مداخلة الأب أدولفو نيكولاس، الرئيس العامّ للرهبنة اليسوعيّة، في سينودس الكرازة الجديدة 2012
بقلم الأب أدولفو نيكولاس اليسوعيّ
كلّكم تعلمون الخلفيّة الرهبانيّة الرسوليّة الّتي أعيش من خلالها، وأجد نفسي مُجبرًا بعض الشيء على أن أستقي تفكيري وتأمّلي من نبع تاريخ رهبنتنا اليسوعيّة وتُراثها. يصعُب علينا اليوم أن نُفكّر بكرازةٍ جديدة ما لم نأخذ بعين الاعتبار ما نهلناه من الكرازة التقليديّة، ونعي أنّنا نتعلّم من خلال الأمور الّتي نجحنا فيها وقمنا بها على وجهٍ حسن، وكذلك من الأمور الأُخرى الّتي فشلنا فيها، حيث ارتكبنا أخطاءً، وقصّرنا بحقّ رغبتنا في إيصال البشارة .
إنّني أنحدر من تقليدٍ رسوليٍّ يحثّنا ويُمرّننا من أجل تحقيق هدفنا، ألا وهو: "أن نرى الله ونعاينه في جميع الأشياء"، في جميع أحداث حياتنا وجميع المواقف الّتي قد نواجهها. وبدون شكّ، فإنّ القدّيس إغناطيوس دي لويولا مؤسّس رهبنتنا استند في روحانيته هذه على ما جاء في أعمال الرُسل مع بولس الرسول في خطبته الشهيرة في الأَرْيُوباغُس: " لِيَبحَثوا عَنِ اللهِ لَعَلَّهم يَتَحَسَّسونَه ويَهتَدونَ إِلَيه، معَ أَنَّه غَيرُ بَعيدٍ عن كُلٍّ مِنَّا. ففيهِ حَياتُنا وحَرَكَتُنا وكِيانُنا" (أعمال 17: 27 -28). فالله حاضرٌ وفاعلٌ في كلّ جماعةٍ بشريّةٍ، حتّى وإن كُنّا لا نقدر أن نرى عمق حضوره بهذه السهولة.
يعتريني إذًا شيء من الخوف حيال حقيقة أنّنا نحن "المُرسلين" لم نصل إلى عمق هذه الرؤية بعد، ولذلك لم نوفِّق بين هذه الاكتشافات العميقة وبين حياة الكنيسة وتاريخها. أنا لا ألوم اليوم الحركات الرسوليّة بشكلٍ عامّ، لكنّني أودّ أن أنطلق من تقليدي وتراثي، من خبرتيّ الرسوليّة الشخصيّة وخبرة رهبنتيّ كجسمٍ رسوليّ يعمل في قلب الكنيسة. وأنا على يقين من أنّ غيري من المُرسلين، وحتّى من غير اليسوعيّين، قد قاموا بأعمالٍ أعظم وأفضل من تلك الّتي قمت بها .
فقد حاولنا طيلة مسيرتنا أن نكون إيجابيّين تجاه الثقافات الأُخرى، لكنّني أخشى أنّنا بالغنا في رؤية علامات الإيمان بمنظورٍ أوروبيّ "غربيّ" وما تفهمه هذه الكنائس من معانٍ للإيمان وللقداسة. وحتّى وثيقة العمل الصادرة عن السينودس، تتحدّث عن ثمارٍ للإيمان، وما ورد في الصفحات 122 حتّى 128، شملت دلالات ممتازة بحدّ ذاتها، لكنّها لا تُدرَك إلاّ في إطار ما تعيشه الكنائس الغربيّة. فنحن لم نلج إلى عمقٍ كافٍ يخوّلنا سبر ثقافات الشعوب وعاداتها حيث بُشّر بالإنجيل، آخذين بعين الاعتبار أنّ هذه البقاع المُغايرة ما هي إلّا جزءٌ لا يتجزّأ من ملكوت الله الّذي كانت تعيشه تلك المجتمعات مُسبقًا؛ فملكوت الله كان متأصّلاً وفاعلاً في قلوب هذه الشعوب. لكنّنا لم نملك الرغبة لنكتشف "عنصر المفاجأة" في عمل الروح القدس، الّذي يُنمّي البذر من ذاته حتّى وإن كان المزارع نائمًا، أو الرسول غائبًا .
كلّي ثقة بأنّ هذه المبادئ يمكن تطبيقها في "رسالتنا نحو الأُمم"، تمامًا في ما نبحث فيه اليوم لوسائل يتمّ تطبيقها في كرازةٍ جديدة لعالم حديث ومتطوّر. على حدّ علمي، فإنّ كلّ جيل يتذمّر من الجيل التالي، ويعتقد الجيل السابق أن شيئًا من حكمة القدماء سيضيع ويُنسى. لكنّ روح الله لم يكن غافلاً عن عمله، فهو يعمل في قلوب العالم، ويبثّ فيها النور والحكمة والبصيرة. هذا يتطلّب منّا أن نُصغي بشكلٍ أعمق وتواضعٍ أشدّ لنُدرك ونُميّز صوت الربّ حيث لم نكن نتوقّع أن نسمعه .
ما زلت أذكر في سنوات تنشئتي اللاهوتيّة تلك الدراسة الّتي مسّتني بعمق، دراسةٌ قام بها كلّ من كارل راهنر وجوزيف راتزينغر، وكان موضوعها يدور حول "الوحي في المجمع التريدنتينيّ". فبحسب ما ورد في طرحهما: عندما كانت تُذكر كلمة "النصوص المقدّسة" فهي تشير إلى نصوص العهد القديم، في حين كان لكلمة "إنجيل" دلالتان؛ الأولى هي ما كُتب في العهد الجديد، والثانية – وهنا تكمن المفاجأة – هي ما كُتب في قلوب المؤمنين .
فنحن نخسر علاماتٍ مهمّة، وإشارات واكتشافات إلهيّة، من جرّاء إهمالنا لأن نتنبّه كيف أنّ الله حاضرٌ من خلال الأشخاص الّذين نُقابلهم في حياتنا وكيف أنّه يعمل بواسطتهم. بناءً عليه، آن الأوان لأن نتّعظ من التاريخ، ومما افتقدناه في تبشيرنا التقليديّ، قبل أن نخطو خطوتنا الأولى نحو تبشيرٍ جديد .
لا ننكر أنّ ثمّة أمور كثيرة قد حقّقناها مع كرازتنا التقليديّة عبر التاريخ، وهذا ما نحتفظ به في ذاكرتنا ونطوّره ونحتفي به. إلاّ أنّه في الوقت عينه، نحن نعلم أنّ ثمّة أخطاء كثيرة قد أُرتكبت، خصوصًا في ما يتعلّق بتصاممنا عن الإصغاء إلى هذه الشعوب، وحكمنا المُصاب بداء الفوقيّة، الناجم عن نظرتنا إلى تراثنا الأغنى وثقافتنا الأقدم، في تمسّكنا بطرائق العبادة الجليلة الّتي لا تُخاطب، على الأقل، رهافة الحسّ وعلائقيّة هذه الشعوب وتعبيرها في صلاتها وتسبيحها لله .
إنّ ملء قامة المسيح يحتاج إلى تنسيقٍ وتناغمٍ بين جميع الشعوب وجميع الثقافات. هنالك دروسٌ عدّة في الماضي يجب أن نتعلّم منها، وهي تُشكّل مساعدة عظيمة في سعينا لتحقيق كرازةٍ جديدة، لذلك أطلب منكم أن تسمحوا لي بإيجازها لكم، وأُنهي مداخلتي عند هذه النقاط:
ضرورة اتّباع طريق التواضع للتواصل مع فحوى البشارة والإنجيل.
حاجتنا إلى أن نُقرّ ونعترف بحقيقة محدودية إنسانيتنا وعدم كمالها في كلّ أمرٍ نقوله أو نُبشّر به، دون أي تعلّق بفوقيّتنا الّتي اعتدنا عليها في خطاباتنا من قبل .
بساطة الرسالة الّتي نحاول إيصالها، دون تعقيدات أو عقلنة مُفرطة من شأنها أن تجعل تبشيرنا مبهمًا وغير مفهوم.
السماحة في التسليم بأصالة عمل الله في حياة هذه الشعوب وتاريخها. والّتي نُرفقها بدورنا بالإعجاب، والفرح، والرجاء كلّما اكتشفنا صلاح الآخرين وتفانيهم.
إنّ أكثر الرسائل جديرةٌ بالثّقة، هي الّتي تنبع من حياتنا، والّتي تُستلهم كُلّيةً من بشارة يسوع المسيح وتسترشد بها.
الغفران والمُصالحة، هما أكثر الطُرق المختصرة مساعدةً لنا في الولوج إلى قلب الإنجيل وعمقه.
يمكننا إيصال فكرة الصليب بأفضل طريقة عبر إماتة الرسول لذاته ولأهدافه الشخصيّة المحدودة.
سينودس الأساقفة حول الكرازة الجديدة
الفاتيكان 7 / 10 / 2012
نقلها إلى العربيّة طوني حمصي اليسوعيّ
نٌشرت على موقع الرهبنية اليسوعية في الشرق الأوسط