتماعيّ والسياسيّ والثقافيّ، والذي أشرنا سالفًا إلى أهميّته، إلى اكتشاف الأماكن حيث الضرورة لم تتّضح بعد ولم تظهر، أو حيث الصعوبات لم تسمح بالحضور، أو حيث الانعزال واليأس يدعوانا إلى أن نشهد للرجاء. إن موقفنا عند تقرُّبنا من الآخر المختلف عنّا ثقافيًا وإيمانيًا، يجب أن يكون موقف احترام وانتباه إلى ما يُمكننا أن نبنيه معًا. ونتعلّم أيضًا أسلوب الحوار المثمر، علمًا بأنّنا مُستعدوّن دائمًا لمجاوبة من يسألنا عن سبب رجائنا، فلا نخاف من إعلان هُويّتنا.
هـ- لكي تصبح رسالتنا ما يجب أن تكون – بحسب رغبة أبي ربنا يسوع المسيح – يجب أن نأخذ بجدية ضرورة التكوين المتين المتعمق
لا يمكننا – هنا أيضًا – أن نكتفي بالقليل. فكيفّ يُرسلنا الربّ وكنيسته لإلان البشرى لعالم اليوم بدون إعداد جدِّيّ ومستمرّ؟
إن هذا التكوين مُتطلِّب ويتعلّق بالمستويات الإنسانيّة والروحيّة والعقائديّة والأخلاقيّة والرعويّة. إن رجال اليوم ونساءه متعطّشون إلى الحقيقة، لكنهم في الوقت عينه يتشكّكون من رداءة الوضع. فكيف نقدِّم لهم أناسًا غير مُعدِّين للرسالة التي هم مرسَلون إليها؟ إنّ الرهبانيّة اليسوعية يمكن أن تساعدنا كثيرًا في هذا المجال، كما فعلته دائمًا.
و- وختامًا، إليكم هذا المعيار الأخير، وليس أقله أهمية: التعاون مع الرهبانية اليسوعية
إنّ مجمع اليسوعيّين الرابع والثلاثين فتح لنا أفاقًا هامّة في القرار 13 في التعاون بين اليسوعيِّين والعلمانيّين. فإذا كان هذا القرار يختصّ بالعلمانيِّين المُقربّين من اليسوعيّين، فإنَّه يتعلق بنا بوجه خاصّ، بصفتنا تجمُّعًا علمانيًا نسلتهم الروحانيّة الإناطيّة. فلدينا قاسم مشترك مع اليسوعيّين، ولا سيّما ذلك الإرث الذي هو منبع دعوتنا، ألا وهو اختبار "الرياضات الروحيّة". فالأمر إذًا مُلٌّ، فنشعر بها معًا. فنحن مدعوُّون أكثر من ذي قبل إلى العمل معًا جنبًا إلى جنب، كرفاق في الرسالة. اسمحوا لي بأن أذكر ما جاء في "القوانين التأسيسيّة" اليسوعيّة في الفقرة 206 عدد 2:
"نريد التعاون مع العلمانيّين كرفاق حقيقيّين، فنخدم معًا متعلمين بعضبنا من بعض، ومستجيبين لاهتماماتنا ولمبادراتنا المشتركة، ومقيمين حوارًا حول أهدافنا الرسوليّة، مُستعدّين دائمًا للخدمة كمستشارين ومساعدين ومعاونين في الأعمال التي ينمّونها".
إنّ طريق التعاون مزدوج الاتجاه؛ فإذا كان إخوتنا اليسوعيّون مستعدّين لذلك، فعلينا – نحن أعضاء رفاق الكرمة – أن نكون نحن أيضًا مستعديِّن له. فلنعتبر هذا التعاون المتبادل معيارًا أساسيًا لرسالتنا اليوم، ولنعط الأولويّة كجماعة رفاق الكرمة العالميّة لكل ما يمكن أن يعضد الجهود والمبادرات الرسوليّة مع اليسوعيّين ولكلّ ما يساعد الرسالة على المضي قدمًا وعمقًا.
عن محاضرة ألقاها خوسيه ماريا رييرا - الرئيس التنفيذي الأسبق لرفاق الكرمة العالمية - في مؤتمر إيتايسي في البرازيل - 1998 - وقد نُشر المقال المترجم في مجلة رفاق الكرمة في مصر.