بقلم الأب نادر ميشيل اليسوعيّ
في يوم من الأيام، منذ حوالي ألفي سنة، أمر القيصر أغسطس بإحصاء سكان امبراطوريته الممتدة من الأطلسي إلى أطراف آسيا الوسطى، وبالفعل تحركت جموع البشر من مكان سكنها إلى موطنها الأصلي، وامتلأت الطرق بالمسافرين والفنادق بالنزلاء. عظماء العالم يحركون الناس ويتحكمون في مصائرهم، يقيسون قوتهم بعدد البشرالذين يملكون عليهم، فهذا يملأهم زهوًا وغرورًا. في كلّ زمان يتحكم كبار العالم في حياة الناس ويحركونهم حسب أهوائهم ووفقًا لمصالحهم، يحدثون ضجيجًا ويثيرون المخاوف في قلوب البشر، وكأنّ الناس ألعوبة في أيديهم، مجرد أعداد خُلقوا لمجدهم الشخصيّ.
في هذه الظروف الاجتماعيّة والسياسيّة المضطربة، عاش يوسف ومريم، وسافرا ومريم حبلى في شهرها الأخير، على طرق مزدحمة ووسط جموع اضطرت لترك مساكنها وتعطلت مصالحها لتأتمر بأمر ملك أراد في يوم من الأيام أن يحصي سكان امبراطوريته. زحام خانق، جموع قلقة، أفكار واراء متضاربة تأتي من كلّ صوب، مخاطر وصعوبات متنوعة. إنّها فترة اضطراب وقلق عظيم، تثير تساؤلات صعبة : لماذا تتم الأمور بهذا الشكل ؟ كيف سيكون المستقبل ؟ من يستقبلنا في بيت لحم ؟ وماذا سيحدث عندما يجيء الوقت لتلد مريم ؟ ماذا سيكون مصيرنا ؟ كيف سنعيش ؟
كيف عاش يوسف ومريم هذه الأحداث ؟ لقد شاركا الناس أحداث العالم، وسمعا ضجيج البشر ومخاوفهم وهمومهم، وصعدا من الناصرة إلى بيت لحم وسط ظروف أقل ما يقال إنّها غير مريحة ويحيط بهما الهواجس والمخاوف. ولكن ما أتعسهما إذا كانا لا يسمعان سوى ضجيج العالم ولا ينصتان إلا لعظماء الدول والممالك ! ما أتعس إنسان يصبح فريسة تلاحق الأخبار المقلقة وتخبط الناس وقادتهم ! يصير كسفينة بلا بوصلة وسط الأمواج العاتيّة والعواصف الهوجاء، مصيرها الغرق !
لا، لم يكن هذا حال يوسف ومريم، لأن في قلبهما كانت ترن كلمة سمعاها في سرّ حياتهما ولا يدركها أحد سواهما، لا يفهمها العالم ولا يقدّرها الناس من حولهما. في قلب يوسف ومريم، همس الله كلمات حب وحياة، وعلى هذه الكلمة أتّكلا ووثقا بها كلّ الثقة. في قلب يوسف ومريم، ظهر نور خفيّ أضاء لهما الطريق وقادهما وسط أصوات العالم وغباره. لا يخرج الله أحباءه من العالم بل يتكلم في قلوبهم ويقودهم بروحه ليكونوا نورًا للعالم، بنعمته يحفظهم من الشرير ويرافقهم على طرق حياتهم أيًّا كانت مشاريع الملوك والرؤساء ومخططاتهم ومؤامراتهم.
عاش يوسف ومريم أحداث زمنهما ومجتمعهما المضطرب في سلام واطمئنان لأنّهما كان يحفظان كلمة الربّ الذي قال لكلٍ منهما : أنا معك، لا تخف، أنت كريم في عينيّ، نلت حظوة في نظري، روحي القدوس يحل عليك وعلى بيتك وأسرتك، وبواسطتكما أظهر مجدي للعالم، وأعطي ابني الحبيب للبشر أجمعين. فصدّقا كلمة الربّ وامتثلا لها، وفي قلبيهما قالا ليكن لنا حسب قولك، لتتم كلمتك في جسدنا وحياتنا وتاريخنا. وبهذا النور والسلام سمع يوسف ومريم أصوات العالم وملوكه، وتحركا على الطرق وهما واثقين بأن الربّ معهما، لا ينعس ولا ينام، يحفظ ذهابهما وإيابهما في كلّ وقت.
ووسط ضجيج العالم وازدحام الطرق والفنادق، جاء وقت مريم لتلد، فولدلت ابنها في مذود وقمّطته وأضجعته في هدوء وسلام بعيدًا عن الأعين الفضوليّة. في صمت الليل، ولد طفل مخلّصًا للعالم، ظهر نور عظيم من داخل مذود بقر. الله سعيد بميلاد ابنه، الملائكة تهلل وتبارك، الابن الأوحد الذي في حضن الآب صار بشرًا وسط الناس ومعهم، سيسكن بيوتهم ويسير على طرقهم، لا يخاف أن يولد في مذاود حياتهم وتاريخهم، في ظلمات مجتمعاتهم وصراع سياساتهم. مجد الله أشرق في حياة البشر بفضل إيمان يوسف ومريم، الكلمة التي سمعاها همسًا أصبحت طفلاً جميلاً، نور السماء على الأرض لكلّ من يرجون خلاص الله.
لم يكن ممكنًا أن ينكر يوسف ومريم أصوات العالم ولا أن يخرجا من خضم أحداث مجتمعهما، ولم يكن بوسعهما أن يمنعا ضجيج الحكام والملوك أو أن يحدّا من ممارسات القادة الدينيين ومخططات رجال السياسة. ما منحهما أن يعيشا واقعهما هو إنصاتهما لكلمة الله في سرّ القلب، والإيمان بأنّها ستتحقق لا محالة، مهما علا صوت الرؤساء وضجيج العالم. وأمام طفلهما المقمّط النائم في مذود، فهما كيف يعمل الله في العالم وآمنا بأنّه يخلّص البشر بصمته ووداعته. صمت الطفل أقوى من ضجيج العظماء، وداعة الله أعظم من عنف الأقوياء، كلمة الله رجاء لعالمنا العطشان للفرح والسلام، الله نور يشع وسط الظلمة، الله محبة تشفي القلوب وتخلّصها من الكذب والأنانيّة والخطيئة.
القاهرة، 18 ديسمبر 2011