بقلم الأب نادر ميشيل اليسوعيّ
"أنا أَمَةُ الرَّبّ فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ"، هكذا جاوبت مريم الملاك حين زارها وبشّرها بميلاد يسوع. آمنت مريم بأنّها نالت حظوة في عينيّ الربّ، وبأنّها ممتلئة نعمة، لأنّ الربّ معها، ينظر إليها بحبّ وشغف، فيمنحها السلام والفرح، ويجعلها أمًّا لابنه الحبيب. قبلت مريم حبّ الله العظيم والعجيب لها، وآمنت بأنّه يريد أن يعطي ابنه للعالم من خلالها وبواسطتها. لا تعرف كيف يكون هذا؟ ولكنّها تستسلم لتيار الروح القدّس الذي يحلّ عليها ويظلّلها، ويقودها إلى آفاق أمومة وحياة تفوق كلّ تصوّر وكلّ فهم. آمنت مريم بأنّ الله محبّة، حياة، فرح وسلام، وبأنّه يريد أن يجعل سكناه فيها ليسكن في كلّ إنسان، في كلّ زمان ومكان.
وكيف يظهر الإيمان في حياة مريم ؟ تلقي بذاتها على كلمة الله، لا تنظر إلى نفسها بل تنطلق في طرق الحياة بسرعة وهمّة وعزم، لا يوقفها صعوبة درب ولا يثنيها عناء المسيرة. هي على الله تتكّل، تنتظر من عنايته الرحمة والنور. تحوّلت مريم إلى إناء للروح القدس، تنصت إلى صوته في أعماقها، وتصغي إليه عبر أحداث حياتها ومجتمعها وبلدها، تسير بهداه، متلمّسة آثاره في علاقاتها بالناس ومجريات الأمور. ولذا أصبحت حياتها كلّها إشعاعًا للروح، حتى تحيّتها لأليصابات، كلماتها البسيطة والعادية مع نسيبتها، صارت ناقلة لروح الفرح والحياة.
في البشارة نزل الروح من علُ على مريم، ومن بعدها صار الروح ينتقل من إنسان إلى إنسان، من مريم إلى أليصابات، عبر الأحاديث الوديّة المعتادة، ومشاركة الهموم الأسريّة والاجتماعيّة، وكذلك الآمال الروحيّة والمشاريع الشخصيّة والعائليّة. بالإيمان حلّ الروح في قلب مريم، وبالإيمان تركت له كلّ المساحة ليملأ حياتها ووجودها، ويستخدمها لمجده. إن إرادة الله هي أن يسكن في حياة كلّ إنسان، في بيته وعمله، في اهتماماته وحاجاته المختلفة، ويصل إلى الناس عبر بشر آمنوا بحضوره ونعمته في حياتهم، لا يتحسسونه في داخلهم بل ينصتون إلى صوته العذب في قلبهم وفي واقع الناس من حولهم، يمضون إلى الأمام في التزاماتهم المهنيّة والكنسيّة والوطنيّة، وهم مؤمنون أنّه يعمل من خلالهم وفيهم، دون أن يدروا كيف يكون هذا وكيف يتحقق ملكوت الله بواسطتهم.
هذه هي عظمة مريم، آمنت بأنّ الله معها وبأنّ روحه يسكن فيها، فوهبت حياتها له، تسمع صوته وهي لا تدري من أين يأتي وإلى أين يذهب، مولودة من الروح (يو3: 8)، لتلد ابن الله في جسدها وحياتها بنعمة الروح، وتعطيه للعالم والبشر بإيمانها ومحبتها ورجائها. ونحن على أعتاب عيد الميلاد، يوجه لنا الله النداء نفسه : إنّي أحبك، قد وجدت حظوة في عينيّ وقلبي، أريد أن أسكن فيك وأن أولد منك في عالمك ومجتمعك اليوم. كيف يكون هذا ؟ هذا يفوق قدرة وإدراك أيّ إنسان، ولكنّه عمل الروح في حياتنا وعالمنا، والرد الوحيد الممكن على هذه الدعوة هو الإيمان على مثال مريم.
إنّ الإيمان هو تخلّي تام عن الذات واستسلام لروح الله ليقودنا في واقعنا البشريّ كي يبني بواسطتنا ومعنا وفينا عالمًا إنسانيًّا حقًّا، تسوده الحرّيّة الحقيقيّة والعدالة الصادقة، عبر أحداث حياتنا اليوميّة والتزاماتنا الصغيرة والمعتادة، من خلال لقاءاتنا البسيطة مع الناس من حولنا. وهذا كلّه بنعمة الإيمان الذي يدرك ما لا تراه العيون، وهو أنّ الله حاضر وساكن في واقعنا الأسريّ والكنسيّ والاجتماعيّ، ويستخدمنا بوجه عجيب لمجده، بالرغم من، بل بفضل الضعف والفقر وقلة الحيلة التي نشعر بها.
في يوم من الأيام، ودون أن نعدّ لذلك، قد نلتقي شخصًا يقول لنا مع أليصابات: طوبى لمن آمن، طوبى لمن آمنت، شكرًا على حضورك وعطائك، على كلماتك البسيطة والصادقة، على موقفك الأخويّ. يتغيّر عالمنا بفضل الروح، والروح رقّة وبساطة وعذوبة، لا يدركه إلا من آمن بحضوره ونعمته على مثال مريم، وأعلن عنه بتواضع ووداعة في ظروف حياته المختلفة، وفرح بكلمات التهنئة والتشجيع على الإيمان والمحبّة والرجاء.
طوبى لمن آمنت، فبفضل إيمان مريم صار الابن إنسانّا وتغيرت حياتنا برمتها، إذ عرفنا محبّة الربّ وحنانه ومغفرته، واليوم أيضًا، بفضل إيماننا البسيط ولو كان بمقدار حبّة خردل، يولد يسوع في بيوتنا ومدننا وكنائسنا.
نشرت على موقع الآباء اليسوعيين في الشرق الأوسط