بقلم الأب جاك ماسون
في هذه الأيام، أيام الاضطرابات والتوتر في بلدنا، تضطرب نفسي..
في هذه الأيام التي يتقاتل فيها إخوتي، مسيحيو لبنان: تضطرب نفسي..
وذلك لأنه أمام عيني ذاكرتي كلمات يسوع: "أقول لكم لا تقاوموا الشر. بل من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر" (متى 5/ 39).
بينما أسمع أن تجارة السلاح تروج في الصعيد وأرتعد أمام الخطر الذي أشعر به لتصاعد حدة العنف والتي لا يمكن أن تؤدي إلا إلى مذابح مأساوية.
أي موقف نتخذه؟
أو كيف يمكن أن نعيش هذه المواجهة بأسلوب مسيحي؟
1) أول موقف: الهرب:
"خلاص ما فيش مكان للمسيحيين هنا.. ياللا ندور لنا على حتة تانية... نهاجر!!" والبابا شنودة يعلن: "منذ 20 سنة، كان لنا 17 كنيسة بين كندا والولايات المتحدة، أما الآن فلنا 73 كنيسة".
أهو تقرير النصر؟
أم دفتر حسابات مر للهاريين؟
أم الرضا أمام تزايد عدد الحكماء الذين اتبعوا نصيحة يسوع المسيح: "متى طردوكم من هذه المدينة فاهربوا إلى الأخرى" (متى 10/ 23)
2) الموقف الثاني: المقاومة المسلحة:
بموجب الحق في الدفاع عن النفس: "طالما استمر خطر الحرب قائماً، لا يمكن أن ننكر حق الدفاع عن النفس" (المجمع الفاتيكاني الثاني، الكنيسة في العالم المعاصر، رقم 79/3) إن الاعتراف بحق الدفاع عن النفس يتبعه دون شك الاعتراف بالحق في الدفاع المسلح العنيف.
ومع وجود نصيحة يسوع: "الآن... من ليس له (سيف) فليبع ثوبه ويشتر سيفاً." (لوقا 22/ 36)، وكذا التعليم الكلاسيكي للكنيسة عن الحق في الدفاع الشرعي عن النفس، يمكن أن نتساءل هل نجد هنا بالفعل روح الإنجيل، لأنه مكتوب أيضاُ "رد سيفك إلى مكانه، لأن كل الذين يأخذون بالسيف بالسيف يهلكون" (متى 26/ 52).
3) الموقف الثالث: السلام بأي ثمن:
وهو موقف من يحملون في حياتهم شعار: "خصوصاً، بلاش مشاكل". وإذا اتبعت هذا الشعار فكل الحذر مشروع وأيضاً كل الحلول الوسطى. وسنحول الخد الأيسر قبل أن يُصفع الخد الأيمن. وسنجتهد في اتباع نصيحة يسوع: "كن مراضياً لخصمك سريعاً ما دمت في الطريق" (متى 5/ 25). فلنختبئ ونتضع ونلزم الصمت على أمل المرور من فتحات شباك الصياد.
هذا الموقف هو ما يطلق عليه مارتن لوثر كينج السلام السلبي: "طالما أن الأسود يتخذ موقف الرضوخ هذا ويقبل بـ"المكان" المخصص له، فسيبقى سلام عنصري إلى الأبد ولكنه سلام صعب فيه يرى الأسود نفسه مضطراً للرضوخ للسب والظلم والاستغلال. لذا فهو سلام سلبي فالسلام الفعلي ليس غياب بعض القوى السلبية – كالتوتر والفوضى وحالة الحرب – فحسب، بل يفترض وجود بعض القوى الإيجابية كالعدالة والنوايا الحسنة والأخوة" (مارتن لوثر كينج: رأيت فيما يرى النائم ص 20).
4) الموقف الرابع: اللاعنف الإيجابي:
وهنا، لا أجد خيراً مما كتبه مارتن لوثر كينج نفسه، تحت عنوان "بديلا للعنف". فهو يقول:
"لمن يرفض العنف، يبقى خيار المقاومة السلمية (غير العنيفة). وقد استخدم المهاتما غاندي هذه الطريقة لتحرير الهند من احتلال الإمبراطورية البريطانية وصنع شهرة هذه الطريقة بين أجيالنا. ويمكن أن نورد خمسة أسباب في صالح اللجوء المنهجي للّاعنف في سبيل تحسين الأوضاع العنصرية:
1) أولاً: فهي ليست طريقة يتبعها الجبناء بل هي مقاومة أصيلة. فالمقاوم اللاعنيف يتصدى للشر بالقوة نفسها التي يتصدى بها دعاة العنف. وطريقته تسمى بالمقاومة السلبية أو غير العنيفة لأنه لا يهاجم عدوه مادياً. ولكن عقله وقلبه في يقظة دائمة باحثاً بلا كلل عن طريقة يقنع بها الآخر بأخطائه. وإن كنا نسمي الطريقة بالسلبية، في الناحية المادية، فهي تتطلب عملاً روحياً مكثفاً، بدلاً من الهجوم المادي تقدم هجوماً روحياً ديناميكياً.
2) ثانياً: فالمقاومة اللاعنيفة لا تهدف إلى هزيمة أو إذلال الخصم بل إلى أن تكسب صداقته وتفهمه. وغالباً ما يضطر المقاوم اللاعنيف إلى أن يعبر عن اعترافه برفض التعاون أو المقاطعة، واعياً بأن هذه الطرق ليست غايات في حد ذاتها بل وسائل تهدف إلى إيقاظ إحساس أخلاقي بالخجل في المعسكر الآخر. الهدف هو إذا الفداء والمصالحة. واللاعنيف يؤدي إلى خلق مجتمع حب، بينما يؤدي العنف إلى المرارة والمأساة.
3) وثالث خاصية لهذه الوسيلة هي ان الهجوم موجه ضد قوى الشر بدلاً من الأشخاص الواقعين في أسر الشر. وهذه القوى هي ما نحاول تدميره لا الأشخاص الذين سيطرت عليهم. ومن يحاربون الظلم العنصري يجب أن يصلوا إلى الاعتراف بأن أساس التوتر ليس مشكلة بين عنصرين. وكما كنت أحب أن أقول لسكان مدينة مونتجومري في ولاية ألاباما: "أن التوتر لا ينشأ في مدينتنا بين البيض والسود. في الحقيقة، إنه بين العدل والظلم، بين قوى النور وقوى الظلمة. فإن كان هناك نصر، فليكن نصراً للعدل ولقوى النور لا لـ50 ألف أسود فحسب. فنحن دخلنا حلبة الصراع ضد الظلم لا ضد البيض الذين قد يمارسون الظلم".
4) حجة رابعة يجب ذكرها في صالح المقاومة السلمية، وهي أنها لا تكتفي بإبعاد كل عنف خارجي مادي بل كل عنف داخلي للروح. ففي قلب مبدأ اللاعنف يكمن مبدأ الحب. وفي دفاع الشعوب المقهورة عن الكرامة الإنسانية، عليها إلا تقع في شرك المرارة أو أن تندفع في حملات كراهية. فالرد بالكراهية والمرارة والحقد لن يؤدي إلا إلى تضخيم الكراهية في العالم. وفي خضم الأحداث، يجب على طرف ما أن يُظهر بعض العقل والحكم السليم والمبادئ الأخلاقية لكسر سلسلة الكراهية. ولا يمكن أن نصل إلى مثل هذه الغاية إلا بإظهار أخلاقيات الحب في قلب حياتنا.
5) أخيراً، فطريقة اللاعنف مؤسسة على الإيمان بأن الكون إلى جانب العدالة. وهذا الإيمان العميق في المستقبل هو ما يدفع المقاوم اللاعنيف إلى قبول الألم دون الرد عليه. وهو يعرف أن في حربه من أجل العدالة يصحبه حضور كوني عظيم. هذه باختصار هي المقاومة السلبية. وهي طريقة تمتحن إرادة كل الشعوب التي تحارب من أجل الحرية والعدالة. والله يريد لنا أن نسير نحو المعركة في نظام وكرامة.ولينبذ كل من يتعرضون للقهر في هذا العالم كل وسائل الثأر والعنف، المحكوم عليها دائماً بالفشل، وليختاروا الطريق المؤدي إلى الخلاص. فإن ما استخدمنا هذه الطريقة بحكمة وشجاعة، سينجلي هذا الليل الحزين الذي فيه يكشف الإنسان لأخيه عن لا إنسانيته، وسنخرج في الفجر المتلالئ للحرية والعدالة.
الخاتمة
وأمام هذه التوترات التي يجب أن نعيشها اليوم، عرضنا أربعة مواقف ونرى حولنا من يعيشونها. وكل منها يمكن تبريره باللجوء إلى استشهاد من الإنجيل أو من تعاليم الكنيسة. "يعني إيه؟ نعمل أي حاجة؟"
هذا معناه، في المقام الأول، أنه ليس هناك موقف بعينه على الجميع أن يتبعوه. بل كل شخص عليه أن يعود إلى حكم ضميره وإلى الدعوة التي يدعوه إليها الروح من خلال الأحداث والمواقف، وكذا إمكانياته الشخصية.
وهذا معناه بالتبعية أنه لا يمكن أن نحكم على أي شخص لأنه اتخذ أياً من المواقف الأربعة، ولكن يمكن أن نتلمس في كل منه مزايا وحدود في الظروف الحالية.
أولاً: الهرب إن كان فيه نجاة أفضل من الارتداد عن الدين ولكنه ليس حلاً إلا لمن يملك وسائل الهروب إلى مكان آخر. وتبقى المشكلة على حالها لمن يضطرون إلى البقاء وهم عادة الأصغر والأضعف. وكذلك فهي تضعف الجسد الاجتماعي للكنيسة،وبالأخص فهي لا تقدم أي حل لمشكلة العدالة أو حق كل فرد في أن يعيش إيمانه بحرية وأمان.
ثانياً: المقاومة المسلحة:
هذا الموقف الذي يتخذه مسيحيو لبنان لا يمكن تبريره في مصر في الظروف الراهنة، لأن التجاوزات التي تصدر عن البعض لا تهدف بالفعل المسيحيين بل نظام الحكم ذاته. إذاً فهو موقف مرفوض تماماً. يمكن تبريره في حالات خاصة، ولكن لا يمكن أن نصدر به حكماً عاماً لتبريره كحل للمشكلة التي نعيشها.
ثالثاً: السلام بأي ثمن أو السلام السلبي:
هذا الموقف قد يظهر للوهلة الأولى الأكثر تطابقاً حرفياً مع الإنجيل "لا تقاوموا الشر بل..." (متى 5/ 39) وجانبه الإيجابي هو أنه يفلت من تصاعد العنف المخرب، أما حدوده فهو في استمرار حالة الظلم وترك مهمة إعادة الحقوق المهدورة التي يتجاهلها البعض أو يستهينون بها.
رابعاً: اللاعنف الإيجابي هو بالقطع الموقف المثالي والذي يدعو إليه يسوع المسيح حقيقةً، وهو ما وضع مفهومه غاندي ومن بعده مارتن لوثر كينج، وعاشوه كما عاشه مانديلا وآخرون، ولكنه يستلزم قادة أقوياء سيتعرضون للاضطهاد والافتراء والوشاية والسجن، لأن الظلم لا يرضخ بسهولة أمام اعتراض المظلوم الذى يطالب باحترام حقوقه.
ولكن كيف لنا بطريقة أخرى لنبني عالماً أكثر عدالة وأكثر أخوة ؟
"أنا أناشدك إذا أمام الله
ويسوع المسيح العتيد أن يدين الأحياء والأموات عند ظهوره وملكوته،
أكرز بالكلمة
أعكف على ذلك في وقت مناسب وغير مناسب
وبّخ... انتهر... عظ بكل أناه وتعليم .
وأما أنت، فاصفح في كل شيء،
احتمل المشقات، اعمل عمل المبشر،
تمم خدمتك.
(من رسالة القديس بولس الثانية إلى تيموثاوس 4/ 1، 2، 5).