مقال للأب جاك ماسون اليسوعي
يبدو هذا السؤال لأول وهلة غريباً، ومع ذلك فالإجابات التي أعطيت له على مر العصور وصعوبة فهم سر الفداء تشير إلى أن الجواب ليس بديهي، فإن كان يسوع المسيح هو مختار الله فلماذا توجب عليه أن يعيش ذلك؟
يسوع لم يمت
رفضت هرطقة باسيليدس[2] موت المختار، فيسوع لم يصلب والله استبدله بسمعان القيرواني خادعاً بذلك أعدائه، إذ لم يكن ممكناً أن يسمح الله بعذاب البار! ومما لاشك فيه أن القديس يوحنا لم يذكر القيرواني في إنجيله حتى لا يٌمكن هذه الهرطقة، فكتب أن يسوع كان يحمل صليبه.
مات يسوع، ولكن لماذا وجب عليه ن يموت على هذا النحو؟
قتل لأجل المصلحة العامة أعاد يسوع الأولوية للروح على الحرف وشدد على نقاوة القلب، وبذلك كان يقود أسس الدين كشريعة السبت وأهمية الوضاءات ومكانة الذبائح. كما كان يثير حماس الجموع بسحر مواعظه والآيات التي كان يجترحها بالإضافة إلى إدعاءه إنه المسيا بل وابن الله. فكاد أن ينقلب ذلك إلى فتنة شعبية "كانوا عازمين على إقامته ملكاً" (يو6: 15) تؤدي إلى ثورة ضد الرومانيين "من الأفضل أن يموت رجل واحد عن الشعب، ولا تهلك الأمة بأجمعها" (يو 11: 50).
إلا أن الضحية تقبل موتها كان بمقدور يسوع أن يتصالح مع خصومه أو أن يكف عن رسالته، فلماذا الاستمرار في الصراع - وإن كانت القضية عادلة- عندما يكون الفشل هو النهاية؟ وإن كان اليهود يرفضونه، فلماذا لم يتوجه إلى الوثنيين؟ لكن يسوع لم يقم بذلك إذ باختياره ذهب إلى موته. ولكن لماذا؟
يسوع يعطي لموته معنى فالموت لم يفاجئه بل إن يسوع استشعره ورآه يأتي، لقد كاد أن يقتل مراراً في الناصرة وفي أورشليم إلا إنه انسحب في كل مرة لأن ساعته لم تكن قد أتت بعد (يو 8: 20). ولكن لما جاءت الساعة اهتم بأن يسبغ عليها معنى وأن يكشفه لتلاميذه: "إن ابن الإنسان أتى ليبذل حياته فدية عن كثيرين" (مر 10: 45).
موت يسوع وقيامته، أول كرازة معلنة شكل موت المسيح وقيامته منذ البداية موضوع التبشير الرسولي الوحيد، فكل الرسائل المكتوبة قبل إنشاء الأناجيل تجهل سائر تفاصيل حياة يسوع وتركز على معنى موته وقيامته.
مصطلحات صعبة ذات طابع ثقافي محدد كيف يمكننا فهم مصطلحات "كافتداء" أو "فدية"؟ أهي فدية عن عبودية الخطيئة؟ ولكن لا تزال الخطيئة تملك على العالم! وهي مدفوعة لمن؟ أللشيطان أم لله؟ وهل الله بحاجة إلى مثل هذه التقدمة الدموية لتهدئ غضبه؟ لقد كان اليهود يعرفون رمزية الذبائح المقدمة إلى الهيكل يومياً عن الخطيئة، كما كانوا يعرفون أيضاً قيمة الذبيحة الاستبدالية "لعبد الله" الذي "يبرر بآلامه الكثيرين" (أشعيا 54 : 11). ولكن هل كان الله يحتاج لذبيحة ابنه تلك؟ "فوضع ذاته وصار طائعاً حتى الموت، موت الصليب. ولذلك رفعه الله رفعة فائقة..." (فيل 2: 8- 9). ولكن طاعة لمن؟ الله أم للحدث؟ أيمكننا القول إن الله أراد موت ابنه؟ وأي أب يرتضي الموت لابنه ويستحق مع ذلك أن يحافظ على لقب "أب"؟ أعلينا أن نعتبر القيامة كما لو كانت انتقاماً يقوم به الله بإزاء اتضاع ابنه؟ هذه المصطلحات وإن كانت تلقي شعاعاً من النور إلا إنها مع ذلك تبقى محدودة سواء من جراء الثقافة اليهودية أو من عظمة سر حب الله فائق الإدراك.
موت يسوع، حب يهب ذاته موت يسوع هو أولاً وآخراً قصة حب ليس إلا، فقد أعطى حياته لأجل الذين أحبهم وفي هذا صار طائعاً لأبيه، ليحيا ويموت على صورة الله، هذا الله الذي أحب العالم حتى إنه بذل ابنه الوحيد، وفي هذا الموضع تتلاقى إرادة يسوع العميقة مع إرادة أبيه "لا تكن مشيئتي بل مشيئتك" (مت 26: 39). وإذا كان موت يسوع يحررنا من عبودية الخطيئة، فذلك لأنه لم يدافع عن نفسه بإزاء من كانوا يميتونه، بل وأكثر من ذلك فقد وجد لصالحهم العذر الصحيح لتبرئتهم: "اغفر لهم يا أبت لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون" (لو 23: 34). وهكذا فإن الخطيئة قد قهرت بواسطة حب أقوى منها، في حين لم تكن الفدية التي دفعها يسوع إلا ثمناً لهذا الحب. فموت يسوع هو المكان الذي سُحقت فيه الخطيئة بفضل حب أقوى من الموت. ففي هذا يعتبر موت يسوع فريداً في تاريخ البشرية من جراء الطابع الفريد لذلك الذي يموت، المسيا، ابن الله ومن جراء المعنى الذي أضفاه عليه يسوع.
خلاص للكثيرين
ولكن كيف أمكن لقصد يسوع بتقدمة حياته من أجل البشرية بأسرها أن يصير واقعاً حقيقياً لأجل كل واحد منا؟ ذلك لا يمكن تفسيره إلا عبر "التضامن" البشري، تضامن يجعل من البشرية كلا وجودياً. ولقد وعى العهد القديم بقوة هذه الحقيقة، فما كان يفعله قائد الشعب كان ينعكس على الشعب بأكمله وخطيئة الإنسان الأول كان لها تأثير على البشرية بأسرها. ولكن ألعل في ذلك خطأ؟ لا، فهو يبقى أمراً معاصراً جداً، وما هو إلا اختبار إنساني للغاية. فما يفعله قائد الشعب، سواء أكان أوباما أو القذافي، فله تأثير على شعبه بأكمله.
وما عمله "ابن الإنسان" كان له تأثير على البشرية بأجمعها، لأنه اتخذ طبيعتنا البشرية بالكامل. كما أن يسوع قد جسد وحدة البشرية بأكملها عندما علمنا أن نصلي فنقول "أبانا"، داعياً إيانا أن نصلي بالاتحاد مع البشرية كلها. وحتى العلم نفسه أطلق فرضية وجود ضمير شمولي يجد كل ضمير فردي جذوره ممتدة فيه.
ويسوع أراد واستطاع أن يعطي حياته لأجل الجميع - لأجل كثيرين - لأنه كان إنساناً مثلنا.
كيف يمكنني القول بأنه مات لأجلي؟
من الواضح أن يسوع على الصليب لم يفكر بي أنا شخصياً، تماماً مثلما أصلي من أجل ضحايا تسونامي اليابان، إذ لا أفكر بشخص محدد، ولكن مع أن نيتي تشملهم جميعاً فهي تتوجه نحو كائنات محددة، فأنا أصلي إذن من أجل الجميع ومن أجل كل واحد. ولكن كيف تتم صلتنا الشخصية مع يسوع ومع موته لأجلنا؟ يمكننا القول إنه حينما نصبح "تلاميذ" ليسوع بواسطة الإيمان به، فإن ثمة علاقة شخصية جداً تنشأ بيننا وبينه، وهي علاقة تثبتها المعمودية. فأن يصير الإنسان تلميذاً فذلك ينشئ صلة، وأن يصير معمداً فذلك يخلق وحدة شخصية حميمة، وهذه الوحدة هي ارتباط بموته وقيامته، إذ إنه يشاركنا بحياته كلها، تلك التي أسلمها لأجلنا لأننا كنا أبناء ضالين. ويرجعنا ذلك لفكرة التضامن البشري الذي يؤكده كلام يسوع بكامله إذ يشير إلى الاندماج التماثلي الذي أراد كشفه وإقامته بينه وبين كل منا، كما هو قائم بينه وبين الآب. "ما تفعلونه بأحد هؤلاء الصغار إخوتي فبي قد فعلتموه" (مت 25: 40)، "من قبلكم فقد قبلني، ومن قبلني فقد قبل الذي أرسلني" (مت 10: 40). فكلنا متضامنون بعضنا مع بعض سواء تجاهلنا هذا التضامن أو رفضناه أو أردناه. وأما يسوع فقد أراده بوضوح، فهو لم يشأ أن يشاركنا بكامل طبيعتنا البشرية وحسب، بل أردا بموته عن الكثيرين أن يحيا ويموت لأجل كل واحد منا. وأما إرادة يسوع في الاندماج بكل إنسان لا يمكن فهمها إلا بواسطة الحب الذي أحبنا به، بنفس القدر الذي يحب به الله ابنه هكذا أحب البشرية كلها: "هكذا أحب الله العالم حتى إنه بذل ابنه الوحيد"(يو 13: 16) و "كما أحبني الآب، كذلك أنا أيضاً أحببتكم" (يو 15: 9).
وإني لمتيقن أنني حينما أتناول فهو يعطيني ذاته، ويكون في، وأنني أشترك في موته كما في قيامته "فإنكم كلما أكلتم من هذا الخبز وشربتم من هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يأتي"(1 كور 11: 26). لقد صار "أنا" لأستطيع أن أصير "هو".
وأنهي بقصة قصيرة: تقدم رجل بعد موته أمام باب الجنة، فسأله صوت من الداخل: "من أنت؟" فيجيب الرجل: "هذا أنا" فيقول له الصوت: "اذهب من هنا، إني لا أعرفك"، ويعود الرجل إلى الأرض ليقدس نفسه أكثر. وبعد زمن، يموت من جديد ويصل أمام باب الجنة، فيسأله الصوت نفسه: "من أنت؟" فيجيبه الرجل: "ولكنك تعرفني جيداً! لقد قدست نفسي وصنعت الكثير من أعمال التوبة"، ومرة أخرى يجيبه الصوت: "اذهب من هنا، فأنا لا أعرفك". وبعد زمان إضافي قضاه عائشاً في حياة الصلاة والتأمل، عاد أمام باب الجنة، فيسأله الصوت من جديد: "من أنت؟" وعندها يجيبه الرجل: "أنا هو أنت". فينفتح الباب ويقول له الصوت: "تعال".
مات يسوع لأجلي وقام لأجلي ليشركني بحياة جديدة، بحياته، حتى أستطيع أن أقول له يوماً: "أنا أنت".
وتكمن الصعوبة الكبرى في الإيمان بأنه "مات لأجلي"، فذلك يلج في رأسي وأما دخوله إلى قلبي فيلاقي مشقة. فأنا لا أؤمن بنفسي بما فيه الكفاية حتى أؤمن بحب كهذا! كم يصعب علي الإيمان بأنني محبوب. أهو أنا الذي يعتقد بأنني مركز العالم؟ أو بالأحرى هو الله من يجعل مني مركزه، وكامل موضوع حبه؟!
[1] نٌشر المقال في مجلة رفاق الكرمة، عدد 62، ربيع 2004 - تم تحديثه في 2011.
[2] غنوصياً أقام في الإسكندرية في نهاية القرن الأول.