هل علينا أن نتعلم أم نبقى على جهلنا؟
بقلم الأب جاك ماسون اليسوعي
أثار كتاب "كشف الكتاب المقدس" كثيراً من الجدل. و سواء كان مضمون الكتاب صحيحاً أو لا، فهذا لا يعني أن نحمي الإيمان بإغلاق أي حوار. إن هذا المقال ليس عرضاً للكتاب فقط بل دعوة للتفكير في طريقة قراءتنا للكتاب المقدس وإعلاننا عن إيماننا في ضوء الاكتشافات العلمية التي تصيبه في تعبيراته. فإن التعجب من أن الحضارة تتسرّب إلى داخل مجتماعتنا مع كل وسائل الاتصال الحالية من جرائد وتليفزيون وانترنت وسفر، قد يدلّ على كثير من السذاجة. كتب الأنبا متىّ المسكين منذ 20 سنة في كتابه" كيف نقرأ الكتاب المقدس" أنه من غير المجدىِ أن نظن بأن كل أعمال التفسير الحديث للكتاب المقدس لن تصل إلى أيدي شبابنا وأنه علينا بكل بساطة أن نصبح قادرين على الإجابة عن كل الأسئلة التي يطرحها الشباب.
هل العلم مضرّ وسيء؟ هل الحقيقة خطيرة؟
هل من الأفضل المحافظة على الناس البسطاء في مأمن من المعرفة؟ قد أجبنا على هذه الأسئلة بمجرّد طرحها.
ومع ذلك، فقد نجد أن بعض الاكتشافات تزعزع الإيمان. ما علينا إلا أن نتذكر اضطراب المسئولين الكنسيين عندما أعلن جليليو أن الأرض هي التي تدور حول نفسها وبأن الشمس لا تدور حول الأرض. لقد حُكم عليه! كان ذلك في سنة 1633.
توصل كوبرنيكوس سنة 1543 أي قبل قرن من إعلان اكتشاف جليليو، إلى نفس الاكتشاف بأن الأرض ليست مركز الكون. وهو أيضاً حُكمَ عليه. يبدو أن اكتشفاتهم لا تؤثرّ على إيماننا اليوم ولا تعيق قراءتنا للكتاب المقدّس.
مازالت نظرية داروين عن تطور الأجناس تزعج بعض المسيحيين. هل لأنها حديثة نوعاً ما؟ (عاش داروين بين سنة 1809 وسنة 1882).
هل يلزمنا كل هذا الوقت لكي يتوافق إعلاننا عن إيماننا مع الاكتشافات العلمية التي تصيبه في تعبيراته؟
هذه المشكلة لا تخص المسيحيين فقط: اقترح نصر أبو زيد (أستاذ اللغة العربية) في كتابه "النص وتفسيره" أن نميز في قراءة القرآن بين الوحي- الذي هو إلهي- والنص الذي يعبّر عنه -الذي هو إنساني- إذاً خاضع للتفسير والتأويل العقلي. أدُين نصر أبو زيد لقوله هذا بالرغم من أنه يقدمّ نفسه على أنه شخص مؤمن وملتزم بإيمانه.
هل إدراك الوحي وكتابة النص على نفس المستوى؟
يخضع الإدراك "للوحي" لأنه من "الله" ولكن يجب أن يخضع النص الذي يعبّر عن هذا الوحي للعقل الذي ينفذه لأن النص مكتوب بلغة بشريّة. إذا تناقض النص مع التفكير السليم، فهذا يعني أنه لا يعبّر بطريقة صحيحة عن الوحي ويحقّ للعقل أن يفسّره بطريقة مختلفة لكي يحترم الوحي.
"أبانا الذي في السموات": لماذا هذا الجمع؟ وهل يمكننا سجن الله في مكان معّين وهو خالق جميع الأمكنة؟ الكلمات تقف عند هذا الحد لكن الروح يترجم المعنى خلاف ذلك:"السموات"-" هو مكان يعلو (أو يسمو) عن كل الأمكنة وليس بمكان.
إذاً هل علينا أن نجهل ونختبئ أم من الأفضل أن نخاطر بأن نفاجأ باكتشاف جديد حتى ولو أجبرنا هذا الاكتشاف على التعبير عن إيماننا والتفكير به بطريقة مختلفة ولكن بدون شك أكثر دقة؟
قد تسمح لنا هذه المقدمة الطويلة بتناول الآن تقرير عن الكتاب الذي نرغب في أن نعرّفكم عليه حتى ولو لم تُتَح لكم فرصة قراءته.
كتاب "كشف الكتاب المقدس" “The Bible Unearthed”
ليس الكتاب شرحاً للكتاب المقدّس، إنه كتاب عن علم الآثار.يتعّلق موضوعه بتاريخ ممالك إسرائيل ويهوذا وبذلك يلمس الكتاب المقدّس.
يسبب هذا الكتاب بالتأكيد مشكلة ويعرّض إيمان كل الذين ما زالوا يعتقدون أن كل ما كُتب في الكتاب المقدّس صحيح تاريخياً وعلمياً، سيُدينونه إذاً. ولكن بعد إدانتهم له ماذا سيفعلون "بالحقائق الأثرية"؟
في مقابل ذلك، يقول الأب جيبير أن الكتاب يشكل لمحبّي الحقيقة ولو فاجأتهم في بعض الأحيان، "بَعّدَ المفاجأة، نفحة هواء منعش" (Etudes, 2002, p285) .
صدر هذا المؤلَف في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 2001 تحت عنوان “The Bible Unearthed” وأثار فور صدوره، مناقشات عديدة وجادة. ويبقى هذا الكتاب مجهولا ًإلى حّد كبير في مصر لأنه لم يترجم إلى اللغة العربيّة بَعد ولكننا نجده في الأسواق.
"اسرائيل فنكلشتين" أستاذ في جامعة تل أبيب ومدير معهد الآثار في هذه الجامعة.و"نيل آشر سيلبرمان" صحفي علمي مولع بعلم الآثار.
نظرية الكتاب بسيطة:
تجبرنا المعطيات الأثرية الناتجة عن التنقيب الجاري في إسرائيل والأردن ومصر على التأكيد بأن الكتاب المقدّس لم يُكتَب قبل عهد الملك يوشياّ أي في القرن السابع قبل المسيح. فكل الروايات التي تسرد أحداثاً سابقة لهذا العهد لا تروي لنا التاريخ بالمعنى الحصري للكلمة بل بالأحرى تحكي ملحمة لمجد مملكة يهوذا.
ينقسم هذا الكتاب إلى ثلاثة أقسام:
وُضع القسم الأول تحت عنوان"تاريخيّة الكتاب المقدس" ويشكك في القيمة التاريخيّة فقط لما رُوىَ من إبراهيم حتى سليمان ضمناً.
خُصصَ القسم الثاني لمملكة الشمال ويبدأ بموت سليمان وينتهي بسقوط السامريّة سنة 722 .
يحمل القسم الثالث عنوان:"يهوّذا وخلق التاريخ الكتابي". سيكون الملك يوشياّ مسؤولاً عن تقديم ماضيِ إسرائيل كما وَرَدَ في الكتاب المقدّس.
الطريقة المتبعة لتأييد ولدعم الفرضيّات المذكورة بسيطة جداً، تستند بكاملها على ملاحظات أثبتها علم الآثار والتنقيب الميداني.
غير أنه ما برهن عليه التنقيب هو أن في عهد داود وسليمان، لم تكن أورشليم إلا قرية صغيرة فقيرة وعدد سكاّنها قليل. كما يضيف أن مملكة يهوذا الصغيرة لم تعرف إزدهارها وأهميتها مع هيكلها وكهنتها وكتبتها إلا بعد سقوط مملكة الشمال مع عاصمتها السامرية.
وفي هذا الوقت فقط، جرت أولى أعمال الكتابة في نصوص الأسفار الخمسة الأولى وتاريخ إسرائيل.
أتت أعنف الانتقادات ضد الكتاب من يهود إسرائليين متشددين، لأن هذا الكتاب، يعيد إلى بساط البحث أسس حجتهم الدينية "بحث الشعب الإسرائيلي بأرض فلسطين" حتىّ أنهم وصفوا الكاتبين بأنصار التعديل وحاولوا انتقاد الاستنتاجات الأثرية التي توصلّوا إليها. أتى نقدهم ضعيف الحجة بسبب دوافعهم السياسية البعيدة عن العلم.
في الواقع، تلمس التحفظات الوحيدة التي يرتكز عليها علماء آثار آخرين، حقبة العصرالحديدي الثاني المقترح من كاتبينا.
كتاب "كشف الكتاب المقدس" ليس بريئاً من كل الإتهامات، فعنوانه مستفذ: وكأنه يعني أن الكتاب المقدّس يخبئ أسراراً. وبهذا يضع الكتاب نفسه من جهة اليهود المتحررين(الليبراليين) الذين يرفضون تجاوزات المتشدّدين من بنيِ عرقهم.
عمّا نبحث في الكتاب المقدّس؟
أما تحفظ المفسّرين الكاثوليك الوحيد يكمن في أن البحث الذي قام به الكتاب لا يستند إلا على علم الآثار ويتجاهل تاريخ النص نفسه. ليس الكاتبين بمفسرّين للكتاب المقدّس بل هما عالما آثار. وحتى بصفتهما عالمي آثار، يدل عملهما على صعوبة القيام بدراسة يطال بها الكتاب المقدّس من دون تحّيز أيديولوجي. فماذا نقول إذاً للشباب الذي يطرح علينا أسئلة تخص استنتاجات هذا الكتاب؟
تبعاً لطريقة يسوع، نرد على سؤالهم بسؤال آخر:"عن ماذا تبحثون في الكتاب المقدّس؟" ونضيف قائلين:"إذا كنتم تبحثون عن"تاريخ" العبرانيين وشعب إسرائيل، عليكم البحث في مكان آخر. برغم اقرارنا بأن الكتاب المقدّس يقدّم مصدر تاريخي لا يضاهى، غير أنه لم يُكتب ليعلمنا التاريخ أو العلوم ولكن ليعرّفنا بالله وبخطته للخلق وبعهده مع الإنسانية وبمعنى الحياة والطريق مع الله".
يقدّم لنا الكتاب المقدّس كل هذا من خلال لغته وثقافة الذين كتبوه. فعلينا أن نعرف كيف نفهمه ونفسره ولكن على المستوى الإيماني، الكتاب المقدّس هو كلمة الله الحقّة ويستحقّ ثقتنا الكاملة. قراءة الكتاب المقدّس ليست دائماً سهلة وقد تصدمنا في بعض الأحيان. من المفيد الاستعانة بدليل ومعلّم يفسّر لكم ما قرأتم. ولكن، مع ذلك من الممكن ومن الطبيعي أن نقوم بقراءة بسيطة وساذجة وأن نغذّي تأماتنا وصلواتنا، وهذه الطريقة في تناول الكتاب المقدّس لطالما كانت موجودة في التقليد اليهودي كما في التقليد المسيحي.