إلهي ملاذ

بقلم الأب أوليفر  بُرج – أوليفييه اليسوعي

إلهي "ملاذ"، إلهي "أشهى من العسل"، إلهي "ساحر"...

الله، يحتلُّ مكانةُ أساسيَّة في  حياتنا، على الأقل هذا ما ندَّعيه إذا سُئلنا "هل تؤمن بالله؟" نشعر فوراً أن في السؤال إهانة ويكون جوابنا "بالتأكيد أنا أؤمن"، ولكن من هو هذا الإله الذي نؤمن به؟ هل هو حقاً إله يسوع المسيح، إله الإنجيل؟ ألا نسعى غالباً إلى أن نصنع لنا إلهاً يرد على احتياجاتنا ورغباتنا؟ إلهاً يكون بالنسبة لنا خشبة خلاص لأوضاعنا الشاقة؟ إلهاً مستعداً أن يسحق أعداءنا وهو مزيج من ساحر وسوبرمان؟

هل كان فرويد على حق؟ إننا نسعى فحسب إلى إله معجزيّ ومطمئن!!

يبدو للأسف أنّ واقعنا يعطي بعض الحق لفرويد، ذلك القائل إنّ البشر اخترعوا الله لأن ذلك يعطيهم شعوراً بالأمان، وكي يسكتوا هواجسهم ومخاوفهم بإلهٍ معجزيّ، وشهيٍّ كالعسل، أمّا إيماننا الشعبي فلا يبدو معارضاً لفرويد في هذا!!

غالباً ما أصادف في الإرشاد الروحي شخصاً يقول: "أبتِ، لقد توقّفت عن الصلاة لأنه لا جدوى منها. لذلك فالله لا يسمع. لقد مرّ أكثر من سنتين على بطالة زوجي. وبالرغم من كل صلواتي لم يفعل الله شيئاً ."

وهكذا فإني، لا أصلي في الحقيقة لأنني أثق بحب الله، أو لأنني واثق أنه سواء أعطاني ما أطلبه أم لا، فهو يعطيني الأفضل لي وللآخرين، فأنا أريد إلهاً حاسوباً، أباً يغنيني ويعطيني كل ما أريد وأشتهي  .

في صلاتي أغلب الأحيان، أرتِّب كلَّ ما أريد من الله أن يعطيني إياه: أن ينجِّحني في الامتحان، أن يشفي والدتي، أن يحفظ حماتي (أقل وقت ممكن!)، أن يجعل سيارتي التي تعطلت في منتصف الطريق تسير (لأنني نسيت أن أقوم بصيانتها)، أن يقتص من صديقي في العمل الذي جرحني أو ترقى مكاني إلخ...، وعندما أنتهي من اللائحة، أنتظر أن يردّ عليّ إلهي بأسرع وقت ممكن؛ أفليس هو الإله الصالح الطيّب؟ أليس هو من قال "اسألوا تعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم"؟؟ ونحن لا نفعل سوى تنفيذ وصيته!

إلهي رقيق كالنسيم، شهي كالعسل

يجد شاب صعوبة في علاقاته مع أهله وأصدقائه، ويعيش في عالم من الصلاة، هو متأكد من أن الله يتحدث إليه مباشرة ويقول له إن أهله لا يفهمون شيئاً وإن زملاءه أشرار وماديون يجب عليه تجنبهم وعدم الاهتمام إلا بالله وحده، والله يردد له باستمرار، كم يحبه محبة خاصة ويدعوه أن يكرِّس كل وقته للصلاة، لأنها الشيء الوحيد المفيد! كاهن رعيته مفتون به لأنه شاب ممتاز، يصلي بجدية ولديه علاقة مع الله، هو شاب فهم أن الله محبة وأن العالم شرير! وجميع الرياضات الروحية التي شارك بها وجميع التأملات الذي يقوم بها ومهما كان نص التأمل فلا يجد فيه إلا: "الله يحبني"! وهذا صحيح بلا شك، لأن الله يحب كل واحد شخصياً ويحبنا على ما نحن عليه وكما نحن بدون شروط. لكن هل اختبر هذا الشاب وجود الله حقاً؟ هل تعرف على الله الذي يتحدث عنه الإنجيل؟

إن صورنا عن الله وخاصةً عن يسوع المسيح هي غالباً صور مليئة بالنعومة في أسلوب جد تقليدي، فكنائسنا وأديرتنا مليئة بصور نرى فيها يسوع بشعره الأشقر وعينيه الزرقاوتين ونظرته الحالمة كما في فيلم يسوع الناصري لزيفرللي. ومن بين أواخر الأفلام عن يسوع، بمناسبة يوبيل الألفين، فيلم بعنوان "يسوع". يُظهرُ لنا يسوع إنساناً مرحاً، يرقص ويأخذ كل الأمور بطريقة ساخرة، حتى مسيحانيته. إنه يسوع الذي يأسر الشباب وهو خفيف الظل! في آخر الفيلم نراه مرتدياً بنطلون جينز أزرق على شاطئ البحر مع شبان عصريين، وفي الخلفية أغنية عصرية رومنطيقية تردد: "أحبك، أحبك". ولكن هل هذا هو المسيح الذي تقدمه لنا الأناجيل؟ هل ينطبق هذا التصوّر على مسيح البشرى السارة؟ 

ما الحل؟

ألا يوجد إذاً ما هو إيجابي في التديّن الشعبي؟ هل هو دين يعيق الإنسان... يعيق الإنسان عن النمو ومواجهة الواقع؟ لا أستطيع الجزم في الأمر لكن للديانة الشعبية أهميتها كما رأينا من خلال بعض الأمثلة السابقة.

هل من الخطأ أن نصلي لله ونطلب منه تحقيق ما نرغبه؟ هل من الخطأ أن نتمنى عونه عندما نكون في مأزق أوعندما نشعر الأمان؟ في رأيي أننا إذا كنا نؤمن حقاً أن الله آب محب يهتم بأشجاننا وحاجاتنا وكل ما يتعلق بنا، فإننا على حق في التوجه إليه وقت الحاجة. ألا نتوجه إلى الأشخاص الذين نثق بهم عندما نكون في عوز؟ ألا ينظر الطفل إلى أمه عندما يكون خائفاً؟ إنها الحركة العفوية التي تعبر عن الثقة بالآخر. عندما أطلب من الله الشفاء أو العون فهذا يعني أنني أثق فيه وفي محبته واهتمامه بي شخصياً وأثق في أنه يصغي إلى حاجاتي.

لكن الخطر يبدأ عندما يصبح طلبي تلاعباً، وهنا ينبغي أن أصحح موقفي، إنه خطأ عندما لا أعود أحترم غيريَّة الآخر وحريته وإرادته الخاصة، ومن الخطأ أن أعتقد أنه باستطاعتي أن أعطي الله أوامر عليه فقط أن ينفذها. كما أنه من الخطأ الاعتقاد أنه باستطاعتنا العيش دون تحمُّل أية مسئولية لأن الله سيتدخل لتخليصنا من أيّ مأزق، كما يصح أن نعتقد أنّه – لأننا مسيحيون أوفياء – لا يجب لنا أن نتألّم، وأن كل أمور حياتنا سوف تسير على ما يرام.

أن أؤمن بالله القريب المحب هو أمرُ إيجابيٌ وأساسيٌ للإيمان المسيحي. لكن أن يحبني الله لا يعني أن يدللني، أو ألا يحب الآخرين. 

إله يسوع المسيح، إله الإنجيل...

يسوع نفسه ينتقد تلاميذه لأنهم لا يسألون الآب شيئاً ويضيف اسألوا "باسمي"، كما أنه يسأل غالباً الأشخاص الذين يلتقي بهم: "عما تبحثون؟"، "ماذا تريدون أن أفعل لكم؟" هو أيضاً في بستان الزيتون عندما تألم وخاف صلّي إلى الآب معبِّراً عن رغبته وقال: "يا رب إذا أمكن أبعد عني هذه الكأس".

من المهم أن نعي رغباتنا وأن نعبِّر عنها، والأهم من الوعي لحاجاتنا، محاولة التأكد من أننا قادرون على التعبير عنها إلى الآب باسم الابن يسوع المسيح.

والسؤال المطروح هو: هل أنا مستعد للدخول في علاقةحب مع الآب والابن؟ علينا ألا نهرب من رغبتنا لأنها تعبر عن أعماقنا وباستطاعتنا وضعها أمام الرب كي يطهرها ويجعلها مطابقة لرغبته مثلما فعل يسوع: أبتِ! كل شيء مستطاع لديك: أبعد عني هذه الكأس لكن لا مشيئتي بل مشيئتك".

أمام مخاوفنا نريد إلهاً قوياً، إلهاً عاصفاً، إلهاً "سوبر مان"، ابنا زبدي أرادا أن يرسل الله ناراً كي يحرق المدينة التي رفضتهما، وبطرس لم يتقبل مسيحاً يتألم ويموت، مسيحاً لا يحرر بالقوة. كما أنه لم يتقبل مسيحاً يغسل أرجل تلاميذه. ولكن الأناجيل تظهر لنا ابن الله متواضعاً وراشداً، يستطيع أن يأخذ قراراً ولا يخاف من أن يُرذل، إنساناً يعرف كيف يقول الحقيقة مهما كانت قاسية (وبخ تلاميذه مراراً كما وبَّخ تلميذي عماوس وكذلك الكتبة والفريسيين وعظماء شعبه وحكامه)، مسيح الإنجيل يرفض أن يكون مسيّراً، عندما أرادوا أن ينصبوا يسوع ملكاً لأنه أطعم الجموع مجاناً ذهب بعيداً ليصلي. رفض يسوع تنفيذ "معجزات حسب الطلب" عندما طلب منه أن يحكم أو أن يدين الخطأة رفض أن يخضع للأمر. لا نستطيع أن نتلاعب بالله ونجعله حسب ذوقنا وصورتنا.

الله القريب

من المهم أن نشعر أن الله قريب منا ويحبنا لأننا مدعوون لأن نعيش معه علاقة شخصية وودية، ولكن كيف أستطيع أن أعيش هذه العلاقة الودية والشخصية مع شخص أعتقد أنه بعيد وبارد ولا مبال؟ وأسوأ من ذلك أتصوره إلهاً غير مشخصن أي ليس شخصاً بل فكرة مثلاً. المشكلة هي في نوعية العلاقة التي أقيمها معه: ما هي مفاعله في حياتي وتأثيره على علاقتي بالواقع اليومي الشاق؟ إذا كان وضعي كوضع ذلك الشاب الذي سبق ذكره، أي أن إلهي يقودني إلى الهروب من الواقع ومن الآخر الذي يؤلمني وإلى اعتبار نفسي الشخص الوحيد الصالح بينما الآخرون أشرار أو مهملون، لن يكون الله بالنسبة لي إله الإنجيل، إنه إله يؤمِّن لي ملاذاً وهروباً من العالم، إله يمنعني من رؤية ضعفي ويجعلني أنسبه إلى الآخرين.

إذا لم أستطع أن أنظر إلى ضعفي وخطيئتي، لن أستطيع أبداً أن أسير في درب النمو والتوبة، ولن أستطيع بصفة خاصة أن أكتشف عمق وعظمة محبة الله وأمانته.

الخلاصة

أريد أن أنهي حديثي بمقطع من مقال للأب توم سيكينغ: "يبدو لي أن الكثيرين من المسيحيين اليوم يتصرفون تصرف الرجال والنساء في عهد المسيح، وتشهد على ذلك صلواتهم وسلوكهم الديني بالرغم من أن يسوع يدعوهم إلى تخطي ذواتهم.

إذا استمر الناس في الصلاة والعمل حتى يغيِّر الله بطريقة سحرية، أي دون مشاركتهم، الواقع الذي يعيشونه، فإن هذا يعرضهم بشدة لأن يجدوا أنفسهم بين الجموع الخائبة التي طالبت بموت يسوع.

فالإنسان لا ينمو برفض الواقع، بل بتحمله مع يسوع، والإيمان بأن طريقه يمر بالموت ليعطي الحياة وأنه لا حياة دون الموت: "يا قليلي الفهم وبطيئي القلب عن الإيمان بكل ما تكلم به الأنبياء. أما كان يجب على المسيح أن يعاني تلك الآلام فيدخل فيمجده؟" (لوقا 24/25 – 26). هذه كلمات يسوع التي جعلت تلميذي عماوس يدركان أنه بدون الصليب ما كانت قيامة ولا حياة. وهذا ما دفعهما إلى العودة فوراً إلى أورشليم ليشركا التلاميذ الآخرين باكتشافهما المفرح. والمطلوب من كل منّا أن يدرك معنى واقعه كما هو بدلاً من أن يحلم بعالم آخر، وأن ينقل هذا الاكتشاف إلى الآخرين كي يصبحوا قادرين على عيشه بدورهم".