لو عرفنا كيف ننظر إلى الحياة

لو عرفنا كيف ننظر إلى الحياة

بقلم الأب فرنسيس بركماير اليسوعي

لو عرفنا كيف ننظر إلى الحياة لتحدّثت الحياة كلها بحب الآب الخالق. فمشاهدة الله في كل حين وفي كل شيء تتطلب تجديد نظرتنا إلى كل شيء وإلى الحياة عمومًا. ونستعرض سبعة جوانب من حياتنا: الظروف المزعجة - نظرة مجانية إلى الأشياء - خبرة الواقع تغير من المفاهيم - نظرة جديدة لأخي الإنسان - معرفة الله من خلال الاعتراف بالجهل - التجرد الداخلي مفتاح حب الله في كل شيء - حوار الحب المستمر.

1- الظروف المزعجة

يمكن أن نشبّه الظروف المزعجة بالضجيج، ومن التمرينات المفضلة للتركيز والاسترخاء هو الإصغاء إلى الأصوات المحيطة. نشتكي في مرات كثيرة من الضوضاء، ورد الفعل الطبيعي هو أن نبحث عن الهدوء في مكان آخر. ولكن يبدو أن هذه الأماكن نادرة جداً. لا مفرّ لنا إلا أن نعمل من الأصوات نفسها موضوعًا للتأمل!!

وإليكم هذا التمرين :
- في البداية، نركز على الأصوات المحيطة ونحاول أن نكتشف أكبر كم من الأصوات المتباينة: القريبة والبعيدة، المرتفعة والخافتة.
- ثم نختار صوتًا معينًا بين الأصوات المختلفة ونصغي إليه بتركيز ونحاول أن نسبر جميع نغماته بدرجاتها المتعددة.
- أمّا نتيجة هذا التمرين فهي غير متوقعة، فالإصغاء إلى الأصوات الخارجية يولّد فينا نوعًا من الصمت الداخلي والهدوء والسلام الذي يساعد على التركيز.
ويؤكد علم النفس أن السلام الداخلي والسعادة لا يرتبطان بالظروف الخارجية بقدر ما يرتبطان بكيفية قبولنا لحوادث الحياة ونوعية تجاوبنا معها، شأنهما شأن الصمت الداخلي وتأثره بالضوضاء المخيفة.

فيقول اليسوعي الهندي أنطوني دي ميللو: "إن الأصوات عندما تحاول أن تفرّ منها أو عندما تحاول أن تطردها من وعيك أو عندما تتمرد على تواجدها، تبقى فعلاً مصدرًا للتشتت والإزعاج. ولكن عندما تقبلها ببساطة وتعيها بكل وعيك سوف تختبر أن ما كان مصدر إزعاج وتشتت يتحوّل إلى وسيلة لبلوغ الصمت الداخلي".

وبقدر ما ننظر إلى الحياة بطريقة واقعية ونقبل أن هناك مشاكل عديدة، نكتشف كنزنا الخاص. وفي عمق بئر التعاسة نجد مياه الحياة بشرط أن ننزل إلى أعمق أعماق البئر. لذلك قال يسوع لسمعان بطرس بعد ليلة من التعب في صيد السمك من غير نتيجة: "ادخلوا إلى العمق وألقوا شباككم للصيد" (يو 5/4).

2- نظرة مجانية إلى الأشياء

إن نظرتنا إلى الأشياء تتأثر بمفاهيم تكونت من خلال خبرات وتجارب الماضي، ونحن نكاد – ولا سيما في عصرنا هذا – ننظر إلى كل شيء من حيث منفعته لنا أو ضرره علينا... وليست هذه النظرة العملية خاطئة في حد ذاتها فالكتاب المقدس نفسه يشجعنا أن نتسلط على كل المخلوقات ونستفيد منها (تك 1/28). ولكن الخطر هو أن نظرتنا هذه تمنعنا من أن نكتشف أن واقع الأشياء أعمق من فائدتها السطحية.

فالإنسان الروحي في كل دين وفي كل زمان اختبر أن كل مخلوق يكشف لنا بطريقته سمة من سمات الخالق نفسه. فـ"صفات الله الخفية ظاهرة للبصائر" (روم 1/20 وحكمة 13/1). ومشهد النجوم بالليل يجعلنا نستشعر قدرته (أشعيا 40/25)، والتأمل في الخليقة هو بداية مشاهدة الله (أيوب 38 إلى 40). لذلك فإن المخلوقات حاجز بيننا وبين رؤية الله ولكنها تكشف في الآن ذاته كشفًا شفافًا وأعمق لحضور الله.

ويحكى أن مجموعة من الأصدقاء صعدت إلى الجبل، وكان أحدهم جيولوجيًا ففتش عن أنواع مختلفة من الرمال ولاحظ أنماط الرخام، و كان أحدهم عالم أحياء فاهتم بأكبر عدد من الحيوانات والحشرات التي تعيش في هذه البيئة . ولكن كون المرء يبحث عن شيء معين، يجعله لا يرى الجبل نفسه، بل يرى الحجر أو الرمال أو الكائنات الحية، ولا يزال الجبل يخفي أسراره. ولذلك أدعوك أن تذهب معي إلى الجبل وأنت لا تريد شيئًا فتعيش فيه وتتفاعل معه؛ وتتنفس هواءه، وتشعر بالريح على وجهك، وترى الجبال المغفرة القاحلة، وتعاني من العطش ومن التعب في رجليك، وتصغي إلى صوت الجبل، فلدى الجبل رسالة خاصة لك تكتشفها بقدر ما تتجرد عن اهتماماتك السابقة وترحّب بالجفاف والتعب بل وتتحول أنت بدورك إلى جزء من الجبل نفسه.

وعندما ينظر الإنسان هذه النظرة التأملية إلى الأشياء، ينسجم معها ويتحد بها اتحادًا كيانيًا. إنها خبرة القديس فرنسيس الأسيزي (1181 – 1226) الذي كان يعظ العصافير في الحقول، ويٍحكي أنه حتى الذئب المتوحش كان يطيعه ويستعطي حنانه. وتعبّر هذه القصة عن حقيقة واقعية وهي أن الإنسان المتجرد عن نفسه يختبر في نفسه انسجامًا كاملاً مع كل شيء ويدرك أن كل شيء يساعده على فهم سر حياته الشخصي وسر حضور الخالق فيه.

3- خبرة الواقع تغير من المفاهيم

إن أردت أن ترى شجرة كما هي لابد أن تتجرد حتى عن اسمها لأنك قد تتوهم أنك تعرف الشجرة بمجرد معرفة اسمها. بل أكثر من هذا فلابدّ أن نتجرد عن جميع خبراتك السابقة لا عن أشجار أخرى فحسب بل أيضًا عن هذه الشجرة نفسها، لكي تنتبه إلى هذه الشجرة كما هي هنا والآن، وتتفاعل معها كأنك تراها لأول مرة. ولا طريقة أخرى لاختبار حضور الله في مخلوقاته إلا المشاهدة المتحرّرة من جميع الأحكام السابقة لكي تنفتح على ماهية سر وجود الله في كل شيء. لابد أن تبذل جهدّا مستمرًا لكي تتحرّر من الأحكام السابقة وتتجرد من أية رغبة في الامتلاك في سبيل اختبار ما هو إلهي في كل شيء. 

ومن ناحية أخرى، ليست مشاهدة الله في كل شيء نتيجة للجهد الذي تبذله بل هي نعمة وهبه من عند الرب نفسه، فكلما اختبرت حضور الله في حياتي أو في الطبيعة أو في حياة إنسان أثّر فيّ، اختبرته كمفاجأة وهبة تفوق كل ما بذلته من جهد في سبيل التحرر الداخلي. ولذلك لا أعرف أن أميّز شخصيًا بين خبرة حضور الله وخبرة الانسجام مع الخليقة التي تظهر في لحظة النعمة لابسة ثوبًا جديدًا وتبشّر بالأرض الجديدة والسماوات الجديدة.

4- نظرة جديدة لأخي الإنسان

نحتاج أيضًا إلى تحرير نظرتنا إلى أخينا الإنسان لكي نكتشف فيه سر حضور الله. قد نقول عن فلان إنه "صعيدي" أو أي لقب آخر مثل "خواجة" أو "فلاح" أو "عصبي" أو "خدوم" إلخ دون أن نعي أن استخدام هذه الألقاب يحبس الواحد الآخر داخل قوالب ضيقة. ولكننا نسرع في علاقاتنا اليومية في إطلاق أحكامنا المسبقة الواحد عن الآخر. وقد حلّل الفيلسوف الفرنسي سارتر نظرة الإنسان إلى أخيه الإنسان فأثبت كيف أن نظرة الآخر تجمدني وتشلني كأني أحس أن نظرته إليّ تعرّيني وتسلبني شخصيتي. ولكن نظرة الحب هي نظرة تشجيع بعيدًا عن أي حكم مسبق، وهي نظرة تنتظر شيئًا جديدًا سوف يظهر في الآخر. أمّا الحكم على الآخر – سواء كان سلبيًا أم إيجابيًا – يحدّد احتمالات نمو الآخر، فالحب الحقيقي لا يقول أنت كذا أو كذا بل يسأل "من أنت؟". ومن المستحيل أن ندرك عمق الآخر بجميع إمكانياته واحتمالات حريته طالما فهمنا شخصية الآخر (أو حتى شخصياتنا نحن) وحددناها في إطار تصرفاته من حيث هي نتيجة تأثير بيئته أو موروثاته.

وقد لاحظت في ذاتي نوعًا من الاختناق عندما اكتشفت نمط شخصيتي من خلال بعض الاختبارات مثل- THE ENNEAGRAM, MYERS - BRIGGS-، ومع أن هذه الاختبارات ساعدتني كثيرًا على اكتشاف صفات إيجابية فيّ ولكني لاحظت أني بدأت أحلل تصرفاتي اليومية من منطلق نتائج هذه الاختبارات، وبالتالي كنت على وشك أن أفقد تلقائيتي بل وحريتي تجاه شخصيتي؛ كأني كنت أحكم على نفسي حكمًا مؤبدًا بأن أتصرف بحسب أنماط ثابتة غير قابلة للنمو والتطور.
ولكن واقع الحياة يتطلب في مرات كثيرة أن نحكم على الآخر وعلى إمكانياته بغرض تعيينه في وظيفة، وحتى المدرس كمربي لابد أن يحكم على قدرات واستعداد تلاميذه في سبيل اختيار الأسلوب التربوي المناسب؛ فالحكم على الآخرين مطلوب أحيانًا إذًا ولكن من المهم جدًا أن نكون واعين أن حكمنا وقتي ونسبي؛ لأنه توجد في أي إنسان شرارة من الحياة الإلهية في حالة خلق دائم. وتتطلب مشاهدة هذه الشرارة الإلهية أن نقوي القدرة التأمّلية بدون أحكام مسبقة.

ولكن تعلمني خبرتي الشخصية أنه يصعب علي عادة أن أتجرد عن أحكامي المسبقة على الآخر. كأني أشعر بعدم الأمان طالما لم أحكم عليه. ويفسر علم النفس هذا الميل للحكم السريع على الآخر بأن الآخر – من حيث كونه سر يفوق إدراك الإنسان – يخيفنا ويقلقنا، فنحاول بحكمنا السريع أن نسيطر على الموقف المخيف ونتغلب على الخوف من الآخر المجهول بأحكام ومفاهيم محدّدة بدون أن ندرك كيف أن شخصية الآخر لا تزال كتابًا مغلقًا أمام إدراكي.

5- معرفة الله من خلال الاعتراف بالجهل

يحاول الإنسان في كل دين أن يتغلب على خوفه أمام سر وجود الله بصياغة مفاهيم دينية نسميها عقائد، وقد يتمسك البعض بهذه المفاهيم تمسكًا صارمًا عصبيًا كأنها الله نفسه. والموقف الإيماني هو معرفة عن الله وإنكار في الوقت نفسه لكون هذه المعرفة هي الله نفسه. مع أن المتصوفين الحقيقيين يعلِّمونا أنه لابد من إنكار كل ما نصل إليه من خبرة أو معرفة عن الله، فلذلك يميّز الأب أنطوني دي ملو بين الدراسة العلمية والمعرفة الإيمانية ويقول: "إن هدف الدراسة العلمية أن تفسر الأمور وتخلق معرفة جديدة، أما المعرفة الإيمانية فهي تعلم كيف نتأمل في الأشياء بطريقة تثير التعجب والاندهاش. فالإنسان في جوهره جاهل أمام سر الله مهما أدرك من وجوده. ولا تلغي الدراسة العلمية هذا الجهل الأساسي بل تغطيه بأوهام المعرفة، وعلى المعرفة الإيمانية الحقيقية أن تبرز هذا الجهل الأساسي الذي فيه نجد الله". ولم يرد الله أن يكشف اسمه لموسى عندما ظهر له في العليقة (خروج 3/13 – 14)، ومن الممكن ترجمة النص العبري حرفيًا "أنا هو ما أنا"، ويبفى الله سرًا في نظر الإنسان.

6- التجرد الداخلي مفتاح حب الله في كل شيء

على من يريد أن يجد الله في كل شيء أن يتجرد من جميع أفكاره السابقة المتجمدة، لا في ما يتعلق بالخالق فحسب بل أيضًا في ما يتعلق بالمخلوقات نفسها من حيث هي آثار الله في كل شيء، وعلى مَن يريد أن يجد الله أن يتعلم كيف يصغي إلى الصمت الداخلي في نفسه وفي كل شيء، فهذا الصمت يقوده إلى أبعد ويفتح قلبه على سر حضور الله الذي يتعدى جميع المخلوقات ويسمو عليها، أو بكلمات الآب ميشال كواست: "لو عرفنا كيف ننظر إلى الحياة بعين الله، لأصبحت الحياة كلها علامة ناطقة، لأصبحت كلها بوادر حسية تشير إلى حب الآب الخالق الساعي وراء حب الخليقة.

وضعنا الآب في العالم لا لكي نسير وأنظارنا مشدودة نحو الأرض، بل لكي نتتبع آثاره في الأشياء والأحداث والأشخاص. كل شيء مدعو لأن يكشف لنا الستار عن سر الله، فلا حاجة إلى الصلوات الطويلة لكي يبتسم لنا المسيح ونبتسم نحن له في خضم الحياة اليومية الروتينية. وحتى القديس إغناطيوس يعلم رفاقه أنه ليس المهم كثرة الصلوات بل التجرد عن الذات في سبيل حب الله في كل شيء: "وبقدر ما تتجرد عن ذاتك في كل شيء تجد الله في كل شيء"

7- حوار الحب المستمر

والطريق الطبيعي للعلماني الملتزم ببناء المجتمع والكنيسة – لكي يعيش هذا التجرّد في سبيل مشاهدة الله في كل شيء – هو أعماله اليومية، فكل مؤمن بالمسيح مدعو لأن يشترك مع المسيح في تبادل الحب بين الآب والابن (راجع إنجيل يوحنا كله ولا سيّما يو 15/1 – 17 الكرمة الحقيقية ويو 17 صلاة يسوع).
"أنا لا أدعوكم عبيدًا بعد الآن لأن العبد لا يعرف ما يعمل سيده بل أدعوكم أحبائي لأني أخبرتكم بكل ما سمعته من أبي" (يو 15/15).

إذًا لا يُحكم على العلماني أن يكون مثل مرثا، ولا يعيش حبه للرب إلا من خلال أشغاله واهتماماته الكثيرة، بل من حق العلماني أن يكون أيضًا مثل مريم ويجلس عند قدمي يسوع ويتأمل "في كل كلمة تخرج من فمه" (لو 10/38 – 42)، ومن حق العلماني أن يكون مثل التلاميذ بعد ليلة تعب في الصيد فإذا بهم يجدون يسوع واقفًا على الشاطئ وقد أعدّ الإفطار كالصديق المخلص، ومن حق العلماني أن يسمع قول يسوع لتلاميذه "هاتوا من السمك الذي أمسكتوه الآن" (يو 21/1 – 14)؛ فيسوع يشتاق إلى أن يقضي وقت راحة مع تلاميذه وأن يشاركهم أتعاب أعمالهم وثمارها في جلسة صداقة.

من حق العلماني أن يسمع سؤال الرب "هل تحبني؟"، ومن حق الرب أن يسمع رد العلماني المحب "يا رب أنت تعرف كل شيء وتعرف أني أحبك"، فوقتئذ ينطلق العلماني من جديد في رسالته في وسط العالم عندما يسمع كيف يقول له الرب بكل حنان: "ارعَ خرافي" (يو21/15 – 19).