بقلم الأب حنا فور اليسوعي
لندرس الآن الوسائل الرئيسية المستخدمة في الرياضة في سبيل الوصول إلى هذه الغاية.
1- الصلاة الدائمة
الرياضة كلها مكرسة للصلاة، نتعلم فيها التركيز والانتباه الدائم. والمعروف أننا كثيرًا ما نفصل بين أوقات الصلاة وأوقات النشاط في العمل، والترفيه أو الاستجابة لاحتياجات الطبيعة مثل الأكل أو النوم وغيرهما.
ولا شك أن لكل شيء وقته (جا 3) ولا يزال إغناطيوس ذاته يحدد مواعيد دقيقة ومدة معينة لأوقات مخصصة للصلاة. إلا أنه يريد في الرياضة أن تكون جميع الأوقات مسخرة لخدمة نجاح المشروع الروحي المقصود.
هذا ما نقصده أولاً من الاختلاء بعيدًا عن مشاغلنا العادية فنقرأ في التنبيه 21: "ينجم عن هذه العزلة فوائد عديدة منها ثلاث أهم من غيرها:
أولها أن ابتعاد هذا الإنسان عن الأصدقاء والمعارف مع تركه أشغالاً كثيرة ليست موجهة إلى مجد الله، ليخدم ربه ويمجده يستحق أجرًا ليس بيسير لدن العزة الإلهية.
وثانيهما أنه بانفصاله هذا لا يبقى فكره متشبعًا إلى أمور عديدة بل يصبح كل اهتمامه منصرفًا إلى أمر واحد وهو أن يخدم خالقه وينفع نفسه، فيستخدم قواه الطبيعية بكامل حريته ليسعى وراء ما قدر طال تشوقع إليه.
وثالثهما أنه كلما كانت النفس في الوحدة معتزلة عن الخلائق أصبحت أجدر بالتقرب من ربها وخالقها والاتصال به. وكلما ازدادت اتصالاً به ازدادت أهلية لنيل النعم والمواهب من وجوده الإلهي الفائق".
ولكي يبقى موضوع الصلاة حاضرًا في ذهننا طيلة النهار، يساعدنا المحيط المادي و"الديكور"، ولذلك فإغناطيوس ينصحنا في الأيام المخصصة للتوبة وللتأمل في الخطيئة أن نمتنع عن التفكير في ما يفرحنا أو يشتتنا مثل المناظر الجميلة والنور والزهور، وكذلك عند التأمل في آلام المسيح. بينما يشجعنا عند القيامة على فتح النوافذ والتمتع بنور الشمس وجمال الطبيعة... هكذا يساهم كل شيء في نجاح التأمل وفي الصلاة الدائمة: العزلة والصمت وتركيز النظر والتفكير.
ربما يرى البعض أن هذه الأساليب اصطناعية جدًا تتعارض مع روح الصلاة التي هي أساسًا لقاء وحوار مع الله. ولا شك أن كل هذا يتطلب منا بعض المجهور في بدء الأمر إلا أن الخبرة أثبتت فعلاً أن الاستمرار في متابعة هذه النصائح أيامًا معدودة يوصلنا إلى سلام داخلي حقيقي وإلى الوحدة الداخلية وضبط الذات واتزانها دون تشتت وحتى يسهل علينا الدخول في الصلاة نفسها حيث نواجه الله وجهًا لوجه دون شرود.
وهناك في الرياضة وسيلة أخرى للتمرين على ضبط النفس والتحرر من شرود العقل خارجًا عن الموضوع المقصود. يعلمنا إغناطيوس التركيز في اللحظة الحاضرة دون الهروب بعيدًا بالمخيلة. لهذا الغرض يطلب من المرتاض الامتناع عن التفكير في خطوات الرياضة المقبلة لكي يركز كل تفكيره في التأمل الحالي، فنقرأ: "إن من يباشر رياضات الأسبوع الأول يهمه كثيرًا ألا يعلم بشيء مما سيضعه في الأسبوع الثاني، بل عليه أن يجتهد حتى يحصل في الأول على ما يبتغيه كأن لا أمل له أن يجدشيئًا مفيدًا في الثاني.
2- التأمل الهادف والعملي
رغم أننا في الرياضة نعيش جميع اللحظات مع الله، إلا أن هناك أوقاتًا مخصصة للصلاة بالذات.
أ- الصلاة اللفظية
وربما عند سماعنا كلمة "صلاة" نفكر أولاً في تلاوة صلوات لفظية محفوظة مثل المزامير وغيرها. وبالفعل يشجعنا القديس إغناطيوس ذاته على استخدام الصلوات اللفظية المألوفة مثل السلام الملائكي والصلاة "روح المسيح قدسيني" و"أبانا الذي" خاصة في ختام التأمل. ويعرض علينا أيضًا طرقًا مختلفة للاستفادة من الصلوات اللفظية بتركيز الانتباه على معنى كل كلمة من كلمات الصلاة (249 – 257) أو عن طريق الصلاة على الوزن أو الإيقاع متمشيًا مع التنفس البطيء (258 – 260).
ب- الصلاة العقلية
رغم كل ذلك؛ ليست الصلاة اللفظية ركيزة الرياضة الأساسية بل الصلاة العقلية. علينا أولاً أن نلاحظ معنى هذا التعبير فإنه لا يدل كما يظنه البعض على "تأمل فلسفي" أو "منطقي" أو ما يشبه ذلك. بل المقصود من "صلاة عقلية" هي الصلاة بدون ألفاظ معينة ثابتة محفوظة كانت أو مقروءة، بل تتأسس الصلاة العقلية على المجهود الشخصي بمعونة نعمة الروح القدس. في هذه الصلاة، نهدف إلى التفاعل الشخصي مع حقائق الإيمان وأعمال الله في الخلق والتاريخ المقدس والفداء وأحداث حياة السيد المسيح وأقواله. فنريد هنا أن نجني من التأمل ما يريد الله أن يقوله لنا من خلال الموضوع حتى نتخذ الموقف الشخصي اللائق.
وفي سبيل الوصول إلى هذا الهدف، نستخدم ملكات النفس الثلاث: أي الذاكرة المُعانة بالمخيلة: مثلاً أراجع حدثًا من الأحداث الواردة في الإنجيل، ثم استخدم العقل لأفهم ما يحتويه هذا الحادث من مواقف وأقوال، فأحاول أن استخرج منها تعليمًا أو درسًا لي، وبناً على ذلك اللجوء إلى الإرادة لكي لا أقف موقف المتفرج بل أنفعل وأتخذ الموقف الذي يدفعني إليه الروح القدس من توبة أو حب ثم قرارات إيجابية للمستقبل.
وعندما نقول "الإرادة" لا ننسى أنها مركز الحب، بها نتخذ موقفًا من الله ذاته. ولذلك نرى أن التأمل الإغناطي لا يتم أبدًا على أساس تفكير الإنسان على حدى، بل التأمل لقاء مع الله الحي وعمل مشترك بين النفس وبين الله. من بدايته يقف المرتاض في حضرة الله ويقدم له جميع قواه طالبًا منه تعالى أن يشغلها في خدمته أثناء هذا التأمل. وبعدما يحدد المرتاض موضوع التأمل يتجه مرة ثانية نحو الله طالبًا منه النعمة التي يقصدها هنا والتي ينتظر من الروح القدس أن يوضحها به.
إن "كل ما كتب (في الكتاب المقدس) قد كتب لتعليمنا" (رو 15/4) ولذلك يطلب منا إغناطيوس أن نحضر الحادث مجتهدين فنحدد مكاننا من ضمن المشتركين فيه. ففي الميلاد مثلاً أتصور نفسي ولدًا بسيطًا مستعدًا أن يقدم للطفل يسوع ولمريم ويوسف أي خدمة يتاجون إليها. وكذلك في أي مشهد من الإنجيل حيث نتساءل هل يا ترى، نجد أنفسنا ضمن صفوف المتفرجين السلبين أو من التلاميذ المصغين والمندهشين وغير الفاهمين، أو من صفوف أعداء المسيح الذين ينتقدونه ويحكمون عليه. وأمام أعمال الله أرجع إلى نفسي متسائلاً "ماذا فعلت إلى الآن وماذا يجب أن أعمله ردًا على حبه لي؟". وإذا وصلت هكذا إلى رؤية واضحة تطالبني بقرار، أتجه مرة أخرى نحو الله لأشكره على هذا النور وأعده بإتمام ما قررته طالبًا منه نعمته ليساعدني في تنفيذ هذه القرارات.
هكذا نرى أن تأمل مثل هذا هو نوع من حوار بين شريكين من أجل تحسين العمل المشترك وإذا طلبت من الله في بدء التأمل أن يمنحني نعمة معينة مثل التوبة أو كراهية الخطيئة ومعرفة المسيح لكي أحبه وأتبعه، أجد في نهاية التأمل أن الله قادني بنعمته إلى موهبة أخرى ووجهني إلى رؤية جديدة لم أكن أتوقعها. وبهذه الطريقة نتفاعل مع أعمال الله ونكتشف إرادته الخاصة بنا ودورنا الشخصي في الرسالة. ويصبح التأمل منبع عملنا ونشاطنا.
3- المراجعة : صلاة الواقع
في سبيل الوعي اليقظ بكلام الله وتمييز إرادته نستخدم في الرياضة أداة مهمة جدًا، نخسر الكثير من الفوائد لو أهملناها، ألا وهي المراجعة. وللمراجعة مجالان أساسيان: مراجعة التأمل ومراجعة الحياة.
أ- مراجعة التأمل
ربما يمر وقت التأمل بالتعزية أو بالجفاف والكربة أو بتشتت وبالتفكير في مواضيع لم نقصدها من الأصل. وسرعان ما ننسى كل ذلك بعد انتهاء التأمل.
بالمراجعة نريد أن نجمع هذه الخبرات لنسجلها ونستفيد منها مستقبلاً. فنبحث عن أسباب الكربة أو الجفاف أو التشتت حتى نستكشف هناك مجرد أسباب طبيعية، صحية كانت أو مناخية وطقسية أو ضجة خارجة تمامًا عن إراداتنا. أم بالعكس أسباب جوهرية حيث نجد شيئًا من التنافر بيننا وبين موضوع التأمل قد يطالبنا بمجهود نرفضه أو بتغيير نهرب منه، سواء كان على المستوى العملي أو المعنوي والفكري. ونكتشف عندئذ احتياجنا لنعمة خاصة من الله حتى يتغير فينا ما يجب تغييره، أو على العكس ربما كان التأمل مليئًا بالتعزية. فمن المهم أن نسجل في ذاكرتنا ما هي أسباب هذه التعزية، وما الذي يقصده الله من خلالها حيث تجذبنا بواسطتها إلى اتجاه معين في العمل والحياة.
هكذا تساعدنا مراجعة التأمل على الوعي بما تم أثناءه وعلى تثبيت النعم التي نلناها، كما تساعدنا على تخطيط سير الرياضة في الأيام التالية، فنختار الأسلوب والمواضيع للتأمل حسب خبرتنا في ما سبق.
ب- مراجعة الحياة أو فحص الضمير
لقد التصقت بكلمة "فحص الضمير" صورة مشوهة وسلبية. فيرى فيه غالبية الناس مجرد بحث عن الخطايا استعدادًا للاعتراف بها. ولكن فحص الضمير هو أساسًا الرجوع إلى الله. فنحن نؤمن أن الله يعمل في حياتنا وأنه يكلمنا من خلالها. وإذا كنا قد تقابلنا معه بتأملنا في صفحات الإنجيل، فلابد أيضًا من مقابلته من خلال هذا الكتاب العصري الذي هو تفاصيل حياتنا اليومية.
لذلك يشجعنا إغناطيوس على ممارسة فحص الضمير مرتين يوميًا، في الظهر وفي المساء، وينصحنا أن نبدأ في فحص الضمير بمراجعة النعم التي قد نلناها من يد الله منذ الفحص السابق حتى الفحص الحاضر، لكي نشكره تعالى على هذه النعم. ومن خلال هذا الشكر يتضح لنا كيف يتصرف الله معنا، ذلك الإله الذي رأيناه في الإنجيل والذي لا يزال حيًا وعاملاً فينا ومعنا.
ومن ناحية أخرى، ففي الفحص عن خطايانا وسقطاتنا في سبيل التوبة والإصلاح، نكتشف أيضًا حضور الله لأن الخطيئة ليست إلا رفض الله الذي كان ينادينا في ظرف معين وقد رفضنا أن نتبعه، كان حاضرًا وأغمضنا عيوننا لكي لا نراه. وهكذا نتقابل في فحص الضمير مع ذات الإله الذي رأيناه في تأمل الإنجيل، والآن نراه حاضرًا في حياتنا وعاملاً من أجلنا ومشاركًا إيانا في عمله اليوم.
وقد يحدث مثلاً أن يكون تأملنا جافًا جدًا وكأن الله لم يرد أن يكلمنا حينئذ، ثم نراه قد لمسنا أثناء النهار بمناسبة ظرف تافه في ذاته إلا أن الرب كان ينتظرنا في هذا الميعاد ليوجه إلينا نظرة حب أو كلة تشجيع أو عتاب. وهكذا تصبح حياتنا أثناء الرياضة نسيجًا من جهودنا ومن نعم الله بل تصبح حوارًا دائمًا معه، ننظم على أساسه حياتنا كلها.
وإذا أردت أن أشبه فحص الضمير بمشهد معروف في الإنجيل سأشبهه بظهور المسيح يوم قيامته لتلميذي عمواس الذين لم يلاحظاه على طول الطريق ولم يميزاه إلا في اللحظة الأخيرة عندما جلس معهما على المائدة وكسر الخبز. وهكذا نحن نجلس معه في آخر النهار لنكتشف أنه كان يسير معنا دون أن ندري به.