لا تخف فإني معك

بقلم الأب أوليفر بُرج – أوليفييه اليسوعي

أخبرنا العلماء وعلمتنا الحياة أنه من طبيعة الإنسان أن يشعر بالخوف فلا داعي للشعور بالخجل أو بالذنب بسبب ذلك. كما أنه لا علاقة بين الخوف والخطيئة، فالخوف شعور وعلامة على نبض الحياة وبالفعل، يؤكد علماء النفس أن الخوف هو أكثر المشاعر عمقاً وأكثرها شيوعاً بين البشر، حتى لو كان من الصعب على غالبيتهم أن يعترفوا بذلك. وإن كنا لا نخاف على الإطلاق فهذا يعني أننا نعاني من نقص ما: جسدي أو عقلي!! الخوف ينبهنا إلى اقتراب الخطر، فنحن إذاً بحاجة إلى أن نشعر بالخوف

نوعان من الخوف والقلق

 هناك نوعٌ نعتبره صحياً ومعتدلاً وإيجابياً، فبدون نعمة الخوف، وبدون هذا الشعور الإيجابي لما كنا اليوم أحياءً. يدل الخوف على مدى قرب الخطر، فالخوف من وقوع حادث سيارة هو الذي يجعلنا نقود بحرص، والخوف من المرض هو الذي يشجعنا كي نأكل وجبة صحية، والخوف من الغرق هو الذي يمنعنا من السباحة في وسط البحر أثناء العاصفة، ومن ثم فالخوف هو الشعور الذي يعلمنا الحرص والحذر دون أن يشلنا أو يرهبنا    . 

ولكن يوجد أيضاً نوعاً آخر من الخوف وهو الخوف المرضي غير المعتدل والسلبي. يمنعنا هذا النوع من الخوف من القيام بالأعمال التي بإمكاننا أن نقوم بها ويجعلنا قلقين للغاية. فمن الممكن مثلاً أن تكون لدينا جميع المؤهلات والامكانيات لإلقاء كلمة أمام جمعٍ كبير ولكن يمنعنا خوفنا من القيام بذلك. فما أن نجد أنفسنا أمام الناس حتى نرتجف ونفقد النطق. وبالمثل، نحن نعرف حق المعرفة أن السفر بالطائرة هو أكثر  وسائل المواصلات أماناً ولكن فكرة ركوب الطائرة نفسها هي التي تصيبنا بالذعر    . 

وكل نوع من الخوف هو خليط نجد فيه الصحي كما نجد فيه المرضي، نجد المعتدل كما نجد غير المعتدل. فقد يمنعني الخوف المعتدل من الكلاب من دخولِ مكانٍ به كلب شرس، ولكن قد يجعلني خوفي غير المعتدل مذعوراً أمام جميع الكلاب حتى أكثرها وداعةً. وهذا الخوف السلبي هو الذي يشلنا ويمنعنا من القيام بأي شيء    . 

والخوف يُنشئ القلق، بل هناك نوعان من القلق: قلق معتدل وآخر غير معتدلٍ، إن كنا مثلاً ذاهبين لحضور لقاءٍ مهم سيتحدد على أساسه مستقبلنا المهني فمن الطبيعي أن نكون قلقين فهذه علامة على الأهمية التي نعطيها لهذا الأمر    .     ولكن إن وصل بنا القلق إلى عدم القدرة على التحكم في تصرفاتنا، وإن كنا نصاب بتقلصات في الأمعاء لمدة 3 ساعات قبل اللقاء، وإن عانينا من الأرق لمدة أسبوع وانفجرنا أمام الآخرين كلما حدثنا أحدهم، فهذا قلق غير معتدل وغير صحي    .

لنتقبل خوفنا

ما دام الخوف علامة على قرب الخطر، فالتعرف على هذه العلامة واكتشاف ما تنبهنا إليه أمران حيويّان. وهناك مخاوف يسهل علينا أن نتقبلها أكثر من غيرها؛ فليس من الصعب أن تعترف بالخوف بوجهٍ عام، وخاصة من الأشياء التي يخاف منها جميع الناس عادةً ويتحدثون عنها بدون إحراج. فكلنا على استعداد لأن نعترف بخوفنا أمام هجوم أسد مفترس، ويُعتبر هذا الخوف طبيعياً لأننا لا نفقد احترام الآخرين لنا عندما نعترف به    .     ولكن إن كنا نخاف من عبور الشارع (ولا نقصد شارع كشارع رمسيس في ساعة الذروة) فسيصعب علينا أن نعترف بذلك. وبالتالي سنداري خوفنا آملين ألا يلاحظه أحد علينا، ومع ذلك فإنه من المفيد جداً أن نتوقف ونعترف أننا خائفون بالفعل .

الخطوة الأولى

الخطوة الأولى هي أن نلاحظ مخاوفنا ونتعرف عليها، وهي خطوة هامة على طريق التحكم الفعال في الخوف. علينا أن نستأنس خوفنا كأنه طفل مشاغب رزقنا به، فالخوف يحتاج إلى الاهتمام به والتعرف عليه وعلى أسباب "شغبه"، تماماً مثل الطفل المشاغب. وعلى أية حال، فالخوف خوفنا، وعلينا أن نحسن استقباله. إن التعرف على مخاوفنا يشبه سائقين تلاقيا في شارعٍ ضيق، فانتظر كل واحدٌ الآخر حتى يمر، وعندما وجدا نفسيهما وجهاً لوجه أبطآ السير وألقى الواحد التحية على الآخر وابتسما أو رفعا أيديهما علامة على التصافح. نحتاج نحن أيضاً إلى أن نبطئ قليلاً و"نصافح" حوفنا بالطريقة نفسها.

طغيان الخوف

عندما نرفض أن نهتم بخوفنا نطلق له العنان كي يتحكم في سلوكنا. ونسلم له الزمام ويتملك علينا ويقودنا، ويجعلنا ذلك مترددين ومنقسمين داخلياً نسلك طرقاً مختلفة من العنف والغضب.

خذوا على سبيل المثال موقف رجل يخشى دائماً من أن يتفوق عليه أحد. فإن تفوقت زوجته عليه ثقافياً، غضب منها. وبدلاً من الاعتراف بخوفه، اتهمها بالإهمال في واجباتها تجاه الأسرة وخلق صعوبات كثيرة في حياتهما الزوجية. يغار هذا الزوج من نجاح زوجته ويسلك سلوكاً يدمرها بل يدمره هو أيضاً ويدمر علاقتهما.

وهنا يبدأ الزوج في عمل مقارنة سلبية بينه وبين زوجته ويقلل من شأنه أثناء المقارنة فيضر زوجته ويضر نفسه عاطفياً، ويفقد السيطرة على الأمور لأنه لا يعترف بخوفه الأصلي فيجد نفسه في دائرة مفرغة من السلوك تقوده إلى الذعر. يحتاج هذا الخوف إلى التوقف لكي يتعرف على خوفه ويعترف به وليقرر ما يريد أن يفعله بهذا الخوف قبل أن يبدأ الخوف في فرض قانونه عليه.

والخوف غير المعترف به خطيرٌ مثله مثل الفضلات النووية التي لا يمكن أن نتخلص منها ولكن من الممكن أن نخزنها. وفي غالبية الأحوال يكون هذا الخوف أقوى من الفضلات النووية لأنه لا يمكننا أن نخزنه بطريقة مأمونة، فهو يستمر في العمل وينمو بطريقة مدمرة وإن حاولنا كبته ولَّد غضباً وعنفاً. والغاضبون هم عادةً الأشخاص الذين يخافون ولا يستطيعون أن يعترفوا بخوفهم على الملأ. وهنا يكون غضبهم وعنفهم بمثابة الملجأ الأخير قبل التسليم الكامل بالأمر الواقع. قد فقد هؤلاء الأشخاص الأمل في أن يتعايشوا مع الوضع بطريقةٍ أخرى مختلفة.

مهمة صعبة وغير مريحة

ليس من السهل علينا أن نواجه مخاوفنا إذ يعني هذا مواجهة الواقع، مواجهة حقيقتنا. إنه شيءٌ غير مريح. ولكن لو تقبلناه، تحرّرنا تدريجياً من الخوف الذي يخنقنا وعشنا حقاً. علينا أن نتقبل الحقيقة فهي تمنعنا من العيش في الأوهام كما تمنعنا من التظاهر بغير حقيقتنا، تمنعنا أيضاً من خداع أنفسنا ومن خداع الآخرين. تساعدنا الحقيقة على أن نكون أكثر آدمية.

يعني كل هذا أنه يجب علينا أن نتوقف وننظر جيداً إلى صورة الإنسان "الكامل" المرسومة في مخيلتنا. وغالباً ما نتصور أن الإنسان المتزن والناضج هو إنسان بارد المشاعر، تتكون هذه الصورة في فترة المراهقة. فيبدو لنا أن نجوم السينما والغناء والرياضة قد أتوا من عالمٍ آخر غير عالمنا، فنعتقد أنهم وصلوا إلى ما هم عليه من نجاح بدون مشاكل وبدون عناء وبدون بكاء. وهذا ما يفسر لنا لماذا يصعب أحياناً على المسيحيين أن يتخذوا يسوع المصلوب مثالاً للكمال:  فـ"صورة" المصلوب لا توحي بـ"ملامح النجاح"، بل هي لإنسان تشوه وجُرِح وتعذب على أيدي إخوته وأصدقائه. تُرى هل صورة الإنسان الكامل التي بداخلنا أقرب إلى نجوم السينما أم إلى يسوع المصلوب؟ هل لا زلنا نحتفظ بـ"صورة" مراهقتنا؟

من الضار أن نحتفظ بأفكار المراهقة هذه فإن كانت هذه الشخصيات التي أعجبنا بها تبدو لنا مسيطرةً تماماً على مصائرها، طاهرة وناجحة بدون تعقيدات. قد تكون الحقيقة وراء الصورة مختلفة: ربما أكثر تشويقاً وربما أكثر إزعاجاً أو أكثر تشجيعاً... ولكنها في جميع الأحوال أكثر إنسانية.

كيف نتصرف أمام مخاوفنا وقلقنا؟

(1)  كتابة قائمة:

أ- قم بعمل قائمة بالأشياء التي تخاف منها، مثلاً: الدماء، الثعابين، الكلاب، الظلام، البحار العميقة... إلخ.

ب- قم بعمل قائمة أخرى للأشياء التي تخاف أن تقوم بها، مثلاً: إلقاء كلمة أمام جمع من الناس، السفر بمفردك، الامتحان الشفهي، أن تطلب شيئاً من أحد الناس، أن تقول "لا"، أن تخطئ... إلخ.

(2)  طرح أسئلة:

1- هل خوفك هذا صحي، معتدل ومفيد؟

2- هل خوفك هذا غير صحي، غير معتدل أو مضر، يمنعك من أداء أعمالٍ بإمكانك فعلياً أن تؤديها فيزعجك بدون فائدة؟

(3) مما تخاف حقاً؟ ابحث عن جذور خوفك، عن الخوف الموجود في أعماقك متخفياً تحت الخوف الظاهري.

مثلاً: أنا أخاف من المستشفيات لأتي أخاف من الألم. الخوف الحقيقي هنا هو الخوف من الألم، وهو الخوف الذي يجب أن أعترف به وأن أعمل على تخطيه والانتصار عليه، ولا الخوف من المستشفيات في حد ذاتها. استمر في البحث حتى تكتشف الخوف الحقيقي في داخلك.

(4) متى بدأ هذا الخوف؟

من المفيد أن تكتشف في ذاكرتك الأولى الحدث الذي أصابك بهذا الخوف. فمن الممكن مثلاً أن يكون خوفي من القراءة أمام الناس نابعاً من ذكريات الطفولة حيث كان زملائي يسخرون مني عندما كنت أقرأ في الفصل أو أن المدرسة كانت توبخني بقسوة لأني كنت كثيراً ما أخطئ أثناء قراءتي. غالباً ما ينتج الخوف المرضي من خوفٍ قد نمى في اللا وعي.

(5) هل تستغل هذا الخوف كعذر لك حتى تمتنع عن شيء لا يحلو لك القيام به؟

مثلاً: لا يتوقع مني أحد أن أزور مريض في المستشفى لأن الجميع يعرفون أني "أخاف من المستشفيات".

تدريبات

1- أشكر الرب من أجل المخاوف الصحية المعتدلة التي تشعر بها فهي نِعَم تحميك من الأخطار.

2- إن كنت تشعر بخوفٍ مرضي وغير معتدل، حاول – من خلال ذاكرتك – أن تكتشف خوفك الأساسي وتعمل على علاجه إن اكتشفته، سامح كل الذين من الجائز أن يكونوا قد تسببوا في هذا الخوف عن طريق أقوالهم أو أفعالهم، واجه الأشخاص الذين علموك أن تشعر بهذا الخوف غير المعتدل. بإمكانك أن تقوم بكل هذا في حضور المسيح. وإن نجحت فيه استطعت أن تكشف عن هذا الخوف الأصلي في اللاوعي، واختفى تماماً خوفك الحالي.

3- انظر إلى الشيء الذي تخاف منه، وليكن ذلك تدريجياً إن لزم الأمر. يمكنك في البداية أن تنظر إلى صورة لهذا الشيء أو أن تتخيله. انظر إليه أولاً من مسافة ثم اقترب منه يوماً بعد يوم ولكن تحلّى بالكثير من الصبر ومن الشجاعة. المس هذا الشيء إن لم يكن في ذلك خطر: دماء، قطة، جثة... إنك تتحكم في هذا الشيء الذي تخاف منه عندما تنظر إليه وتلمسه. ولكنه يتحكم فيك عندما ترفض أن تنظر إليه وتهرب منه.