بقلم الأب داني يونس اليسوعي
في لقاء لي مع مجموعة من الشباب الأردنيّ المهتمّ بالروحانيّة الإغناطيّة طرحت عليهم السؤال: ما هو قلب الروحانيّة الإغناطيّة؟ أتتني إجابات مختلفة، فمنهم من ركّز على طريقة التأمّل، ومنهم من ذكر الصمت والاختلاء، وبعضهم أجاب التمييز الروحيّ، وآخرون قالوا الانفتاح والرسالة بل حتّى الحوار، ولم يخلُ الأمر من ذكر دور الفكر والمنطق. وفي هذه الإجابات بلا شكّ شيء من الصحّة فالمشاركون تكلّموا من منطلق خبرتهم وما لمسهم في الرياضات الروحيّة وفي عملهم الكنسيّ. ولكنّي إذ حدّدتُ سؤالي قائلاً إنّ ما ذكروه إنّما هي عناصر مختلفة من الروحانيّة الإغناطيّة وأمّا القلب فهو ما يوحّدها ويعطيها معنى حاروا في الجواب. ما هو القلب؟ ما الّذي يجعل اختباراتنا المختلفة مع الروحانيّة الإغناطيّة تندرج تحت مسمّى واحد؟ بل ما هو المعيار الّذي يساعدنا على تقييم دخولنا في المسيرة الداخليّة الّتي يدعونا إليها إغناطيوس؟
القلب هو دائمًا اختبار مميّز لمن هو الله
في الكنيسة روحانيّات مختلفة. معنى ذلك أنّ في الكنيسة اختبارات مختلفة لله، فالله أكبر من أيّ تصوّر وصورته لا تكتمل في روحانيّة واحدة. في كلّ روحانيّة تنتظم حياة الإنسان حول صورة معيّنة لله تصير له حجر زاوية ومعيار سلوك وتحدّد له اتّجاهًا في الحياة. والروحانيّات لا تتكامل فحسب بل هي تلتقي كلّها فالله واحد وإن وصلت إليه في سبل مختلفة. في قلب كلّ روحانيّة وجه خاصّ لله الّذي يسمو عن كلّ الوجوه. فما هو وجه الله الّذي اختبره إغناطيوس والّذي حوله تنتظم كلّ عناصر الروحانيّة الّتي تحمل اسمه؟ ولكي يكتمل السؤال نضيف: أي نوعيّة حياة، أيّ أسلوب في الحياة يخلق هذا الاختبار عند الّذين يدخلون فيه؟ لن أقوم هنا بأبحاث في حياة إغناطيوس أو تحاليل لغويّة لكتاباته ولن أتفحّص تاريخ الروحانيّات المختلفة مقارنًا بينها. هذا عمل الأخصّائيّين وقد قرأتُ بعض كتاباتهم. ولكنّي سأعرض جوابًا يستند إلى خبرتي في الرياضات الروحيّة وأدعو القارئ إلى أن يعيد قراءة خبرته على ضوء هذا الجواب.
"أبي ما زال يعمل وأنا أعمل أيضًا" (يوحنّا 5: 17)
إنّ قلب الروحانيّة الإغناطيّة هي أنّ الله يعمل ويدعو الإنسان إلى العمل معه، أو بالأحرى إلى الدخول في عمله! طبعًا لم تنتظر الكنيسة القدّيس إغناطيوس لتعرف أنّ الله يعمل. في الكتاب المقدّس، إذًا في كلّ الروحانيّات المسيحيّة، بل واليهوديّة أيضًا، نقرأ عن عمل الله. ليس الاكتشاف جديدًا. فالجديد هو أنّ وجه الله هذا، الله الّذي يعمل في الإنسان وفي الخليقة، يصير ركنًا لأسلوب في الحياة ويبني أشخاصًا وجماعات تتمحور حياتها حوله. كيف ذلك؟
فلنبدأ بالسؤال التالي: ماذا أصنع من حياتي لكي تكون ممتلئةً؟ ما الّذي يعطي حياتي معنى وزخمًا واتّجاهًا؟ لنقسم الإجابات إلى ثلاثة (هل هناك من إجابة رابعة؟ لا أعلم!): إجابة من لا يبالي بالله، وإجابة من يؤمن بالله بخوف، وإجابة من يؤمن بالله بحبّ. الأوّل يبحث عن السعادة في أشياء هذا العالم فتتشكّل حياته بحسب ما يبحث عنه: أيبحث عن المال، أم الجاه، أم السلطة، أم الأمن، أم العدالة، أم السلام... هذا ما يحدّد ما سيصنع من حياته. الثاني يوازن بين التزامات دينيّة يرى واجبًا عليه تلبيتها وبين ما يظنّ أنّ فيه السعادة فتتشكّل حياته كذلك بحسب ما يبحث عنه. أمّا الثالث فتتنتظم حياته حول الله الّذي هو له الأساس ويصير له كلّ شيء آخر وسيلة للوصول إلى الله. ونحن الآن نهتمّ لهذا الإنسان الثالث. كيف يشكّل هذا حياته؟ بحسب اختباره لله. إن كان يجد سعادته في تعالي الله عن عالمنا بحث عن الله في ترك العالم، وإن وجده في بساطته بحث عن البساطة، وهكذا تنتظم حياة الإنسان بحسب وجه الله الّذي يبحث عنه. فإن كان الله له هو أوّلاً الله الّذي يعمل بحث عن الله في العمل. وهكذا فلئن كانت الروحانيّات كلّها متساوية وتقود إلى الله قادت كلّ واحدة أبناءها بطريق مطبوع بطابعها وطابع الروحانيّة الإغناطيّة هو العمل: عمل الله، وعمل الإنسان الّذي يتّحد بالله في العمل.
ما هو عمل الله؟
"إنّ إلهنا في السماء صنع كلّ ما شاء" (مزمور 115: 3). ما معنى سؤالنا عن عمل الله؟ هو عمل الخلق وعمل الفداء، وهو كذلك عمله في كلّ الأشياء "سائرًا بالأزمنة إلى تمامها" (أفسس 1: 10). ولكن مع أنّ عمل الله يتخطّى كلّ تحديد يمكننا أن نتوقّف على نقاط محدّدة يدلّنا علبها إغناطيوس، وإلاّ لن نعرف أن ندخل في هذا العمل.
- يختبر المؤمن عمل الله في قلبه حين يكتشف مثل إغناطيوس أنّ روح الله يترك أثرًا في قلبه يصفه إغناطيوس بأنّه تعزية وانبساط، أي أنّ الله يحرّك القلب وينعش النفس ويشجّع الإرادة. والإنسان يشعر بالتعزية حين يسير نشاطه باتّجاه عمل الله، ويشعر بالانقباض حين بتّجه نشاطه في طريق مناقض لله. هكذا اكتشف إغناطيوس عمل الله في بدء حياته، وحين قادته خبرته مع الانبساط والانقباض إلى تحديد قواعد سمّاها قواعد "تمييز الأرواح" كان هدفه مساعدة المؤمن على تمييز عمل الله في حياته لكي يتّخذ من تمييزه هذا قرارات تجعله يسير أكثر باتّجاه عمل الله. فكلّ تمييز هو تمييز لعمل الله وكلّ "اختيار إغناطيّ"، أي كلّ قرار مبنيّ على التمييز الإغناطيّ هو اختيار الدخول في عمل الله.
- فيما كان إغناطيوس يومًا جالسًا يرتاح من تأمّلاته الكثيرة وينظر بلا تركيز إلى نهر الكاردونير في مدينة منريسا في بلده إسبانيا تفتّح ذهنه كما بتدخّل إلهيّ وفهم أمورًا كثيرة تخصّ الآداب والعلوم. وكأنّ منظر المياه المتدفّقة باتّجاه واحد على عشوائيّتها سهّلت له أن يرى كيف أنّ الأمور جميعها تعمل معًا وتسير معًا باتّجاه الله، بل كيف أنّ الله يعمل في كلّ شيء ليقوده إلى اكتماله. فليست الآداب والعلوم بغريبة عن عمل الله، وليس العالم فارغًا من الله، بل كلّ واقع بشريّ مليء من الحضور الإلهيّ بل أيضًا من العمل الإلهيّ وكلّ معرفة لها دعوة أن تقود إلى الله. في الرياضات الروحيّة سجّل إغناطيوس خبرته هذه في "المشاهدة لبلوغ الحبّ" حيث ينظر المصلّي تباعًا إلى عمل الله في صالحه من خلق وفداء وخيرات أغدقها الله عليه، ثمّ إلى حضور الله في كلّ شيء، فإلى عمله في كلّ شيء في صالح المصلّي نفسه إلى أن يصل هذا إلى اعتبار عمله نفسه عمل الله فيه وكأنّ عمل الله يتدفّق فيه كما النور من الشمس.
- ولعلّ عمل الله يأخذ في نظر إغناطيوس طابعًا حاسمًا حين ينظر المؤمن إلى تجسّد الابن وبالتالي إلى أسرار حياة المسيح. ففي "المشاهدة في التجسّد" ينظر المصلّي الّذي يريد أن يأخذ قرارًا في حياته إلى الله الّذي ينظر إلى العالم وشقائه ويأخذ هو نفسه قرارًا في صالح العالم ألا وهو قرار تجسّد الأقنوم الثاني. وكأنّ إغناطيوس يصوّر بشكل دراماتيكيّ ما يرويه الكتاب المقدّس في قصّة العلّيقة المشتعلة (خروج 3: 1-15) عن دعوة موسى. يقول الله في ذلك الموضع: رأيت مذلّة شعبي وسمعت صراخهم وعلمتُ بشقائهم فنزلت لأخلّصهم. على عكس الأصنام الّتي لها عيون ولا ترى وآذان ولا تسمع يرى الله ويسمع ويقرّر، وكذلك عباده يرون ويسمعون فيقرّرون ويعملون. وعمل الله (النزول) يتجسّد في إرسال موسى، وكذلك في المشاهدة في التجسّد يتجسّد قرار الله في تجسّد الابن، وهكذا يجسّد المؤمن في قراراته عمل الله الّذي يأتي إلى العالم ليخلّصه. فكلّ قرار مبنيّ على التمييز الروحيّ هو إرسال من الله، كما أرسل الله موسى، بل كما أرسل الله ابنه الحبيب. وينظر المصلّي إلى مختلف اختيارات المسيح في حياته على الأرض لكي يتعلّم أن يقوم هو أيضًا بالاختيارات الّتي تناسب ظروفه الخاصّة بالروح نفسه الّذي به قام يسوع باختياراته هو.
يمكننا أن نذهب إلى أبعد من ذلك إلاّ أنّ هذا يكفي لنرى ما هو عمل الله وكيف تنتظم الروحانيّة الإغناطيّة حوله وكيف يشكّل عمل الله قلب الروحانيّة الإغناطيّة، فهي لذلك روحانيّة قرار وروحانيّة إرسال وروحانيّة عمل إذ تجسّد في حياة أبنائها عمل الله الّذي يأتي إلى العالم ليخلّصه، وتنظّم حياة الّذين تربّيهم حول هذا العمل حتّى إذا ما ميّزوه في حياتهم وفي العالم من حولهم دخلوا فيه فصاروا معاونين لله في عمله وخدّامًا لرسالة المسيح.
العمل أم الصلاة؟
هل الرجال والنساء الّذين اتّبعوا النهج الإغناطيّ يضعون الصلاة في أساس حياتهم أم العمل؟ فمن جهة نرى محوريّة العمل في هذه الروحانيّة ولكن من جهة أخرى نرى أنّ العمل لا يندرج في عمل الله بدون تمييز روحيّ والتمييز لا يكون بلا نظر إلى الله والنظر إلى الله أليس تأمّلاً ومشاهدة لحياة المسيح ولتاريخ الخلاص؟ أليس هو صلاةً؟ فما الأساس؟
يصف القدّيس إغناطيوس حياة الإغناطيّ بأنّه يجد الله في كلّ شيء، في الصلاة كما في العمل، في العلوم المقدّسة كما في الآداب والسياسة والعلوم الدنيويّة فالله يعمل في كلّ شيء ومن يميّز هذا العمل يتّحد بالله في كلّ أعماله. وضّح أحد تلاميذ إغناطيوس وهو من اليسوعيّين الأوائل، جيروم نادال، فكرة إغناطيوس واصفًا اليسوعيّ (وتباعًا كلّ من يتربّى في مدرسة الرياضات الروحيّة) بأنّه "مُشاهد لله في العمل"، ويقصد بذلك أنّ العامل الإغناطيّ يُشاهد الله (أي يصلّي) في أثناء عمله. لا يفصل العمل عن الصلاة بل يقود إليها، بل وأكثر من ذلك هو لها مكان متميّز: الصلاة تسكن في العمل. لا ازدواجيّة بين الصلاة والعمل ولا أفضليّة، بل اتّحاد وثيق. ونضيف على نادال ما عناه وإن لم يقله على حدّ علمنا: لا يرى العامل الله في أثناء عمله هو، أي عمل العامل، إلاّ إن بحث في كلّ شيء عن عمل الله الّذي يعمل في كلّ شيء، حتّى يصير عمل العامل مندفقًا من عمل الله كالمياه من الينبوع ويكون الله هو من يعمل كلّ شيء في الكلّ.