بقلم الأب كميل وليم
الأنبياء والسلطة
لعب صموئيل النبيّ دوراً هامّاً في بداية الحياة الملكيّة (1 صمو 8/10, 13، 15). ودعا الله كلاً من إيليّا وأليشع لكي يقلبا ملوك دمشق والسامرة (1 مل 19/15 – 18، 2 مل 9/10). ولم يبتدع أنبياء إسرائيل هذا الدور فقد كان لأنبياء ماري نفس الدور ألف سنة قبل أنبياء بني إسرائيل. فقد اعترض هؤلاء على بناء متاريس حول المدينة وأعلنوا للملوك فشل الحملات المريبة وساندوا ملوكاً وبشّروهم بالنصر وبهزيمة الأعداء.
قد تبدو تدخّلات أشعيا في القرن الثامن أو أرميا في أواخر مملكة يهوذا أو أرميا في أواخر مملكة يهوذا، إذا نُظر إليها بمعزل عن هذا السياق، غريبة. ولكن بموضعها في سياقها، تبدو أنشطة عاديّة. فلا يجب ألا ينغلق مرسل يهوه على المجال الروحيّ والأخلاقيّ أو حتّى الاجتماعيّ، لأنّ كيان هذه الدولة لا يعود إلى الكفاءة الحربيّة أو المهارة السياسيّة للحكّام إنّما يعود إلى جودة وأمانة يهوه.
فالنبيّ هو رجل يقود بتوجيهاته العامّة والخاصّة معاصريه في شتّى المجالات الاجتماعيّة والسياسيّة والدينيّة ولا توجد حدود تتوقّف عندها رسالته: فهو ينادي جهراً ويندّد علناً بما يحدث سرّاً لأنه لا يفلت شيء من عين الله الذي أرسله.
وقد نلاحظ أن النبوءة والملكيّة هما ظاهرتان متلازمتان في إسرائيل، ظهرتا معاً في أواخر الألف الثانية قبل الميلاد (شاول الملك وصموئيل النبي) واختفتا معاً بعد خمس قرون تقريباً الألف الثانية قبل الميلاد (شاول الملك وصموئيل النبي) واختفتا معاً بعد خمس قرون تقريباً (زروبابل آخر سلالة داود النبيّان حجّاي وزكريّا).
ويقوم النبيّ بدور حارس ورقيب الحياة السياسيّة فهو يذكّر الملك بأن الله هو مصدر سلطته ويذكّره بحدودها وبحقوقه وكيفيّة ممارسته لها، إنّه رجل الله الذي يواجه البلاط والإدارة التّي تريد أن تجنّد كلّ قدرات البلد لخدمة مصالحها الخاصة. فعلى الملك وحاشيته أن يؤدّوا أمام ممثّلي يهوه حساباً عن تصرّفاتهم.
وقد يمكننا أن نتعرّف على أحد أسباب التلازم بين الملكيّة والنبوءة. فالسلطة، وخاصّة السلطة السياسيّة، تميل دائماً إلى تأليه وتقديس حقوقها بحيث لا تُمسّ. لذلك أراد الله أن يكون هناك الأنبياء. ليقوموا بدور الحارس والرقيب ويحولوا دون تأليه السلطة وليذكّروا الملك بأنّه مجرّد نائب يهوه، الملك الحقيقيّ.
أشعيا وإرميا
نادى أشعيا وإرميا بنفس الإله ومارسا رسالتهما في نفس المدينة، في ظروف تعرّضت فيه المدينة لخطر خارجي وعرف كلاهما أنّه مدعوّ للكفاح ضدّ محترفي السياسة الإلهيّة "Theocratie" بمعنى أن الملوك والساسة هم ظلّ الله على الأرض. ومع ذلك فالاختلاف بين السلوك الذي ينادي به أشعيا والسلوك الذي ينادي به إرميا واسع جداً.
بينما ينادي إرميا، في بداية القرن السادس، بعدم جدوى مقاومة قوّات بابل، ويؤيّد الاستسلام لقوّات نبوخذ نصّر والتعامل معه. أدّى هذا إلى اتّهامه بالعمالة أو أقلّه بالانهزاميّة وبالتالي استحقاقه للعقاب.
كان أهم شاغل لأشعيا هو تحذير البلاط والساسة من الاعتماد المفرط على مهارتهم الدبلوماسيّة وقوّاتهم العسكريّة. فشجب التحالف مع أشور الذي سعى حزقيّا لإقامته ضدّ حلفاء يحلتفلاصر الثالث. ولا ينجو من نقده أولئك الذين بنوا آمالهم على قوّة مصر ولم يبنوها على يهوه (أش 30: 1 – 5، 31: 1 – 3). فيهوذا هو شعب الله وأورشليم هي مقرّه، وملكها هو خليفة داود مختاره، وعهد الشعب مع يهوه يتنافى مع أيّة محاولة لإقامة عهود وأحلاف سياسيّة مع آشور أو بابل أو الفلسطينيّين. إنّه يقتضي أمانة بلا حدود ليهوه ملك يهوذا الحقيقيّ.
إنّ العامل المسيّر والمسيطر على السياسة الإلهيّة (في مفهوم أشعيا) هو العهد مع يهوه. فهو سبب وجود وحياة يهوذا، وبدونه لا مبرّر لوجوده. ولكنّ سياسة رؤساء يهوذا وملوكها تثير علامات استفهام كثيرة حول هذا الأمر، فلا يتّفق التحالف مع آشور ومصر مع العهد. إنّ هذه التحالفات تبطل العهد وتجعل من أورشليم مدينة كباقي مدن فلسطين، ومن ملكها، سلالة داود، ملكاً صغيراً يدفع الجزية لكي يعيش. إنّ يهوذا ينكر ذاته بالسياسة التّي يتبعها إذ يعتمد على قوّته وحكمته ويستند على الخطط العسكريّة وعلى مهارة وحذاقة ساسته. إنّه أولى ظهره لإلهه وهو بدون إلهه لا شيء.
يختلف الأمر بالنسبة لإرميا – إنّه لا يكرّر بما نادى به أشعيا، إنّه يعلن اقتراب وقت الحساب الذي طال انتظاره. لقد أضاع الشعب كلّ فرص التوبة الذي أتاحها له يهوه، وبالتالي فإنّ التصرّف الوحيد – عندما يحاصر البابليّون أورشليم – هو الاستسلام بدون مقاومة وبدون شروط. فالمقاومة تعني مواصلة التمرّد ضدّ يهوه. ونبوخذ نصّر ما هو إلا أداة في يدي يهوه يصبّ بها جام غضبه على الشعب الخاطئ المتمرّد. ينادي إرميا إذاً بالاستسلام للعدوّ بلا شروط ففي ذلك فقط الفرصة الأخيرة للنجاة من مخطّط الانتقام الإلهيّ (أر 27 – 29، 37 – 38). ولا يقوم بعد ذلك وجود يهوذا على العهد لأنّهم قد فقدوا وأبطلوا مفاعليه وعليهم تحمّل النتائج الوخيمة لذلك.
كان عهد الله لداود وذرّيّته ولصهيون في زمن أشعيا الحقيقة الأساسيّة وأساس سياسة يهوذا. أمّا في وقت إرميا ففقد العهد كلّ معنى، إذ أنّ الشريك (الشعب) قد رفضه وبالتالي فإنّ أيّام شعب العهد أصبحت معدودة والسياسة التي لا تأخذ هذا الأمر بعين الاعتبار هي سياسة خرقاء تقود الشعب إلى كارثة محقّقة.
لم يكنّ هو الأصل الذي ميّز أشعيا عن إرميا (فأشعيا من مواليد أورشليم بينما ينتمي إرميا إلى وسيط بنيامين وبلدته عناتوت) ولا الطبع (حسم أشعيا وتردّد أرميا) ولا اختلاف أعداء يهوذا (لا فرق بين الأشوريّين والبابليّين) إنّ ما يميّزهما عن بعضهما هو التطوّر الذي طرأ على العلاقة بين الله وشعبه خلال ثلاثة قرون (8 – 6 ق. م). كان الله يضمن مستقبل المدينة أيّام أشعيا بينما اختلف الأمر تماماً أيّام إرميا. إنّه التطوّر اللاهوتيّ والذي ما كان ممكناً معه أن يردّد إرميا أو يعمّق رسالة أشعيا.
نختم قائلين: اهتم الأنبياء بإدلاء رأيهم في السياسة التي يجب انتهاجها، إلا أنّهم لم يقدّموا برنامجاً سياسيّاً ولا فرضوا على الملوك حلاً. فعلى هؤلاء أن يتمّموا واجباتهم كملوك. وواجب الأنبياء هو سؤالهم ومساءلتهم عن سياستهم ومحاسبتهم عمّا إذا كانت اختياراتهم السياسيّة نابعة عن خوف أو ثقة وتشجيعهم على اتّخاذ قرارات متّفقة وإيمان الشعب بها. بذلك تكون تدخّلاتهم على مستوى الإيمان ويكونون هم وعّاظاً أنبياءً وليسوا دُعاة سياسيّين. لقد مارسوا ضغوطهم الدينيّة ليؤثّروا على قرارات الملوك السياسيّة فالكلمة الأخيرة في رأيهم ليست للسياسة إذ أنّ هناك قوّة أخرى تعمل (قوّة يهوه)، وأمام هذه القوّة تزول كلّ القوى الأخرى (راجع أشعيا 31:3).