بقلم الأب جاك ماسون اليسوعي
يعالج هذا المقال مسألة البركة وأثرها. هل من أهميّة للبركة؟ هل من مفاعيل لها؟ نحن نبارك المنازل، السيارات، الأولاد، السعف، المائدة... نحن نبارك كل شيء ولكن ما الفائدة من ذلك؟
إذا حاولنا الإجابة على هذا السؤال باحثين في تاريخ الديانات أو من خلال الكتاب المقدّس نجد بسرعة أننا أمام ظاهرة عمرها من عمر البشريّة. ظاهرة لا يمكن فهمها إلا إذا واجهناها مع ما يعاكسها ألا وهي اللعنة. الكتاب المقدّس نفسه يدعونا إلى هذه المقاربة: "وقد أشهدت عليكم اليوم السماء والأرض بأنّي قد جعلت أمامكم الحياة والموت، البركة واللعنة. فاختر الحياة لتحيا أنت ونسلك" (تث 30/19).
1- بركة الله في العهد القديم
لتوضيح هذه الظاهرة يجدر بنا العودة إلى فكر وثقافة الأولين (ودون أدنى شكّ هذه الثقافة ما زالت حيّة إلى يومنا هذا) ثقافة سرعة الإيمان بأن الكلمة هي حقّا مؤثّرة. يبارك من نباركه وكل شيء يعود عليه بالنجاح ويلعن من نلعنه وكل شيء يعود عليه بالفشل. وكل الناس لا تملك قوة البركة أو اللعنة، لكن هناك من يتحلّون بها ويجدر بنا الحذر منهم. باختصار، هناك تشابه كبير مع العين الشريرة.
ما صحة هذه المعتقدات؟ هل هناك من كلمات كافية ووافية لوصف ذلك؟ لأن البركة كما اللعنة تفترض وجود كلمة أو - على الأقلّ - حركة تترك أثراً ما.
أول كلمة مؤثّرة وفعّالة أعرفها، هي كلمة الله :"وَكَمَا تَهْطِلُ الأَمْطَارُ وَيَنْهَمِرُ الثَّلْجُ مِنَ السَّمَاءِ، وَلاَ تَرْجِعُ إلى هُنَاكَ، بَلْ تُرْوِي الْحُقُولَ وَالأَشْجَارَ، وَتَجْعَلُ الْبُذُورَ تُنْبِتُ وَتَنْمُو وَتُثْمِرُ زَرْعاً لِلْفَلاَحِ وَخُبْزاً لِلْجِيَاعِ، هَكَذَا تَكُونُ كَلِمَتِي الَّتِي تَصْدُرُ عَنِّي مُثْمِرَةً دَائِماً، وَتُحَقِّقُ مَا أَرْغَبُ فِيهِ وَتُفْلِحُ بِمَا أَعْهَدُ بِهِ إِلَيْهَا." (أشعيا 55/10 – 11).
إلا أنّ أول فعل مباركة يأتي من عند الله. "فَخَلَقَ اللهُ الإِنسانَ على صُورَتِه على صُورَةِ اللهِ خَلَقَه ذَكَرًا وأُنْثى خَلَقَهم. وبارَكَهمُ اللهُ..." (تك 1/27-28). وهذه البركة هي ليثمر الإنسان وليتسلّط على كل ما هو مخلوق: "اِنْموا واَكْثُروا وأمْلأُوا الأَرضَ وأَخضِعوها" كما أن هذه البركة نفسها في كتاب تثنية الاشتراع هي موازية للحياة (تث 30/19).
وهناك المزيد في بركة الله، ففي نص رواية الخلق نرى الله يبارك اليوم السابع: "وبارَكَ اللهُ اليَومَ السَّابِعَ وقَدَّسَه" (تك 2/3). والبركة هنا هي تكريس وتخصيص. بركة الله للسبت تضع هذا اليوم في الحقل الإلهي. فالله يخلق صلة وصل بين السبت وذاته. السبت مخصص له. انطلاقاً من هذا المثل نتساءل إذا كانت بركة الله للإنسان لا تحمل في طيّاتها نوعاً من التكريس المشابه، أي علاقة خاصّة بين الله والإنسان.
سنرى لاحقاً في الكتاب المقدّس الله مباركاً ابراهيم: "وأنا أَجعَلُكَ أُمَّةً كَبيرة وأُبارِكُكَ وأُعظِّمُ اسمَكَ، وتَكُونُ بَركَة. وأُبارِكُ مُبارِكيكَ، وأَلعَنُ لاعِنيكَ وَيتَبَارَكُ بِكَ جَميعُ عَشائِرِ الأَرض" (تك 12/2-3). بركة الله تأخذ هنا بعدين: وسيلة نقل الحياة والقوّة – فهو يعده بأرض وبنين كثيرين كرمال البحر – ولكنها في الوقت عينه تخصيص وتكريس: الله اختار ابراهيم وخصصه لبناء شعب يعاهده.
مع هذا النص، أيضاً نخطو خطوة جديدة فننتقل من بركة الله إلى بركة البشر لبعضهم بعضاً: "أبارك مباركيك..." ونرى لماذا يعتبر الكتاب المقدّس أن كل بركة مصدرها الله. فالبركة واللعنة كانتا موجودتين قبل كتابة الكتاب المقدّس.
الإيمان بأهمية الكلمة متجذّر في بداية التاريخ. هذة خبرة إنسانيّة ترتكز عليها كل أعمال السحر والشعوذة والتي يمكن لها أن تتحلى بشيء من الحقيقة. حقيقة قوة مشاعرنا من تعاطف أو نفور والتي تتدفق من قلب الإنسان يمكنها أن تتحول مصدراً للحياة أو للموت. قوة تبقى في أغلب الأحيان في اللاوعي ولكنها واقعيّة. قوة تظهر من خلال الكلمات أو الحركات أو ببساطة أكبر من خلال المشاعر القلبيّة. البركة هي هذا الدفق من التعاطف الذي يخرج من القلب، فيصل القلب الأول بقلب ثان، البركة هي اتّحاد، هي تحمل في طيّاتها المزيد من الحياة. اللعنة عكس ذلك تماما. هي فيض الكراهيّة والنفور الذي يبعد ويحطّم ويحرم الحياة. البركة واللعنة هما تعبيران لما يدور في قلبنا من مشاعر.
الكتاب المقدّس سيعطي بعد أخلاقي لقوى اللاوعي هذه بإرجاعها إلى الله، مصدر كل حياة وكل بركة: "سأباركك". هذا لأنّي باركتك فتصبح أنت أيضاً مصدراً للبركة فيمكنك إذا أنت أيضا بدورك المباركة وللآخرين مبادلتك صنيعك.
ما من شيء مكتسب بسهولة في ذلك. البركة مرتبطة باحترام شريعة الله وكلمته: "وإِذا سَمِعتَ لِصَوتِ الرَّبِّ إِلهِكَ، حافِظاً جَميعَ وَصاياهُ الَّتي أَنا آمُرُكَ بِها اليَوم، وعامِلاً بِها، يَجعَلُكَ الرَّبُّ إِلهُكَ فَوقَ جَميعِ أُمَم الأَرض، وتَحِلَّ علَيكَ هذه البَركاتُ كلُها وتُدركُكَ، لأَنَّكَ سَمِعتَ بصَوتِ الرَّبِّ إِلهكَ. مُبارَكًا تكونُ في المَدينة ومُبارَكاً في البَرِّيَّة ومُبارَكاً يَكونُ ثَمَرُ بَطنِكَ وثَمَرُ أَرضِكَ وثَمَر ُبَهائِمِكَ ونتاجُ بَقَرِكَ وغَنَمِكَ ومُباركَةً سَلتكَ ومِعجَنُكَ. ومُبارَكاً تَكونُ أَنتَ في دُخولكَ ومُبارَكاً في خُروجِكَ" (تث 28/1-6)، وبالعكس: "وإِن لم تَسمع لِصَوتِ الرَّبِّ إِلهِكَ، حافِظاً وَصاياه وفَرائِضه الَّتي أَنا آمُركَ بِها اليَوم ولم تَعمَلْ بِها، تأتي علَيكَ هذه اللَّعَناتُ كلُها وتُدرِكُكَ: فتَكونُ مَلْعوناً في المَدينة ومَلْعوناً في البَرِّيَّة وتَكونُ مَلْعونةً سَلّتكَ ومِعجَنُكَ ومَلْعوناً ثَمَرُ بَطنِكَ وثَمَرُ أرضِكَ ونتاجُ بَقَرِكَ وغَنَمِكَ. وتَكونُ مَلْعوناً أَنتَ في دُخولكَ ومَلْعوناً أَنتَ في خُروجكَ"(تث28/15-19).
2- مباركة الأب لابنه
نحن نعرف كلّنا مباركة يعقوب من قبل والده إسحق الذي حلّ مكان أخاه عيسو (تك 27). فنجد في العهد القديم أثراً لعادة قديمة جداً حيث يجب على الابن نيل بركة أبيه ليسود على العائلة أو العشيرة. "فتَقَدَّمَ وقبلَه، فاشتمَّ رائِحَةَ ثِيابِه وبارَكَه وقال: "ها هيَ ذِه رائِحَةُ آبْني كرائِحَةِ حَقْلٍ قد بارَكَه الرَبّ. يعطيكَ الله مِن نَدى السَّماءِ ومِن دَسَمِ الأَرض وُيكَثِّرُ لَكَ الحِنطَةَ والنَّبيذ وتَخدُمُكَ الشُّعوبُ وتَسجُدُ لَكَ الأُمَم. سَيِّدًا تَكونُ لإِخوَتِكَ ولَكَ بَنو أُمِّكَ يَسجُدون. لاعِنُكَ مَلْعون ومُبارِكُكَ مُبارَك"" (تك 27/27-29). يظهر جليّاً هنا معنى البركة كمصدر للسلطة والثراء الماديّ. ولكن نجد هنا أيضاً معنى للتكريس والتخصيص لأنّه بمباركته ليعقوب يصبح إسحق خليفة لإبراهيم الذي اختاره الله وسائراً على الدرب عينه.سيتغير الأمر مع عصر المملكة، فستسبدل البركة بمسحة الزيت والتي هي من اختصاص الآباء وحدهم. أما في عهد الملوك ستصبح البركة من شأن الأنبياء فقط.
نجد في الكنيسة هذه البركات والتي نسميها "بركات التكريس"؛ تستعمل للأشياء، لتبريك المذابح أو الأواني المقدّسة والمخصصة للعبادات وحتى للأشخاص كرسامة الكهنة. مثال ذلك العماد مع مسحة الزيت المقدّس اللذان يكرّسان المتعمّد كعضو في جسد المسيح. هذه البركات مخصصة للأسقف أو الكاهن.
مع ذلك فمعظم البركات هي بسيطة وتستعمل للتمني وتسمّى "بركات التوسّل" – "ليعطيكم الربّ الصحة!" وبإمكاننا كلنا إعطاؤها. فهي تساوي ما يساويه القلب الذي يعطيها وقوة محبته وهي في أغلب الأحيان ما تتحول لكلمات مجاملة بدون نتائج.
3- "ليكن الربّ مباركاً"
لقد عالجنا إلى الآن موضوع البركات التي تجد مصدرها في الله. لننظر إلى الإتجاه الثاني والذي يبدو أكثر غرابة. كيف للصغير أن يبارك الكبير؟ كيف للبركة أن تعود إلى مصدرها؟
يزخر العهد القديم بمباركة البشر لله. "وقالَ يِتْرو: " تَبارَكَ الرَّبُّ الَّذي أَنقَذَكم مِن أَيدي المِصرِيِّينَ ومِن يَدِ فِرعَون. الآنَ عَلِمتُ أَنَّ الرَّبَّ عَظيمٌ فَوقَ جَميعِ الآلِهَة، في الأَمرِ نَفسِه الَّذي طَغى بِه المِصرِيُّونَ علَيهم"" خر(18/10-12).
وبارَكَ ملكيصادق أَبْرامَ قائلاً: "على أَبْرامَ بَرَكَةُ اللهِ العَلِيّ خالِقِ السَّمَواتِ والأَرض وتبارَكَ اللهُ العَلِيّ الَّذي أَسلَمَ أَعداءَكَ إلى يَدَيكَ" (تك 14/19). ولكن المزامير تزخر ببركات الإنسان لخالقه: " أُبارِكُ الرَّبَّ الَّذي نَصَحَ لي حتَّى في اللَّيالي تُنذُِرني كُلْيَتايَ (مز 16/7). "تَبارَكَ الربُّ فإِنَّه آتاني عجائبَ رَحمَتِه" (مز31/23). "أُبارِكُ الرَّبَّ في كُلِّ حين وتَسبحَتُه في فمي على الدَّوام" (مز 34/1). "تَبارَكَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرائيل مُنذُ الأَزَلِ وللأَبد. آمين ثُمَ آمين" (مز41/14). "وكذلِكَ في حَياتي أُبارِكُكَ وأَرفع كَفَيَ بِاْسمِكَ" (مز 63/5). "بارِكي إِلهَنا أَيتُها الشُّعوب وأَسمِعي صَوتَ تَسْبيحِه" (مز 66/8). سيصرخ يسوع بهذه التسابيح على الصليب قائلاً:"أباركك، يَا أَبَتِ، رَبَّ السَّمَاءِ والأَرْض، لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هـذِهِ الأُمُورَ عَنِ الـحُكَمَاءِ والفُهَمَاء، وأَظْهَرْتَها لِلأَطْفَال!" (مت 11/25). لماذا قلنا عنها تسبحة؟ لأن هذه البركات كلّها كلمات صادقة تخرج من قلب المؤمن لشكر الله على كل احساناته ولمبادلته محبته؛ "أباركك لأنك باركتني". من هنا نستنج أن مباركة الله مقبولة، "وهو الذي فوق كلّ بركة" (عدد9/5). لأنها تعبير عن الشكر والامتنان وهذا واجب كل خليقة (رو 1/21).
4- الخاتمة
كخاتمة أولى أود أن أسرد لكم حدثاً عاينته أكثر من مرّة. كل مساء يتجه خالد إلى غرفة نوم أولاده لإلقاء نظرة عليهم في السرير، ينحني ويرسم على جباههم إشارة الصليب بإبهامه مباركاً إياهم. بدوره كل ولد يبارك أبيه بالطريقة نفسها ويختمون بالصلاة. هذه الحركة مفعمة بالمحبّة، بالمشاركة، باقتسام الحياة، أتمنّى لكم جميعاً أن تختبروا ذلك وعندها يمكنكم فهم أهميّة بركات الله أباكم. الأب يبارك ابنه كذلك الابن يبارك أبيه.
كخاتمة ثانية، علينا دائما التذكّر بأن آخر حركة للمسيح على الأرض كانت مباركة التلاميذ: "ثُمَّ اقْتَادَهُمْ إلى خَارِجِ الْمَدِينَةِ إلى بَيْتِ عَنْيَا. وَبَارَكَهُمْ رَافِعاً يَدَيْهِ. وَبَيْنَمَا كَانَ يُبَارِكُهُمْ، انْفَصَلَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إلى السَّمَاءِ." (لو 24/50-51).