بقلم الأب داني يونس اليسوعي
حين كنتُ في المدرسة طالبًا، كانت تستوقفني جملة كتبها أحد الظرفاء إلى جانب صالات الرياضة تقول: ليس المهمّ أن تربح المباراة أو أن تخسرها، بل المهمّ أن تعرف على من تلقي اللوم. من الواضح أنّ الجملة ساخرة، وليس المقصود منها أوّلاً أنّنا نختلق الأعذار لتبرير إخفاقنا أمام الآخرين، بل المقصود بالأكثر هو أنّنا نرتاح أحيانًا إلى اعتبار أنفسنا مظلومين، وخصوصًا أمام أنفسنا. استوقفتني هذه الجملة لأنّي كنتُ أرى في نفسي هذا الميل وكمّيّة الأذى الّذي يسبّبه لي. وكثيرًا ما التقيت بأشخاص يسجنون أنفسهم في شعور الظلم: يشتكون من أنّ الظروف لا تؤاتيهم، من أنّهم لم يتلقّوا التربية المناسبة الّتي تظهر كلّ طاقاتهم، من أنّ أحوال البلد إلى تدهور مستمرّ، من أنّ حظّهم سيّء، إلخ.
ولكنّي التقيتُ أيضًا أشخاصًا يسجنون أنفسهم بشعور الذنب: أنا غير صالح لشيء، أخطأت ولا مجال لإصلاح غلطتي، ليت الأرض تنشقّ وتبلعني، ما كان يجب أن أقول هذا، أو أن أعمل ذاك، أو أن أهمل ذلك. والكثيرون منّا يظنّون أوّلاً أنّهم مختلفون عن الآخرين، أنّ شكواهم ليس لها مثيل، بل إن التقوا بشخص يشتكي ينبّهونه إلى "حظّه الوافر": لا مجال للمقارنة مع تعاستي. وإن استخدم البعض المثل الشائع: من يرى مصيبة غيره تهون عليه مصيبته، يشعر بالذنب لأنّ مصيبة غيره تهون أمام مصيبته هو.
لا شكّ في أنّي أبالغ. الحالة التي وصفتها مضخّمة بعض الشيء، ولكنّها ميل مغروس فينا يغيب حينًا ويظهر حينًا، خصوصًا في أوقات الشدّة. وبما أنّ التمييز الروحيّ يتطلّب منّا أن نتنبّه للحالات المتعاقبة الّتي نمرّ فيها، لا بدّ لنا من أن ننتبه إلى هذا الميل وإلى آليّته، خصوصًا وأنّه قد يعيق نموّنا في المسيح والنموّ في المسيح هو غاية التمييز الروحيّ.
حين تصدّ الشكوى عمل الله
يقوم التمييز الروحيّ على البحث عن عمل الله فينا للدخول فيه والمشاركة فيه، وبهذا يتمّ عمل الله، لأنّه لا يستطيع أن يبلغ بنا ملء الحياة إن لم نكن شركاؤه في العمل. لأنّ ملء الحياة هي الشركة مع الله في كلّ شيء. ولكي يبلغ الله بنا ملء الحياة يريدنا أن نشاركه. هو يتوقّع منّا إذًا أن نرغب في الحياة وأن نبحث عن سبلها. ولكن يبدو أنّنا بدلاًً من أن نبحث عن الربح، نفضّل البحث عن أحد أو عن ظروف نلقي عليها اللوم. بدلاً من أن نبحث عن الحياة، نبحث عن الموت "لنبرهن" أنّنا مظلومون. "اليوم إن سمعتم صوته لا تقسّوا قلوبكم" يقول المزمور. وفي الواقع، فإنّ الله يعمل مثل الكلمة: القلب المنفتح تعمل فيه الكلمة المعجزات، أمّا الأذن المقفلة فلا حول للكلمة معها ولا قوّة. وهكذا، فإنّ الشكوى الّتي تتحوّل إلى طريقة حياة تصدّ عمل الله، وحين نضبط قلبنا بالجرم المشهود، أنّه يستسلم للشكوى ويكفّ عن البحث عن طريق الحياة، علينا أن ننتشله شيئًا فشيئًا، بصبر ورأفة، لكي يتنبّه من جديد إلى عمل الله ويسير في اتّجاهه.
بصبر ورأفة
يحثّنا القدّيس فرنسيس الساليزي على اعتماد الصبر والرأفة حين نتعامل مع قلبنا. لأنّ من يغتاظ لرؤية قلبه ضعيفًا واهيًا هو في الحقيقة إنسان متكبّر. وفي الواقع، فإنّ موقف الشكوى المستمرّة يجد مصدره العميق في كبريائنا: نرفض أن نكون أنفسنا ونخلق عالمًا وهميًّا فيه نحن نستحقّ كلّ مديح وإكرام، ثمّ نجد واقعنا مختلفًا، فنرغب في تغيير واقعنا بشكل مبنيّ لا على الواقعيّة والحكمة، بل على تمجيد الذات، فإن نجحنا نصير سجناء كبريائنا، وإن أخفقنا نصير سجناء يأسنا. لهذا تقوم المقاومة الحقيقيّة ضدّ الحزن واليأس على التواضع والصبر. نعامل قلوبنا برأفة لا بعنف إن أردنا نموًّا يدوم.
ومن الوسائل المفيدة أن نعلم أنّ الشكوى تحتاج إلى من يسمعها ويفهمها لكي نخرج منها. إسكات الشكوى بالقوّة لا يدوم، وإقناع ذواتنا أنّنا فرحون نشكر الله على كلّ شيء ما هو إلاّ قناع يزول. المسألة ليست نكران الشكوى أو إلباسها لباس الشكر، بل المسألة هي البحث عن الفرح وإنهاض القلب من الحزن. وهنا لا غنى لنا عن الأصدقاء وجماعة الإيمان الّتي ننتمي إليها. دور الصديق أو الجماعة هو في استقبال الشكوى، وتشجيع صاحبها على الخروج من دوّامة الحزن.
من الشكوى إلى الشكر
في سفر المزامير نجد نصوصًا اصطلح العلماء على تسميتها مزامير الشكوى (منها مزمور 22، 77، 143...). وهذه المزامير تنطلق من حالة المصلّي الحزين. وكأنّ الكتاب المقدّس يعلّمنا بذلك أنّ كلّ ظروف حياتنا تصلح لأن تكون منطلقًا للصلاة. وكثيرًا ما يبدأ المزمور بالشكوى ثمّ ينتهي بالشكر، لأنّ المصلّي يكتشف أنّ الله يدعوه اليوم إلى اكتشاف حضوره معه، ومع أنّ الظروف لم تتغيّر، يتغيّر قلب المصلّي نفسه ويتذكّر عمل الله في حياته هو أو في حياة الجماعة، ويرى في قلب ظروفه الصعبة طريقًا إلى المواجهة وإلى الحياة. وأحيانًا لا تتغيّر حالتنا بالسرعة الّتي نرغب فيها (انظر المزمور 88 مثلاً، حيث يبقى المصلّي في حالة الشكوى، وهذه أيضًا صلاة). فالمسألة هنا ليست مسألة إنجاز وفعاليّة، من نوع انظر كيف نجحت، أو كيف أخفقت، بل مسألة رجاء وثقة: أراهن على الربّ وأبحث عنه.
حين نحوّل الشكوى إلى طريق اكتشاف لعمل الله في حياتنا، حين نكتشف (لا نختلق) أسباب الشكر في حياتنا لا لأنّها فجأة صارت جيّدة بل لأنّنا نختبر نظرة الله المحبّة علينا وننال منها القوّة للمواجهة، حين نبحث بشجاعة وإصرار عن عمل الله فينا ينفتح قلبنا على فرح من نوع آخر، غير أفراح العالم. ليس هذا الفرح متغاضيًا عن آلام البشر وليس ساذجًا لا يعرف بشاعة الحزن، ولكنّه يعلم أنّ الله يعمل ويدعونا لأن نكون شركاء عمله.
وكيف يكون ذلك ؟
كيف أنتشل قلبي بصبر ورأفة؟ كيف أعيد توجيه حياتي نحو عمل الله؟ سأقترح هنا بعض الخطوات، ليست الوحيدة الممكنة، وليست حلولاً جاهزة يكفي تطبيقها. بل هي منطلقات يمكننا أن نبدأ بها. وراء كلّ غضب أو حزن أو إحباط رغبة وشوق متألّمين، ووراء كلّ رغبة وكلّ شوق بحث عن الله. لهذا لا أبحث عن الحلّ بعيدًا عن حالتي، بل في داخلها. والطريقة الأولى الّتي أقترحها هنا هي التعبير عن شكواي لشخص آخر أو لمجموعة من الأصدقاء. ولكن الرجاء الانتباه: ليست كلّ وسائل التعبير مفيدة. أعبّر عن غضبي وشكواي لا لكي أبرهن عن حقّي بالغضب أو بالشكوى، أو بالأحرى لا أبقى عند هذه النقطة. وإلاّ أقع مع أصدقائي في أحد فخّين: إمّا أن تصير الشكوى جماعيّة فتتحوّل صداقتنا إلى وسيلة لقتل الوقت لا تبني شيئًا ولا تروي عطشنا إلى الصداقة، وإمّا أن أشعر أنّ أصدقائي لا يفهمونني فأنعزل. لكيلا أقع في أحد هذين الفخّين أتنبّه إلى أنّ تعبيري عن شكواي يمرّ بمراحل مختلفة: في البداية، يحتاج إلى أن يعترف الآخرون به، أي يحتاج إلى إصغاء محبّ، لا يستعجل الأمور، لا يقارن مع ذاته، لا يحاول الإجابة، يقبل فقره. في مرحلة ثانية يتمّ التفكير الواقعيّ بكيفيّة الخروج من هذه الحالة: كيف أستعيد زمام الأمور، كيف أميّز بين الأمور الّتي لا سلطة لي عليها والتي أملك أن أغيرها؟
للتعميق :
- يوحنّا 5: 1-17 (للتأمّل أو للقراءة المشتركة...)
- المزامير 22، 77، 143 حاول أن تكتب مزمورك الخاصّ بالطريقة نفسها
بعض الأسئلة :
- تحتوي الشكوى على شيء من الغضب، والغضب يحتاج أساسًا إلى من يعترف به. لهذا من الصعب أن نسمع نصائح في وقت الشكوى (خصوصًا من نوع: "كان يجب أن..."). هل تستطيع أن تتذكّر ردود الأفعال الّتي تزعجك بشكل خاصّ حين تعبّر عن إحباط أو عن حزن؟
- يقول البعض في شكواهم: "ليت كان لي قوّة إرادة". ما رأيك؟ بحسب المقال تحتوي الرغبة في قوة الإرادة على فخّ، هل تستطيع أن تجده؟ كيف أتعامل مع هذا الفخّ في نفسي؟ عند صديقي؟
- في المقال مقطع ناقص متروك لك لتملأه. أقول: حين أكتشف أنّ قلبي يستسلم للشكوى أنتشله شيئًا فشيئًا بصبر ورأفة... وبعد ذلك أشرح لماذا الصبر والرأفة ولكنّي لا أقول كيف أنتشل قلبي. يمكن أن يجد القارئ بعض المفاتيح في النصّ. ولكن المفاتيح الأساسيّة هي عند القارئ. حاول أن تملأ الفراغ (الأفضل ضمن فريق): ما هي الوسائل العمليّة الّتي تساعدني أن أنتشل قلبي حين أكتشف أنّ الشكوى تملأه وتصدّ عمل الله فيه؟ الارتكاز إلى الخبرة قبل الأفكار محبّذ. ملاحظة: لا أحوّل ما يفيدني إلى نظريّة عامّة تصلح للجميع وفي كلّ الأوقات.
- ما هو تحديدًا دور جماعة الإيمان في مسيرة الخروج من الشكوى؟ إلى أيّة درجة أجد السند الكافي في جماعتي؟ (قد تجد الجماعة هنا شعورًا باحتياجها إلى "التوبة"، أي إلى إعادة اكتشاف دعوتها العميقة وتحسين أوضاعها.)
- يقول أحد معلّمي الحياة الروحيّة إنّ اللقاء بالله لا بدّ من أن يغيّر في الإنسان، وبالتالي فإنّ الصلاة في كلّ مرّة نصلّي تحوّلنا بالعمق. حين أكتشف أنّ الشكوى تسجن قلبي، قد تكون هذه فرصة ذهبيّة لمراجعة صلاتي، إن كانت ما زالت تحوّلني. هذا أيضًا طريق توبة. السؤال هنا: ما الّذي يطرأ على صلاتنا أحيانًا حتّى أنّنا نتركها، أو نهرب منها، أو نكرّرها بدون أن نتركها تغيّرنا؟ أيّ إصلاح تحتاجه صلاتنا؟