القيامة بين الجلاّد وضحيّته

بقلم الأب سامي حلاّق اليسوعيّ 

«المسيح قام، حقّاً قام».

بهذه العبارة نحيّي بعضنا بعضاً في هذا اليوم. إنّه نبأ نعلنه كما أعلنه الرسل للناس بعد خمسين يوماً من القيامة. أقول بعد خمسين يوماً لأنّ الرسل لم يفهموا معنى ما حدث إلاّ حين حلّ الروح القدس عليهم «وعلّمهم جميع الأشياء» (يو 14: 26). ولن نفهم معنى القيامة حقّاً إلاّ من خلال كرازة الرسل. فما الّذي أعلنوه؟ تقدّم لنا القراءة الأولى، وهي مأخوذة من أعمال الرسل، نموذجاً للكرازة بيسوع القائم من بين الأموات.

لقد أراد يسوع أن يمكث تلاميذه في أورشليم، في المدينة الّتي قتلته، بانتظار أن يحلّ عليهم الروح القدس. لماذا؟ لكي يفهموا معنى القيامة ويعلنوها لأهل هذه المدينة القتلة: مَن قتلتموه قام، ولكن لا تخافوا، فهو لن ينتقم منكم بل يريد أن يخلّصكم. لو أراد أن يثأر لنفسه منكم لفعل ذلك بنفسه. لكنّه يعلم أنّه سيدخل بثأره هذا دوّامة الشرّ والموت اللذَين أتى ليقضي عليهما. لا! لن يدخل القائم من بين الأموات دوّامة العنف الّتي تتحكّم بالعالم بل سيقف خارجها ويدعونا إلى نمدّ له أيدينا ليخرجنا منها. « لِأَنَّ ابْنَ الإِنسانِ جاءَ لِيَبحَثَ عن الهالِكِ فيُخَلِّصَه» (لو 19: 10). لكي نخرج من هذه الدوّامة، لكي نتمكّن من مدّ أيدينا، علينا أن نعود إلى ضحايانا. فقد قيل «سَيَنظُرونَ إِلى مَن طَعَنوا» (زك 12: 10). ورغبة يسوع بأن يعلن تلاميذه القيامة لمَن قتلوه تعني أنّ الجلاّد لن يخلص إلاّ إذا التفت إلى ضحيّته. بدون هذا الالتفات ما من شفاءٍ ممكن وما من خلاصٍ ممكن. على الجلاّد أن يعود إلى ضحيّته وينظر إليها، لا نظرة ازدراءٍ واحتقار، لا نظرة تبريرٍ لما فعله، لا نظرة يأسٍ وخوفٍ من الإدانة، بل نظرة رجاء بأنّ خلاصه من إثمه هذا لن يأتي سوى من هذه الضحيّة، من شعور الندامة الّذي يولّده منظرها. لذلك تلحّ الروحانيّة المسيحيّة على أن ينظر التائبون إلى المصلوب، أن ينظروا إلى مَن طعنوه، لعلّ منظره يحرّك مشاعرهم، فتتفطّر قلوبهم.

يقول أحد النباتيّين: لم أكن في طفولتي نباتيّاً، بل كنتُ أحبّ أكل اللحم كثيراً. وذات يوم، أحضر أبي خروفاً للعيد. كان وديعاً وحلواً. وكنتُ أتسلّى بإطعامه ومداعبة صوفه. وبعد أيّام، أتى الجزّار وذبحه. كنتُ حاضراً. رأيتُ كيف ألقاه أرضاً وداس عليه وأمسك برأسه. رأيتُ كيف حاول هذا الخروف أن ينتفض ليهرب من السكّين، وكيف كانت انتفاضاته تزيد الجزّار عنفاً. رأيتُ كيف جزّ عنقه فانفجر الدم الأحمر ولوّثنا نحن المحيطين به، وكيف أنّ حركاته هدأت تدريجيّاً، وهدأ معها عنف الجزّار حتّى ترك الخروف المسكين جثّةً هامدة مضرّجة بالدماء. هدأ كلّ شيء وبدأت مشاعر غريبة تتحرّك في داخلي. لا يزال منظر الجثّة المضرّجة بالدماء حيّاً في ذاكرتي. لم أذق لقمةً واحدة من لحم هذا الخروف. ولم أذق لقمة لحمٍ بعد ذلك اليوم الكئيب. كلّما رأيتُ اللحم عادت صورة المذبوح إلى مخيّلتي ... منذ ذلك الحين صرتُ نباتيّاً.

«سَيَنظُرونَ إِلى مَن طَعَنوا». إنّ خبرة كثيرٍ من الكهنة هي أنّهم يستقبلون قبل الأعياد كثيراً من المعترفين، ولكنّهم يجدون بينهم قليلاً من النادمين. لماذا؟ لأنّ أولئك لا ينظرون إلى ضحاياهم. إنّهم يفكّرون بخطاياهم ويحصونها من دون النظر إلى ضحايا هذه الخطايا: ينظرون إلى الشتيمة من دون أن ينظروا إلى مَن شتموه. ينظرون إلى الزنى من دون أن ينظروا إلى مَن دنّسوه. ينظرون إلى السرقة من دون أن ينظروا إلى مَن سرقوه ... الشتيمة والزنى والسرقة والكذب والنميمة مفاهيم مجرّدة. إنّها لا تعكس صورة الضحيّة الّتي من شأنها أن تجعل قلوبنا تتفطّر حزناً وندامة، ولعلّ هذا من أسباب الاعتراف بدون ندامة.

لقد ألحّ يسوع على تلاميذه كي يبقوا في أورشليم، المدينة القاتلة، لأنّه لا يريد أن ينتقم من سكّانها بل أن يحرّرهم من خطيئتهم، ولا تحرّر من هذه الخطيئة إن لم ينظر الجلاّد إلى ضحيّته راجياً الخلاص من إثمه. لذلك يخبرنا سفر أعمال الرسل أنّ خبر القيامة أعلِنَ أوّلاً لسكّان هذه المدينة الّذين شاركوا في قتل البريء: «ذاكَ الرَّجُلَ الَّذي أَيَّدَه اللهُ لَدَيكُم بِما أَجْرى عن يَدِه بَينَكم مِنَ المُعجِزاتِ والأَعاجيبِ والآيات، كما أَنتُم تَعلَمون، 23 ذاكَ الرَّجُلَ الَّذي أُسلِمَ بِقضاءِ اللهِ وعِلمِه السَّابِق فقتَلتُموه إِذ علَّقتُموه على خَشَبةٍ بأَيدي الكافِرين، 24 قد أَقامَه اللهُ وأَنقَذَه مِن أَهوالِ المَوت ... تَخَلَّصوا مِن هذا الجيلِ الفاسِد» (رسل 2: 22-24، 40).

في دوّامة العنف الّتي تعصف في بلداننا هذه السنة، يمكننا أن نرى بنور القيامة ما هو الموقف الّذي يطلبه يسوع منّا. لقد جعلت هذه الدوّامة كثيراً من المسيحيّين يحيدون عن جوهر القيامة، ويتمنّون الموت لهذا أو ذاك، ويدعون إلى إبادة هذه الجماعة أو تلك، وهم يعتقدون أنّ ما يتمنّوه حكمةً. ربّما كان حكمةً، ولكنّها ليست حكمة الله بل حكمة هذا العالم. إنّها حكمة جعلها الله حماقة (1 قور 1: 20) ونور القيامة يؤكّد لنا أنّها حماقة حقّاً.

القيامة لا تتركنا حمقى بل تجعلنا حكماء. وحكمة الله هي أنّ العنف لا يولّد سوى العنف، والمخرج الوحيد من دوّامة العنف هذه هو الغفران. ولكي يكون هذا الغفران ممكناً، علينا أن نميّز بين الجلاّد وأفعاله. فنستنكر هذه وننبذها، ونحبّ ذاك ونعمل لأجل خلاصه. لقد قام يسوع بهذا التمييز في حياته كما في مماته وقيامته. أحبّ الخاطئ وكره خطيئته. غفر لجلاّديه وميّزهم عن أفعالهم لأنّهم لا يعلمون ما يفعلون. وها هو في قيامته يريد أن يلتفت أهل المدينة القاتلة إلى مَن طعنوه لينالوا منه الخلاص. فلا نكوننّ حمقى بل حكماء، لا نكن دعاة عنفٍ بل صانعي سلام. ولنميّز الجلاّد عن جريمته والخاطئ عن خطيئته، ولنعلن للجميع سرّ القيامة والحقيقة الّتي تنكشف فيها.

«المسيح قام، حقّاً قام».

 

نشرت على موقع الآباء اليسوعيين في الشرق الأوسط