بقلم الأب داني يونس اليسوعي
تمييز الأزمنة وفهم الحقبة التي نعيش فيها ضرورة قصوى لمن أراد أن يشارك في صنع التاريخ لا أن يبقى على هامشه، ولاسيّما للمسيحيّ الناضج الذّي يرى بعيني الإيمان تحقيق قصد الله الخلاصيّ في مسيرة التاريخ، ويبحث عن أن يتجاوب مع إرادة الله كما تظهر له في المكان والزمان اللذين يعيش فيهما.
الفعالية قيمة ...
نحن نعيش في زمن تحكمه قيم النجاح والفعاليّة. يكفي أن ننظر إلى إيقاع الحياة المتسارع، وأن نصغي إلى هواجس الناس لكي ننتبه إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ عالمنا يعطي القيمة العليا للفعاليّة، فالإنسان يعظم على قدر إنجازاته وعلى قدر ما يجعل من نفسه أداة فعّالة، والزمن علينا استغلاله بأحسن طريقة لنحصل على أفضل النتائج. وحين أقول إنّ قيم الفعاليّة تحكم عقليّة زماننا، أعني أنّ من يقاومون هذه القيم دليل على سلطانها، ومن لم ينجحوا بأن يفرضوا أنفسهم في المجتمع على أنّهم أدوات فعّالة يعانون من نظرتهم السلبيّة تجاه أنفسهم. وحتّى التيّارات الروحيّة الحديثة الّتي قد تقاوم ظاهريًّا منطق النجاح والفعاليّة، هي في الواقع مبنيّة على هذا المنطق، فهي تعد بنتيجة مضمونة وبأسرع وقت.
تُخفي فخًّا ...
لا شكّ في أنّ العالم قد دخل في مرحلة تقدّم علميّ وتكنولوجيّ لم يسبق له مثيل في التاريخ، وأنّ هذه المرحلة تنشأ من منطق الفعاليّة وهو ينشأ منها. وكثير من الناس يعيشون على مستوى أرقى من مراحل التاريخ السابقة. هذا صحيح. وفي كلّ الأحوال فإنّ الفعاليّة قيمة حقيقيّة وضروريّة. ولكنّي أتساءل ما إذا كانت تصلح لكي تكون القيمة العليا و مقياس القيم. فهل نلاحظ أنّ الإنسان اليوم - مع قدرته على التحكّم بموارد الأرض بدرجة عالية - إنسان أكثر سعادة؟
فمنطق الفعاليّة يبني إنسانًا هاجسه النجاح بل التفوّق. وعلاقات الناس تكاد لا تستطيع مقاومة تجربة المقارنة: من الأفضل، من الأصلح؟ باختصار، في زماننا، يستطيع الإنسان أن يحقّق أهدافه بسهولة نسبيًّا، ولكنّه لا يعرف كيف يضع لنفسه الأهداف... هذا هو فخّ منطق الفعاليّة.
ينعكس هذا على المستوى الروحيّ. فالمؤمن يبحث تلقائيًّا عن "النجاح" روحيًّا، عن الوسائل الفعّالة الّتي تضمن له الحصول على ما يريد وبسرعة. وكثيرًا ما يريد المؤمن أن يروي عطشه إلى السعادة وإلى أن يكون مقبولاً ومحبوبًا، فيُدخل الله في معايير الفاعلية: كم عدد الصلوات التي استجيبت وما الوقت الذي استغرقته؟ وهذا ما يفتقده المؤمن في حياته الّتي تحكمها ضرورة النجاح، أو مرارة الفشل. ولكنّه يريد الارتواء هذا بمنطق الفعاليّة نفسه: "نتيجة مضمونة وبأسرع وقت"
فغالبًا ما يتحوّل الارتواء المطلوب إلى إشباع عاطفيّ سريع. وأمّا الّذين يطمحون إلى أعلى، فكثيرًا ما يصطدمون برغبتهم في التحكّم في مسيرتهم، أو في أن يكونوا بلا لوم أمام الله مستبقين رحمته. الخوف من الفشل يعيق المغامرة، وكلّ علاقة مغامرة أكانت مع الله أم مع البشر.
لفعالية والخصوبة، كلاهما تبحثان عن النجاح. و لكن الفرق بينهما هو ما نضعه كمعايير لتقييم هذا النجاح. فيكفي أن ننظر عن قرب إلى النظم التي نستخدمها للتقييم في محيط العمل، والعائلة، وحتى في علاقاتنا. في مصر مثلاَ، يقُيَم المدرس وفقاً لعدد التلاميذ الذين نجحوا وحققوا أعلى الدرجات. ولكن هناك نظام تقييم آخر قد يأخذ في الأعتبار مثلاً متوسط الفصل، أو التقدم الذي أحرزه كل تلميذ بالنسبة لما كان عليه.
فمعايير الخصوبة التي يمكن تقييم النجاح وفقاً لها متعددة: كأن ينجح المدرس في أن يصل التلاميذ من مستواهم الضعيف الى مستوى متوسط. أما في معايير الفعالية فينظر فقط إلى عدد التلاميذ الذين نجحوا وزادت درجاتهم.
كذلك الحال في علاقاتنا الانسانية، في اختيار شريكة أو شريك الحياة مثلاً: من الأحسن، الأغنى أو الأجمل، و لا يسلم الأمر في تربية الأولاد في المقارنة بين أولادنا، بمن نفخر أمام الآخرين؟
منطق الخصوبة
كلّ حقبة تاريخيّة تحمل بذور الملكوت، دعوةً للتجديد، فرصةً لخلق العالم من جديد. فالعالم عالمنا ونحن نصنعه على صورتنا إن قبلنا التحدّي المطروح علينا وما تخاذلنا.
إن يسوع يضع نفسه ناحية الخصوبة، فهو يفضل فلس الأرملة، الخروف الضال، الخطأة، اثني عشر تلميذ والصليب! ولكنهه يبحث أيضاً على النجاح: حبة القمح التي تعطي ثماراً 30، 40 ، 100... التينة التي لا تعطي ثمراً والقيامة. في منطق الخصوبة، هناك إمكانية لحلول وسط لاستهداف نجاح أكثر استقراراً.
استلهم يسوع مرّات عدّة عمليّة الزراعة في أمثلته وتعليمه. فالنجاح في عمليّة الزراعة هي في الخصوبة الّتي تؤدّي إلى حمل الثمار. فبجانب ما يتطلبه حمل الثمار من التزام، نظام وعمل شاق ودؤوب (إعداد الارض، حرثها، وضع السماد، ري الأرض)، يتطلب أيضاً التمييز بين الأزمنة وقبول اختلافها. فللزراعة وقت، وللحصاد وقت آخر، وبين الاثنين وقت انتظار. فوقت الانتظار الذي يحمل معنى سرّ نموّ الزرع بصمت، سرّ نضوجنا، سرّ علاقاتنا. فالرغبة في التحكّم في كلّ شيء تغفل أهمّيّة السرّ في حياتنا. لأنّ ما هو سرّيّ غير مضمون، وما هو غير مضمون يرعبنا. مع فقداننا وقت الانتظار، فقدنا الثقة العميقة الّتي تتخطّى الضمانات. في العمق، أزمة عصرنا هي أزمة إيمان.
زمن الانتظار هو أيضًا زمن موت الحبّة المزروعة لكي تحمل ثمارًا. الخصوبة تتطلّب موتًا، أو بالأحرى قبول مرور الزمن وما يأتي به من جديد. وهذا القبول نحن نعيشه وكأنّه موت لأنّ الحياة لنا هي في التحكّم في الزمن. كم ينبغي لنا أن نطلب بدل التحكّم الحكمة، فالحكمة هي أن نفهم الزمن الحاضر ونعيش على مستوى ما يأتي به وهو يأتينا دائمًا بما يجب لكي نفهم أنفسنا ولنمارس حرّيّتنا ولنخلق بها العالم. أمّا التحكّم فلا يقبل أن ينمو في فهم الذات، بل يحدّد أهدافه في زمن معيّن ويفرضها على الأزمنة كلّها.
من هنا نرى أهمّيّة الفشل. الفشل تحديدًا هو ما لا نريده. لا نستطيع البحث عن الفشل وهو يبقى ما يجب تجنّبه. ولكنّ الفشل قد يحمل ثمارًا لا نتخيّلها إن قبلنا أن ننظر فيه بإمعان. وأقلّ هذه الثمار قيمة أنّ الفشل يعطينا خبرة ومعرفة بحدودنا وبالعالم الّذي نعيش فيه. أقول هذه أقلّ الثمار قيمة لأنّ هناك ما يفوقها بكثير. فقد يكون الفشل مكان التجديد الحقيقيّ، مكان اكتشاف أنّ تعبنا لم يضع، بل أتى بثماره حيث لم نكن نتوقّع، مكان انفتاح الطرق إلى حياة أكثر امتلاء. لو نجح بنّاؤو برج بابل (تكوين 11) في مشروعهم لما عرفوا مشروع الله لبناء الوحدة البشريّة، ولكانت الإنسانيّة سجينة رأي واحد ولغة واحدة، أمّا فكرة الله عن الإنسانيّة فهي أقلّ فاعليّة وأكثر حياة.
إنّ فشل مشروعي لتحديد نفسي تحديدًا نهائيًّا هو نعمة كبيرة، لأنّي سرّ لنفسي وحياتي في أن أبقى لنفسي سرًّا لا صنمًا. كتب غريغوريوس النيصّيّ يقول إنّ حياة الإنسان في أنّ الله سرّ يتخطّى تحديداتنا لأنّ الإنسان لا يحيا على مستوى المفاهيم بل على مستوى العلاقة، وبما أنّ الإنسان خلق على صورة الله، فهو سرّ لنفسه، ولهذا يمكنه النموّ باستمرار. لا عجب أنّ في المسيرة الروحيّة كما يصفها غريغوريوس تقوم خبرة الفشل بدور مهمّ، فالفشل باب الاهتداء إلى الخصوبة.
كيف أعرف نفسي؟؟
لا شكّ إن موضوعنا يقع في مجال التمييز الروحيّ. كيف أكشف تجربة "السجود للنجاح" في حياتي؟ كيف أُجدّد نظرتي إلى الأمور بحيث أقبل ذاتي والزمن الّذي أعيشه أكثر فأكثر؟ ما هي معاييري لقياس الخصوبة والفاعلية؟ في هذه التساؤولات قد استفيد كثيرًا من العودة إلى خبرات الفشل الّتي عانيتُ منها، ومواطن الفشل الّتي ما زلتُ أعاني منها، وأستجوبها: ما الّذي يختبئ وراءها؟ على أن أرى أيضًا مواطن النجاح والفرح، والثمار الّتي أحملها... أليست الخصوبة مفاجئة؟
للتأمّل
- تكوين 11 / 1-9 برج بابل
- مرقس 4 / 1-9 و26-29 مثلا الزارع
- يوحنّا 12 / 24-28 حبّة الحنطة الّتي تقع في الأرض
- يوحنّا 15 / 1-17 أغصان الكرمة وثمارها
- أعمال الرسل 6 / 8-15 و 7 / 54-60 موت إسطفانوس مقدّمة لتوبة شاول
- راجع تأمّل الرايتين في كتاب الرياضات الروحيّة للقدّيس إغناطيوس (رقم 136-147)