بقلم: الأب رينيه فانسان دي جران لوناي
تدقيق لابد منه في ما يتعلق بكلمة إنجيل
قبل أن أجيب على السؤال الوارد في عنوان مقالي، أود أن أدقق في ما أقصده بكلمة إنجيل. جرت العادة في مصر على تسمية الكتاب المقدس كله إنجيل. ولكنه سوء استخدام للكلمة علينا أن نتداركه. يمكننا أن نسمي كلمة الله في مجملها "الخبر السار" وهو الترجمة العربية للكلمة اليونانية الأصل إنجيل. ولكن من المهم حين نستخدم كلمة إنجيل أن نقصد الأناجيل الأربعة ونميّز بينها وبين سائر أسفار الكتاب المقدس حتى لا ننسب إلى الأناجيل ما لم يرد فيها ولا ننسب إلى سائر أسفار الكتاب المقدس ما لا تشأ أن تذكره .
فعندما أسمع جملة "في الإنجيل السيد المسيح بيقول..." أتخوف من سماع باقي الجملة، هل ستكون من أقوال السيد المسيح في الأناجيل الأربعة أم سأسمع آية من سفر التكوين!!! حين أتحدث عن الإنجيل إذاً أقصد تحديداً نصوص الكُتَّاب القديسين الأربعة الذين نطلق عليهم اسم الإنجيليين. إن الإنجيل نوع أدبي خاص علينا أن نميز بينه وبين الرسائل وبوجه أخص بينه وبين العهد القديم. القضية التي نثيرها هنا لا تخص إذاً إلا أناجيل متى ومرقس ولوقا ويوحنا .
تدقيق آخر لابد منه عما أقصده باصطلاح "منهج أخلاقي "
ليس هدف هذا المقال تعريف "المنهج الأخلاقي المسيحي". ولنفهم الهدف من هذا المقال، يمكن أن نستعين بهذا التشبيه: لنفرض أن كوني إنساناً هي مهنتي، ففي هذه الحالة فالمنهج الأخلاقي يمثّل متطلبات ممارستي لهذه المهنة. لكي أكون إنساناً، ولكي أستطيع أن أعيش بين الناس، عليَّ إذاً أن أكتسب مهارات وصفات وأن أحيا وفقاً لبعض المتطلبات أيضاً. وهذه المهارات والصفات والمتطلبات كلها هي ما أطلق عليه "المنهج الأخلاقي". والمسيحي، أي الإنسان المسيحي، يسعى ليجعل من مهاراته مهارات مسيحية، ويحول صفاته إلى صفات مسيحية وكذلك تصبح متطلباته مسيحية .
إن استيعابنا لهذا المفهوم في غاية الأهمية، لأنه عندئذٍ يسهل علينا أن ندرك أنه لا يهم أن نكون مسيحيين كي نعيش وفق معايير أخلاقية. إن كل إنسان عليه أن يتعلم مهنته كإنسان. على كل شخص دون استثناء، أن يسعى ويكتسب كفاءات ومتطلبات خاصة به كي يمارس مهنته كإنسان. لأن المعايير الأخلاقية ليست بالمفاهيم الدينية الصِرف. ولكن يبقى السؤال الذي يطرحه المسيحي على نفسه، وهو أن يتعلم كيف يعيش مهنته كإنسان كمسيحي حق.
فهذه هي القضية التي نطرحها اليوم، هل هناك منهج أخلاقي في الأناجيل؟ هل هناك منهج أخلاقي: بمعنى مهارات، مميزات، أو متطلبات خاصة بالإنسان المسيحي وتجد أصولها في الأناجيل. وبدلاً من الاسترسال في مقال نظري، أود أن أرتكز في مقالي على ثلاثة استشهادات من الإنجيل تبدو لي محورية في ما يختص بما نحن بصدده. وسأختم مقالي ببعض الملاحظات.
1- عدم التمركز حول الذات
"إذن، كل (πάυπα) ما تريدون أن يعاملكم الناس (πεθέλη) به. فعاملوهم أنتم به أيضاً: هذه خلاصة تعليم الشريعة والأنبياء" (متى 7: 12).
إن صياغة هذه الجملة تحمل في طياتها صفات عامة وشمولية. فبادئ ذي بدء. يتحدث يسوع عن كل πάυπα)) ما نريده بواسطتنا ولأجلنا. أياً كان هذا الذي نريده كبيراً أم صغيراً، فمجرد أننا نريد شيئاً من إنسان آخر يجعلنا نقع تحت طائلة هذه الوصية.
وما يؤكد الطابع الشمولي لهذه الآية، استعمال كلمة (θρωποιάυ) التي تعني باليونانية الجنس البشري كله، بعكس كلمة (άυηρ) التي تعني رجلاً أي مضاد امرأة. إن مجرد وجودنا أمام إخوتنا وأخواتنا، مسيحيين كانوا أم لا، ونريد منهم شيئاً، يضعنا في إطار هذه الوصية.
يطرح علينا يسوع معياراً أخلاقياً علينا أن نحسن فهمه. سأعود برهة إلى هذا الطابع العام، فإطار هذه الوصية مزدوج. فهو يحتوي على رغبة، وإرادة كل منا من ناحية، ووجود الآخر أي كل إنسان - مهما كان - أمام هذه الرغبة من ناحية أخرى.
وليس الأمر بعلاقة تبادل منفعة، فالوصية لا تقول أن يطلب كل إنسان من جميع الناس العمل نفسه، بل إن كلمة يسوع هنا لكي تقلب الأولوية، فتُخضع أولوية رغبتي الشخصية لأولوية جديدة وهي رغبة الآخرين.
وهذا الانقلاب. هذا التخلي عن مركزية الذات. هو ما نسميه الخدمة. وروح الخدمة – بحسب "خلاصة تعليم الشريعة" كما يراها يسوع – هي ذلك المعيار الأخلاقي الذي يسمح لنا أن نفهم ما يمكننا أن نطلبه من الآخرين في معاملتهم لنا، وبالتالي ما يمكن أن نعاملهم به. إذ لا يمكن أن نفرض أنفسنا كفاعلي خير، ولا يمكن أن نفرض أنفسنا كخدام لأحد. ولكننا شيئاً فشيئاً نتحول إلى خدام ونفهم أن دعوتنا كمسيحيين هي أن نتبع الله الذي تجسد وأصبح خادماً للجميع.
إن هذه الجملة محورية عند يسوع. فهي تحدد ديناميكية ما أي قوة دافعة وحركة، حيث ندخل لنتبع المسيح في حياتنا اليومية. إنها جملة تحمل في طياتها ديناميكية الخدمة التي سار عليها يسوع في حياته بيننا.
ولا يتعلق الأمر بعمل محدد، بل هو جو عام، قوة، إطار، إنها تتطلب تفكيراً عميقاً من جانبنا، بل وقفة مع النفس. فأنا لن أنحي إرادتي جانباً. ولكنني سأوظفها أولاً لخدمة إخوتي وأخواتي البشر. إن مهنتي كإنسان مسيحي تتطلب إذاً أن أتخلى عن مركزية رغبتي وإرادتي حتى أخدم الآخر بقدر استطاعتي. فهكذا أسير على مثال المسيح وأقتدي به وأتبعه.
2- وضع الله في مركز حياتنا
"أحبب الرب إلهك بكل (ολη) قلبك وكل نفسك وكل ذهنك. تلك هي الوصية الكبرى والأولى (ευπλη). والثانية مثلها: أحبب قريبك حبك لنفسك. بهاتين الوصيتين ترتبط الشريعة كلها والأنبياء" (متى 22/37 – 40).
بهذه الكلمات، أجاب يسوع الفريسيين الذين سألوه عن أعظم وصية. في قائمة الوصايا الطويلة في التوراة، ما هي الوصية التي تفوق سائر الوصايا؟ ما هي الوصية التي لها الأولوية؟
عند الإجابة على هذا السؤال لم يجب يسوع متخذاً موقفاً مناقضاً لشريعة موسى، ولكنه طرح رؤيته الخاصة للعالم الذي يعيش فيه الإنسان. في هذا العالم، فإن الإنسان، أمام الله، خالقه، مدعو للحب، مدعو لحب الله بكل كيانه وبواسطة كل كيانه. إن كلمة (ολη) تبين نوعية المحبة لا قدرها. لا مجال للخوف من الله بل للحب. إنه موقف إيجابي يقود الإنسان إلى أن يسعى نحو من يجب أن يحب: أي الله.
إن محبة الله بالنسبة لأي كائن متدين من البديهيات، إنه سؤال غير مطروح أساساً. إن حب الله وصية لا تحتمل الجدل. وأما ما يحتمل ذلك الجدل هو كيفية تنفيذ الإنسان لهذه الوصية وتطبيقها عملياً. وهو ما يعطينا فيه يسوع وصية ثمينة. إذ دمج الوصية العظمى والأولى مع الثانية، وبذلك يضع يسوع أساساً جديداً لمهنة الإنسان. فإن كانت محبة الله هي المحور، فمحبة القريب بقدر محبة الذات تصبح محوراً أيضاً.
إن المسيحي مدعو للمحبة وأيضاً لإعمال عقله وتفكيره. مرة أخرى ، لا يعطينا المسيح شريعة واضحة سهلة ومحددة يستطيع المسيحي أن يستند عليها. شريعة يكفي تطبيقها للوصول إلى إنسان مسيحي ذي أخلاق عليا. بل على العكس، أعطى المسيح دفعة جديدة وقوة محركة عندما أعطى الشريعة محوراً مزدوجاً: الله والقريب. كما لو كان الله لا يمكن أن يُحب إلا بقدر ما يُحب القريب، وكما لو كانت محبة القريب فيّ بقدر ما نستطيع أن نحب أنفسنا. ولا مجال في الحب لوصايا وشرائع، بل علينا أن نتعلم كيف نحب، ونتعلم كيف نتعرف على ذواتنا ونكتشفها ونقبلها.
فالمسيح يدعو المسيحي إذاً إلى ديناميكية باطنية. يدعو يسوع إلى جعل الشريعة باطنية، نابعة من الداخل. إن هذه المسيرة تتم بإعادة تمركز جذري يحتل بموجبها الله والقريب مكانة أولية في قرارنا الأخلاقي. إن الله هو المركز. ولكن القريب هو مركز أيضاً. وشخص يسوع هو الصورة المثلى لهذه الحقيقة الجديدة. ففي يسوع تتوحد محبة الله والقريب.
3- الشهادة المسيحية
"وصية جديدة أنا أعطيكم: أحبوا بعضكم بعضاً، كما أحببتكم أنا، تحبون بعضكم بعضاً بهذا يعرف الجميعπάυτες) ) أنكم تلاميذي: إن كنتم تحبون بعضكم بعضاً". (يوحنا 13:34– 4).
من خلال عملية مزدوجة من التخلي عن مركزية الذات ووضع الله والقريب في مركز حياتنا، يبدو المسيحي مدعواً إلى إعادة توجيه لمهنته كإنسان. فهو يتخلّى أولاً عن رغبته الشخصية عندما يشرع في الدخول في روح الخدمة، ثم يبدأ بإيجابية في السعي لإتمام مشيئة الله والناس بكل إرادة المحبة، وتصبح الخدمة والمحبة دعامتين يبني عليهما كل مسيحي مهنته كإنسان.
وبالنسبة للمسيح، لا شك أن ذلك في صميم المنهج الأخلاقي الذي يمكن أن نسميه "منهجاً كتابياً"، أي منهجاً يستند إلى خلاصة العهد القديم. فيسوع، في الآيتين السابقتين، يبين علاقتهما بالشريعة والأنبياء. فإن كان المنهج الأخلاقي الذي يتبناه يسوع مؤسس على العهد القديم، فهل أخفقنا في مقالنا في إظهار الخصوصية الإنجيلية للمنهج الأخلاقي المسيحي؟ لا أظن، وللدلالة على ذلك نورد هذه الآية من إنجيل القديس يوحنا، فهي تعطي لكل ما سبق نكهة مسيحية لا شك فيها.
ذلك لأن المسيح يتحدث في هذه الآية عن تلاميذه، يتحدث عن تلاميذه هو. تلاميذ مقدر لهم أن يكونوا مركزاً جديداً بشهادتهم للمسيح. "بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي". كثيراً ما ننسى هذا الجزء الصغير من الآية، ونجعل الوصية الجديدة في الصدارة وحدها. ولكن هذه الوصية تنتهي بهذه الشهادة المسيحية، فيتحول المنهج الأخلاقي الإنجيلي إلى وسيلة في سبيل الشهادة الإنجيلية. كما لو كانت جميع الأشياء تجتمع لتؤدي إلى حياة لا تروي إلا ما نحن عليه بالنسبة للمسيح، أصحابه وتلاميذه.
الخاتمة
أما عن سؤال البداية "هل من منهج أخلاقي في الأناجيل؟"، لابد وأنكم فهمتم أن إجابتي هي نعم. ولكنها ليست أيّة "نعم". أود على سبيل الخاتمة أن أستخلص بعض النتائج انطلاقاً من كل ما ذكرته.
أولاً، إذا كنت قد اخترت هذه الآيات الثلاثة فلأنني أعتقد أنها آيات محورية في رسالة يسوع. ليست هذه وحدها هي الآيات المحورية بالطبع، ولكنها قد تشكل لكل واحد منا إطاراً يستطيع أن يؤسس حياته المسيحية عليه، بحسب مشيئة الروح الذي يقوده.
أؤسس حياتي أولاً على الخدمة، فأصبح خادماً، في اتباعه للمسيح، يتخلى عن المحور الذي نريد جميعاً أن نلمع بداخله ونتألق، خادماً يستمع للآخر ويسمع رغبة الآخر، رغبة الله أبيه ورغبة الإنسان أخيه. إن موقف الخادم إذاً هو ديناميكية يخدمها الاستماع، لا مجال لعبودية هنا، ولا مجال لتكرار أفعال أو ترديد كلمات حفظناها، شأننا شأن خادم بلا روح أو رغبة. إن روح الخدمة هي روح إبداع، روح خلاقة تشتاق إلى رغبة الآخر. إنها تخلّي عن مركزية الذات، كي نستطيع أن نخدم الآخر فعلاً لا أن نخدم صورتنا عن ذواتنا.
ولكن الخدمة لا تكفي وحدها للدلالة عن التخلي عن مركزية الذات. فالخدمة وحدها لا تكفي لكي تتأسس عليها حياة الإنسان. فالإنسان الذي لا يفعل شيئاً سوى الخدمة لن يكون مسيحاً آخر على الأرض. لأن المسيح، الذي كان الخادم المخلص بتمام معنى الكلمة، كان المحب المخلِّص أيضاً. فقد أحب أباه، وأحب إخوته.
إن الخدمة والمحبة حقيقتان مختلفتان، وإن كان ما أسهل أن نخلط بينهما. فإن كانت الخدمة هي موقف الإنسان الذي يتخلى عن مركزيته بعمله، فالمحبة هي أن نضع الآخر إيجابياً في محور كل انتباهنا. فبهذا نضع الله في المحور، وحيث أنه محور مزدوج – كما سبق وذكرنا – فإننا نضع مع الله أخينا الإنسان: رجل كان أم امرأة، مسيحي كان أم لا. فمن يحب محبة حقيقية يعرف كيف يأخذ المكان الأخير لمصلحة الله والآخر، تماماً كما فعل المسيح.
ومرة أخرى نكرر، يجب أن نبتكر، يجب ألا نتوقف عن السعي لاحتلال المكان الأخير، ذلك المكان الموجود في الخفاء دون شك، فوحده هذا المكان يضمن لي أنني أحب محبة حقيقية.
كل ذلك عاشه المسيح. وجاء الآن دورنا نحن أيضاً كي نعيشه إذا أردنا أن نكون تلاميذه. وهذا يتطلب منا ألا ننتظر أن يخبرنا أحد بما علينا أن نفعل. والإنسان المسيحي يكتشف ويتعلم مهنته كمسيحي، مبدعاً كيف يصبح تلميذاً للمسيح. إن الوصية الجديدة واضحة: يجب أن نحب بعضنا بعضاً. ولكن كيف وإلى أية درجة؟ يطرح الإنجيل فعلاً قضية المنهج الأخلاقي. ويدعونا يسوع إلى أن نعيش في إبداع الخدمة والمحبة لكي نصبح تلاميذه...
والكنيسة، وهي العائلة الواحدة لشهود المسيح، يجب أن تكون مركزاً كبيراً للإبداع، يجعل كل مسيحي لا يشعر بأنه وحده في حقل الخدمة والمحبة. إن شجاعة الحياة بقوة روح المسيح، بالرغم من جميع التيارات المعاكسة، هي علامة مجتمع المؤمنين.
نعم هناك منهج أخلاقي في الأناجيل، ولكن ليس هناك فقه.
* كاهن من الآباء الدومنيكان، نُشرت هذه المقالة في مجلة رفاق الكرمة