(دراسة في موقف العهد القديم من الوثنيين)
بقلم: الأب جون كلود لورنسو - من الآباء الدومنيكان
1- لكل ديانة مفهومها عن "الوثنيين
تؤكد كل ديانة على أنها سبيل للخلاص ويعتقد مؤمنوها اعتقاداً تلقائياً أن "الوثنيين" – أي كل من لا يقبلون هذه الديانة ورسالتها – لا يُمكن أن ينالوا الخلاص، أي أنهم لن يبلغوا الحياة الحقيقية والسعادة الأبدية
فيستند المسيحيون مثلاً إلى آية في إنجيل مرقس: "وقال لهم: اذهبوا في العالم كله، وأعلنوا البشارة إلى الخلق أجمعين" (مر 16/15). ويشيع في العالم الإسلامي – على الأقل على مستوى المعتقدات الشعبية – أن مصير المسيحيين هو النار لأن إيمانهم بأن المسيح هو ابن الله الأزلي هو فيحد ذاته نوع من الوثنية أو الكفر. وإلا، كيف يمكن للمرء أن يخلص إن رفض الإيمان بالله الواحد الذي تكلم من خلال رسوله محمد؟
ويحتل الكتاب المقدس لليهود (أي العهد القديم) مكانة كبيرة في المسيحية والإسلام وعليه تبرز أهمية دراسة الموقف الديني لغير اليهود بحسب ما ورد في العهد القديم
وفي هذا المجال تبرز ثلاثة موضوعات من مفردات علم اللاهوت الكتابي وهي الاختيار أو التخصيص، والأمم، والأجنبي بحسب مفهوم العهد القديم
2- إسرائيل الشعب المختار
ولكي يُدخل الله قصده للخلاص في تاريخ البشرية، أقام الله علاقة خاصة مع إبراهيم الذي اتخذه "خليلاً" أي صديقاً له (يش 24/3). وهكذا "اختار" الله إبراهيم ونسله (أش 41/8).
وتذكرنا تسبحة مريم العذراء بذلك: "رحمته لإبراهيم ونسله للأبد" (لو 1/55). وصار هذا الاختيار مختوماً بختم عهد الله مع شعبه في سيناء: "والآن، إن سمعتم سماعاً لصوتي وحفظتم عهدي، فإنكم تكونون لي خاصةً من بين جميع الشعوب، لأن الأرض كلها لي. وأنتم تكونون لي مملكة من الكهنة وأمة مقدسة. هذا هو الكلام الذي تقوله لبني إسرائيل" (خر 19/5 – 6). وهكذا جعل الله من إسرائيل "شعباً له" (خر3/7 – 10).
ويترتب على هذا الاختيار انفصال بين إسرائيل وسائر شعوب الأرض، بحيث يعتبر شعب إسرائيل نفسه "شعباً يسكن وحده وبين الشعوب لا يحسب" (عدد 23/8). وتؤكد شريعة موسى تكريس الشعب الإسرائيلي لله بوضعها حاجزاً بين إسرائيل و"الأمم". ومن بين علامات الانفصال الرئيسية: رفض كل مظاهر الصحبة والختان والاشتراك في مائدة الفصح وبعض المحرمات الغذائية واحترام يوم السبت ...
ففي رؤية العهد القديم ينقسم الجنس البشري إلى قسمين :
فمن جهة هناك إسرائيل – شعب الله – المكلّل بـ"اختيار الله" و"عهده" و"وعوده الإلهية"، وهناك من جهة أخرى "الأمم" (أو الجوييم بالعبرية). وعلى شعب إسرائيل أن ينفصل انفصالاً جذرياً عن سائر الأمم الأجنبية كي لا تدنسه بوثنيتها (على سبيل المثال تث 7/1- 8). (راجع معجم اللاهوت الكتابي – بند الأمم) .
3- خلاص الأمم الوثنية النهائي
ومع أن قصد الله الخلاصي يمر باختيار شعب إسرائيل وتخصيصه بل وفصله. فإن الله يهدف منذ الأزل إلى خلاص البشرية كلها ففي خلق العالم يؤكّد الكتاب المقدس على الوحدة الأساسية للجنس البشري الذي أتى من نسل رجل واحد هو آدم (تك 1 و2). وبعد الطوفان – وهو بمثل بداية جديدة للإنسان – يقطع الله عهداً مع الخليقة كلها ولا سيّما البشر. إنه عهد يخص البشرية جمعاء، ويركّز أساساً على احترام الحياة: "أما دماؤكم ، أي نفوسكم، فأطيلها. من يد كل وحش أطلبها، ومن يد الإنسان: من يد كل إنسان أطلب نفس أخيه. من سفك دم الإنسان سُفك دمه عن يد الإنسان لأنه على صورة الله صُنع الإنسان". (تك 9/5 – 6). إن هذا العهد مع نوح مسألة لا زالت حتى الآن مبحث علماء الدين اليهودي عندما يتعلق الأمر بالموقف الديني للأمم (الجوييم).
وفي نهاية الأزمنة، يستشف الأنبياء اهتداء جميع الأمم، إذ سيلتفتون نحو الله الحي (أش 45) ويشاركون في عبادته (أش 60/1 – 16). وسيجمع يهوة (الله) من حوله جميع الأمم وجميع اللغات واضعاً حداً لتشتّت بابل (أش 66: 18 – 21). وستعترف جميع الشعوب بيهوة ملكاً عليها وستجتمع مع شعب إبراهيم (مز 47) وستتخذ جميع الشعوب صهيون أمّاً لها (مز 87).
وفي اليوم الآخر سيتشكل من جديد شعب واحد لله ويستعيد شمولية الأصل الأول ووحدته. ومن منطلق وجهة النظر نفسها، ينتقد سفر يونان "التعصب الديني" والغلو فيه إذ يوضح أن "الله يهتم بجميع الشعوب وبكل إنسان".
4- بواكير الأمم
تبقى الأمم إذاَ – انتظاراً لملء الزمان – مستبعدة من وعود الله بإبراهيم وذريته، ومع ذلك فإن التوراة نفسها (أي الأسفار الخمسة الأولى) تفسح مكاناً لحالات فردية استثنائية :
- ملكيصادق، ملك وكاهن شاليم الذي بارك إبراهيم وبسط عليه حمايته، وقد كان ملكيصادق كاهناً لإله أسلاف الساميين (تك 14).
- يثيرون، كاهن مديان وحمو موسى الذي قدم لله ذبائح شارك فيها هارون وجميع شيوخ إسرائيل "في حضرة الله" (مز 18).
ويمكن أن نلاحظ أن هذين الملكين الكاهنين غير العبرانين يرد ذكرهما في النصوص الكتابية قبل عهد سيناء. ويمكن أن نفسّر ذلك بأن شعب إسرائيل – في زمن الآباء – كان لا يزال يشعر بألفة مع عبادة الإله الواحد لدى البدو الرُحَّل الساميين.
وهناك – خارج إطار أسفار التوراة الخمسة – الحالة شديدة الطرافة لنعمان السرياني الذي شُفي من البرص على يد النبي إليشع، فأخذ معه تراباً من أرض إسرائيل كي يعبد يهوة (إله أسرائيل) من دون أن يصبح إسرائيلياً (2 مل 5).
وقد انضمت نساء أجنبيات بموجب أمومتهن إلى شعب الميعاد، بل أن ثلاثة منهن ذكرن بين نسب يسوع: ثامار وراحاب وراعوث (مت 1/2 – 5).
ويحتل الأجانب المقيمون وسط شعب إسرائيل (بالعبرية جير جيريم) مكانة مميزة في شريعة موسى، لا بحكم الاعتراف بحقوقهم المدنية فحسب (تث 1/16) بل لأن بإمكانهم الاندماج اندماجاً كاملاً بشعب الميعاد. كما يحدث مثلاً في الاحتفال بعيد الفصح بشرط قبول هؤلاء الأجانب الختان لهم ولعائلتهم (مز 19/48 – 49 وانظر أيضاً أش 56/1 – 8).
5- بين استبعاد الآخرين وتبشيرهم
بعد العودة من سبي بابل، تأرجح الدين اليهودي – وهو الوريث في الوقت نفسه لشريعة موسى وللأنبياء – بين استبعاد ومقاطعة الآخرين وتبشيرهم. فمن ناحية – وفي سبيل حماية الشعب من عدوى الوثنية -، فإن عملية إحياء اليهودية في زمن الإصلاح اليهودي على يدي عزرا ونحميا (عز9 – 10 ونح 10 و13) تتم في مناخ من الخصوصية المشددّة حتى أنه تم طرد الزوجات الأجنبيات (ولو من حيث المبدأ!) وخُيَّر الأجنبي المقيم ما بين اعتناق اليهودية أو الطرد من الجماعة. وهكذا كان الاندماج يتمّ في حدود شديدة الضيق.
ولكن من ناحية أخرى، وفي الفترة الزمنية نفسها، كان المجتمع اليهودي أكثر انفتاحاً من ذي قبل على الوثنيين ذوي النية الحسنة الذين يرغبون في الانضمام إلى الشعب الإسرائيلي. وأُطلق عليهم لقب "المهتدين" أو "الدخلاء"، وكثيراً ما يردوا في سفر أعمال الرسل (أع 2/11، 6: 5، ...). وهكذا أدرك شعب إسرائيل دعوته كشعب شاهد ومُرسَل من الله.
ولكن لا يكفي أن يهتدي الوثنيون إلى إله إسرائيل لكي ينالوا الخلاص على وجه أكيد – مثلما هو حال "الخائفين الله" –، بل عليهم أن يدخلوا شخصياً في شعب العهد، وذلك بواسطة الختان والطهارات وتقديم ذبيحة في الهيكل وكذلك باتباع جميع نواميس شريعة موسى.
ويوضح لنا سفر أعمال الرسل كيف أنه بالإيمان بيسوع القائم من بين الأموات وبالانقياد لعمل الروح القدس أصبحت الكنيسة بحث شاملة تجمع "يهود ويونانيين" في جسد واحد.
6- "لا خلاص خارج الكنيسة!"...؟؟
إنها العبارة الشهيرة التي أطلقها القديس قبريانس ثم كررها – بتفاوت وفوارق بسيطة – القديس أوغسطينوس ومن بعده التقليد الكنسي كله حتى المجمع الفاتيكاني الثاني. وما أكثر ما أثارت تلك العبارة من تساؤلات.
إن نظرتنا تجاه "الآخرين" الذين لا يشاركوننا إيماننا تتحكم في التزامنا تجاه المسكونية والرسالة والحوار بين الأديان والكرازة. ونكتفي هنا بطرح اتجاهين للتفكير الشخصي وللمناقشة في مجموعات.
(أ) طريق المحبة
"كل من ارتكب الخطيئة ارتكب الإثم لأن الخطيئة هي الإثم" (1يو 3/4).
"ثم يقول الملك للذين عن يمينه: "تعالوا، يا من باركهم أبي. فرثوا الملكوت المُعد لكم منذ إنشاء العالم: لأني جُعت فأطعمتوني، وعطشت فسقيتموني. وكنت غريباً فآويتموني، وعُرياناً فكسوتموني، ومريضاً فزرتموني، وسجيناً فجئتم إليَّ. فيجيبه الأبرار: يا رب، متى رأيناك جائعاً فأطعمناك أو عطشان فسقيناك؟ ومتى رأيناك غريباً فآويناك أو عُرياناً فكسوناك؟ ومتى رأيناك مريضاً أو سجيناً فجئنا إليك؟ فيجيبهم الملك: الحق أقول لكم: كلّما صنعتم شيئاً من ذلك لواحد من إخوتي هؤلاء الصغار، فلي قد صنعتموه" (متى 25/ 34 – 40).
فهل نقصر هبة المحبة الحقيقية (أغابيAgape ) على من يؤمن بيسوع فحسب؟
أما من وسيلة للقاء يسوع بدون لقائه أو معرفته وذلك من خلال المحبة الحقيقية؟
(ب) عمل الروح القدس في الخفاء
"فالريح تهب حيث تشاء فتسمع صوتها ولكنك لا تدري من أين تأتي وإلى أين تذهب تلك حالة كل مولود للروح" (يو 3/8).
"أما المسيحي، وقد صار شبيهاً بالابن الذي هو البكر بين إخوة كثيرين فإنه يقبل "باكورة الروح" (رومية 8/23).
"على أن ذلك لا يقتصر على المؤمين بالمسيح وحدهم، بل ويشمل أيضاً جميع الناس ذوي الإرادة الصالحة، الذين تعمل النعمة في قلوبهم بصورة غير منظورة. فبما أن المسيح قد مات عن الجميع ربما أن الدعوة الأخيرة مشتركة بين جميع الناس، وهي دعوة إلهية، فيجب أن نعلم أن الروح القدس يهيئ للجميع، بطريقة يعلمها الله، وسائل الاشتراك في سر القيامة" (المجمع الفاتيكاني الثاني – دستور عقائدي – رقم 22، فقرة 5).
"إن الروح القدس يعمل أيضاً حيث لم تصل بعد على وجه ملموس البشارة الصريحة بالإنجيل" (ميشيل فيدو اليسوعي، الديانات بحسب الإيمان المسيحي، ص 96 – 97).
أسئلة للتفكير الشخصي والمشاركة في مجموعات
هل نتفق اتفاقاً مع هذه النصوص؟
وعلى ضوئها، كيف نفهم عبارة "لا خلاص خارج الكنيسة"؟
وكذلك كيف نفهم رسالة جميع المعمّدين في إعلان بشارة الإنجيل "لجميع الأمم" (أع 28/ 18)؟
بعيداً عن إشكالية الخلاص الشخصي، من الصعب تقدير مدى وكيف يستطيع كل تقليد ديني أن يشجع أو يعوق "الخلاص" أي قبول الشركة مع الله. إنه مجال خصب للبحث تظهر فيه إمكانية "الحوار بين الأديان" وتبرز أهميته.