بقلم الأب فاضل سيداروس اليسوعي
أولاً ـ المُظاهرات رمز الغضب والاحتجاج والمُقاومة
* مِثل أيِّ مُظاهرة في الشارع، هُناك ما هو مُلتبس، ومُتسلِّل، ومجهول، وغير عقلانيّ وغير مُتوقِّع. إذن هُناك خطر، لأنّه يُمكن الانجراف نحو العُنف الأعمى أو المُتستِّر (كما حدث يوم الأربعاء 2 فبراير).
* ولكنّ هُناك أيضاً تعبيراً حقيقيًّا عن عدم ارتياح في المُجتمع المصريِّ مُنذ 30 عاماً، أو حتّى 59 عاماً من التعاسة المُتفشِّية: ’غضب‘ يظهر أوّلا في ’الاحتجاجات‘ حتّى يقوم النِّظام بتغييرات، ثمّ يظهر في ’المُقاومة‘ لتمنع السُّلطات من التخاذل في وُعودها كما حدث في الماضي.
1 ـ المُستوى الاجتماعيّ والاقتصاديّ
* الفقر
* البطالة
* الفُروقات وعدم المُساواة
2- المُستوى السياسيّ
* الفساد والكذب بسبب نِظام طال عُمره ولم يتغيّر، وألغى الأحزاب والمُجتمع المدنيّ.
* غِياب مِصداقية السُّلطة في خِطابها وفي وُعودها: أزمة ثقة حادّة بين الشعب والمُؤسّسات الحُكوميّة.
* الافتقار إلى الحُرِّيّة السياسيّة والفِكرية والدينيّة.
* التخوُّف من أن تكون السًّلطة الجديدة التي عيّنتها السُّلطة القديمة مِثلها، في حين أنّ المطلوب هو تجديد الوُجوه القِياديّة وتغيير النِّظام والمُجتمع تغييراً كاملاً.
3 ـ المُستوى الدينيّ
* هيمنة الدين في البلد: نجح الإسلاميّون في ’أسلمة‘ مُجمل المُجتمع المِصريّ (وكان ذلك هدفهم في بدايتهم، أكثر مِنه الوُصول إلى الحُكم): مِثل وزارة التعليم، والذُّقون والحِجاب والنِّقاب...
* مُساندة القِيادات الدينيّة ـ الإسلاميّة والمسيحيّة ـ السُّلطة وتأييدها (أين ’الروح النبويّة‘ المسيحيّة التي تقول "لا" عند الحاجة؟).
* ضرورة تحقيق ’مُجتمع مدنيّ‘ مبنيٍّ على مفهوم مُحايد لـ’المُواطنة‘ المصريّة التي تفصل بوُضوح بين السياسة الوطنيّة/ الدين، القِيادات المدنيّة/ الدينيّة.
ثانياً ـ ظاهرة العَوْلمة: المُواجهة بين الهُويّة والغيريّة
1 ـ اكتسب الاحتجاجُ المصريُّ بُعداً عالميًّا، حتّى صار رمزاً في الدُّول العربيّة والأجنبيّة، وقد انتشرت العدوى في المِنطقة.
2 ـ لم يعُد مُمكناً التفكير في ’الهُوية‘ فقط ـ مِن قِيَم وتقاليد... مصريّة ـ، ولا في المُطالبة بعدم التدخُّل الأجنبيّ...، لأنّ العوْلمة اجتاحت العالم كُلّه. إنّ مِثل هذه الهُويّة ضيِّقة ومُنغلقة للغاية، لأنّها بالفِعل هُروب وعلامة ضُعف وعجز... أمام المشاكل الحقيقيّة. ولذا، فإنّها تُصبح "هُويّة فتّاكة" (راجع كِتاب أمين معلوف بهذا العُنوان) للذات وللآخرين المُختلفين. لذا، توجّب الأخذ بالاعتبار قُطب ’الغيريّة‘ مع قُطب ’الهُويّة‘. تطبيقاً لذلك:
* الادِّعاء بأنّه لا يجوز في دولة مِثل مصر المُطالبة برحيل رئيس الجُمهوريّة هو بمثابة هُروب من القضيّة الحقيقيّة، هُروب من ضرورة التغيير، ومُخالف لتاريخ مصر الحديث والمُعاصر: فلقد أطاح مُحمّد عليّ بالمماليك؛ وأقصى عبد الناصر مُحمّد نجيب؛ وتخلّص السادات من الرئيسين المُعيّنين معه... فضلاً عن تاريخ الفراعنة حيث الاتِّهامات والمُساومات والقتل... هذا ما لم يُدركه النِّظام القديم.
* ’الرحيل‘ لا يتعلّق برحيل شخص رئيس الجُمهوريّة فحسب، بل نِظامه كُلّه الفاسد، وهو يستوجب الإقصاء والمُحاكمة. فهل يعني ذلك أنّ هذا الانقلاب يُخالف الهُويّة المصريّة، أم أنّ الفساد نفسه هو الذي يُخالفها؟
* مُحاولة الإقناع بأنّ الرئيس هو ’أبو‘ الشعب المصريِّ هي أُكذوبة وتلاعب بالعاطفة الشعبيّة، لأنّ السياسة هي السياسة ولا تعرف أباً أو ابناً.
* ’التوريث‘ هو من خصائص العقليّة المصريّة و العربيّة. ومع ذلك، فإنّ هذا المبدأ مرفوض اليوم رفضاً قاطعاً.
* الديمقراطيّة والحُرِّيّة ليستا من مُقوِّمات الثقافة المصرية و العربيّة. ومع ذلك، فإنّهما تُمثِّلان مطلباً شرعيًّا أساسيًّا.
* فكرة’مجلس الحُكماء‘ فِكرة لابُدّ من تعميقها، لأنّها تُعبِّر عن أُسلوب مصريٍّ خالص لمُعالجة مشاكل المُجتمع. وقد تُكوِّن جانباً هامًّا من النِّظام الديموقراطيِّ المصريّ (لا في أثناء الأزمة الحاليّة فحسب، بل في ما بعد أيضاً): الاستعانة بأشخاص معروفين بنزاهتهم، وغير مُشاركين في النِّظام القديم، ليتمكّن النِّظام الجديد من الاستفادة من نصائحهم في المواضيع المُهمّة والحسّاسة.
* الروح السائدة بين المُتظاهرين فى ميدان التحرير (ورُبّما في سائر مُدن الجُمهوريّة) تلفت النظر: تضامن، مُساعدة، احترام (للسيِّدات والبنات مثلاً)، أُلفة، عدم عُنف... تِلك سِمات حقيقيّة من الهُويّة المصرية المُنفتحة.
3 ـ ثقافة الشباب هى ثقافة الـ Facebook, Twitter, YouTube ...، وهي تُمثِّل قُطباً من أقطاب ’الغيريّة‘ التى تُكوِّن الـ ’الهُوية‘ المصريّة الجديدة، بل وتُغنيها، ولا تُعتبَر خطراً يُهدِّدها. ذلك ما لا تفهمه بعد السُّلطات المدنيّة و لا الدينيّة.
ثالثاً ـ نظرة إلى ما بعد ثورة 25 يناير
1 ـ ضرورة قِِراءة نقديّة في كُلِّ ما تعيشه الساحة المصريّة، وما يحدث فيها، وما يقال عليها، وما يُبحث فيها: فعلى السياسيّين، وعُلماء الاجتماع والنفس واللاهوت... أن يقوموا بها معاً. هل تعيش مصر الآن ’ثورتَها‘ الحقيقيّة (ولا ثورة الجيش سنة 1952)؟
تتميّز هذه الثورة الشبابيّة بأنّها:
* سياسيّة: ما لم يُنجزه الجيش والأحزاب السياسيّة والحُكومة خلال 59 عاماً، حقّقه شباب ثورة 25 يناير.
* ثقافيّة: الأنْتَرْنَتْ يُحوِّل العقليّات والعادات تحويلاً جذريًّا.
* اجتماعيّة: هي مرجعيّة جديدة غير ’العادات، و’التقليد‘ و’الهُويّة‘؛ وتشمل الحياة الجماعيّة، والحياة السياسيّة (المبنيّة على ’المواطنة‘)، والحياة العمليّة... وبالتالي، لم يعُد الشابُ المصريُّ مُواطناً لا يُبالي بالسياسة، بل تعلّم أن يُحكِّم عقله، وأن يُفكِّر في القضايا العامّة، وأن يُظهر إصِراره ومُثابرته في مُظاهراته واحتجاجاته (على غير ما كان يتوقّعه الناس)، وأن يتحاور (إنّه يسمع ويتكلّم)...
* وطنيّة: مرجعيّة مصر أكثر من أيِّ مرجعيّة أُخرى: دينيّة كانت أو طائفيّة أو حِزبيّة أو طبقيّة...
2 ـ المُقارنة بمايو 1968 فى فرنسا: الثورة المصريّة أكثر جذريّة لأنّها ليست ثقافيّة فقط، أو اجتماعيّة، أو شبابيّة ضِدّ السُّلطة الأبويّة.
المُقارنة بالثورة 1789 الفرنسيّة: أقلُّه في ما يتعلّق بأسبابها و آثارها في المُجتمع.
3 ـ الأخطار الحقيقيّة المُرتقبة
* سيطرة الحُكومة على الشعب الذي يحتجّ، وذلك للحِفاظ على الأمن في البلد (وذلك شرعيٌّ في حدِّ ذاته)، ونظراً إلى الأزمة الاقتصاديّة التي سبّبتها المُظاهرات والاحتجاجات (وذلك أيضاً شرعيّ)، وادِّعاءً أنّها تُحقِّق مُعظم مطالب الشباب والشعب.
غير أنّ ثِقة الشعب بالمُؤسّسة الحُكوميّة معدومة.
كما تزعم الحُكومة أنّه يجب أن يتعايش القديم مع كُلُِّ جديد وكُلِّ تغيير (كما الحال هي في الوزارتين الجديدتين والمُجدَّدتين).
غير أنّ كُلّ ثورة حقيقيّة ترفض فتهدم (أقلُّه في أوّل عهدها) القديم الفاسد.
* سيطرة الأحزاب السياسيّة على الشباب لتجتذبهم في صُفوفها.
غير أنّها قد فشلت جميعاً فشلاً ذريعاً في النِّظام السابق.
* سيطرة الجيش الذي يظهر صديق الشعب وطوق نجاته.
غير أنّه وليد النِّظام القديم، ويظلُّ سِلاحُه قويًّا يستعمله عِند الحاجة.
* سيطرة تيّارات دينيّة أُصوليّة راديكاليّة مُتستِّرة الآن.
غير أنّ الثورة ليست وليدة تِلك الحركات، بل تُنادي بدولة ’المُواطنة‘ غير الدينيّة.
* اندساس مجهولين يُخِلُّون بالأمن ويُهدِّدونه، فيُشوِّهون هدف الثورة ويُثبتون خطأها وعدم تمثيلها لمُجمل الشعب (كما حدث في أحداث الأربعاء 2 فبراير).
غير أنّ الثورة هي أصيلة وعليها أن ترسخ.
* اعتلاء أصوات تُحاول أن تُقنع أنّ ثورة الشباب هشّة، غير مُستقرّة، بدون مُستقبل، فستضمحلُّ ببُطء: لا المُظاهرات فحسب، وهي المظهر الخارجيّ، بل المطالب الشرعيّة أيضاً، وهي الأساس.
غير أنّ استمرار المُظاهرات والاعتصامات ـ بالرغم من مُحاربتها ـ يُدعِّم الثورة.
القاهرة فى 28 فبراير 2011