بقلم جوزيف ب. كارفر اليسوعي
على امتداد ساحل "الأريكون" في "محمية لنوشكا" الطبيعية في الولايات المتحدة، نجد أشجار التنوب الصنوبرية التي تبلغ من العمر 500 سنة. أتخيل أن هذه الأشجار كانت موجودة عندما كان القديس إغناطيوس ما يزال صبياً صغيراً، وأشعر أنني متصل به من خلال هذه العجائب الشاهقة الارتفاع. إن الجلوس تحت هذه المخلوقات الشاهقة، هو بالنسبة لي مكاني المفضل للصلاة. إذ أنظر في اتجاه المحيط الهادي، من هذه المحمية، أستطيع بسهولة أن أتبع نصيحة القديس أغناطيوس وهي أن أجد الله في كل شيء وخاصة في الخليقة.
مراجعة الحياة اليومية والصلاة من خلال استخدام المخيلة هما قناتان فعالتان ينمو من خلالهما في داخلنا وعي أكبر بحضور الله في حياتنا الداخلية. هذه الممارسات متجذرة في إيماننا إذ نختبر تحركات روح الله من خلال مشاعرنا وانفعالاتنا، من خلال أعمالنا ورغباتنا، إنها خبرة التجسد المتجذرة في خبرتنا اليومية. يكشف الله عن ذاته في عاطفتنا تماماً مثلما يكشف عن ذاته في أفكارنا الواضحة والبارزة. من خلالها كلها نتعرف على دعوة الله المستمرة لأن نقترب منه، وأن نتمثل به، وأن نتحد به. كما نزداد وعياً بالطريقة التي بها نقاوم الله، بفعل الخطيئة الموجودة في داخلنا وفي العالم من حولنا. نستطيع أن نستخدم هذه الوسائل الروحية نفسها، لترسيخ حسنا البيئي وزيادة وعينا بحضور الله الحي في عالم الطبيعة.
إعادة اكتشاف (فحص) الخليقة
إن استخدام أسلوب "مراجعة الحياة"، بعدسات بيئية، يجعلنا نتفكر مصليين في أحداث يومنا من خلال هذا العالم الأوسع. فنشاهد علاقتنا مع الخليقة ونتبين حضور الله وتوجيهه لنا من خلالها. وحيث أن الهدف من أي مراجعة حياة هو أن تغدو قلوبنا قلوباً مُميِّزة، فإن الهدف من مراجعة الحياة البيئية هو إدراك لذواتنا كخلائق في وسط العالم وجزء لا يتجزأ منه. كيف أن الله يدعو كل منا بصفة شخصية إلى أن يرى الخليقة، وكيف نتجاوب مع هذه الدعوة.
تسير المراحل الخمس لمراجعة الحياة البيئية بالتوازي مع مراجعة الحياة التقليدية. نبدأ بالامتنان والشكر على كل الخلائق التي تعكس من جمال صورة الله ونعمه. وأتساءل، أين كنت أكثر وعياً بهذه النعم على مدار هذا اليوم؟ ثانياً، أطلب النعمة الخاصة بأن يفتح روح الله عيناي كي أستطيع أن أحمي الخليقة حماية أكبر وأعتني بها. ثالثاً، أعيد قراءة التحديات والأفراح المعاشة أثناء عنايتي بالخليقة، وأتساءل إلى أي مدى كنت منتبهاً اليوم إلى الله من خلال الخليقة؟ كيف كنت مدعواً لأن أستجيب إلى عمل الله في الخليقة. رابعاً، أطلب الوعي الصادق والواضح لخطيئتي، سواء كانت خطيئة شعور بالتفوق والاستعلاء في علاقتي مع الخليقة، أو فشل في الاستجابة إلى الله في احتياجات الخليقة. وأخيراً، أنهي في الرجاء: أطلب أملاً في المستقبل، وأطلب نعمة أن أرى المسيح المتجسد من خلال الترابط الحيوي الذي يجمع الخلائق.
اعتدت أن أختم دائماً مراجعة الحياة بصلاة يسوع: "وَأنا وَهَبتُ لَهم ما وَهَبْتَ لي مِنَ المَجْد لِيَكونوا واحِداً كما نَحنُ واحِد: أَنا فيهِم وأَنتَ فِيَّ لِيَبلُغوا كَمالَ الوَحدَة ويَعرِفَ العالَمُ أَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني وأَنَّكَ أَحبَبتَهم كَما أَحبَبتَني. (يوحنا 17/ 22-23). تدعونا هذه الصلاة إلى التوبة الباطنية، وتذكرنا أن أي حلول جادة للأزمة البيئية في زمننا الحالي، تستوجب من كل واحد منا - ومنا كلنا كبشرية - أن نغير أفكارنا وعلاقاتنا وتصرفاتنا، كي يتسنى لنا أن نُشكل نسيجاً في وحدة الخليقة.
تتطور مراجعة الحياة، شأنها في ذلك شأن الرياضة الروحية، إلى النقطة التي تدفعنا إلى الالتزام التام بحياة المسيح. إن تأمل أحداث حياتنا وحياة الأرض من منظور بيئي، مُلهَمين من الروح، يدفعنا إلى تعميق التزامنا، لنعود إلى حياتنا اليومية بحماس، مُلهَمين لنغير ونَشفي ونَسترد عافية بيئة الطبيعة التي نحن جزء منها.
من خلال خبرتي، تقود ممارسة مراجعة الحياة البيئية إلى خبرات امتنان عميقة من أجل نعمة الخليقة، ولا سيّما عند هؤلاء الذين يشعرون، بخلاف ذلك، بالضياع في مجرد مسيرة روحية. تعلمنا مراجعة الحياة هذه أن الهدف الأسمى في "أن نسبح الله ونمجده، ونخدمه في كل شيء" يتطلب استجابة بيئية مسيحية كجزء لا يتجزأ من كل ما نقوم به. وبالفعل، تصبح هذه الاستجابة جزءاً من خدمتنا بعضنا لبعض، ولمجتمعاتنا ولله.
وعلى مثال مراجعة الحياة التقليدية، تقودنا مراجعة الحياة البيئية من خلال ثلاث خطوات: الوعي والتقدير والالتزام. يعني الوعي أن ننزع عنا غشاوتنا التي تجعلنا متمركزين حول سعينا الذاتي. ومن خلال الوعي يأتي التقدير، لأننا لا نستطيع أن نشعر بالنعمة إن لم نعِ بها أو ندخل في علاقة معها. نتعلم أن نرى الأشياء ذات قيمةٍ في جوهرها. هذه الأشياء التي كنا في السابق بالكاد نتحملها ونعاملها على أنها أشياء جامدة. تتحول الخليقة إلى معلُّم لا غنى عنه بعد أن كانت خصماً نحاول أن نسيطر عليه أو موارد نحاول أن نستغلها. نجد أنفسنا فجأة، نتعلم من الخليقة ونتشبه بالمخلوقات كرفقاء لنا، فنستلهم خنفساء السماد مثلاً في مخلفات مطبخنا؛ أو زعانف الحيتان نموذجاً لرِيَش التوربينات الدوارة
وأخيراً، فإن مثل هذا التقدير للنعم يقودنا إلى فعل التزام. نتحرك إلى أبعد من التدوير أو إعادة استخدام المخلفات، وأبعد من الحفاظ على الموارد، نحو مفهوم الترميم والتجديد. يبدأ شفاء العالم، على حسب مقولة توماس بري، عندما نرى أنفسنا وكل الخليقة ككائنات في شراكة بدلاً من مجموعة من الأشياء.
إعادة تصور الصلاة
تأتينا نِعمٌ مُماثلة عندما نستخدم المُخيلة في الصلاة للتأمل في مشاهد الإنجيل. ففي الطريقة الإغناطية للتأمل، نحن مدعوون إلى الدخول في الانجيل بكل ملكاتنا. ولكن في معظم الأحيان تقتصر مشاهدتنا على التأمل في دور كائن بشري آخر. ولكن عندما نتأمل في المشهد الإنجيلي متخذين مكان كائنات (أو حتى أشياء) غير بشرية، فإن ذلك، لا يزيد فحسب من حساسيتنا للخلق، بل يفتح قلوبنا أيضاً لأعماق جديدة من الرؤى التي يؤهلنا لها الروح. وهكذا، نحن مدعوون إلى الدخول في المشهد كما لو كنا جزءاً من العالم الطبيعي - بذور مبعثرة على الأرض الصخرية، أو الزيت الذي دهن قدمي المسيح. هناك المئات من الفرص المتاحة للتأمل في الانجيل، وأمثلة لا حصر لها إن اتسعت الدائرة لتشمل الكتب المقدسة والمزامير، وهذه التأملات لا يسعها إلا أن تثير فينا مشاعر الامتنان وتدفعنا نحو الالتزام نحو الخليقة.
عندما كنت أعطي الرياضة الروحية في الصيف الماضي، كنت أرافق متريضاً يدور في دائرة روحية مغلقة. كان في اليوم الخامس من الأسبوع الثالث من رياضة روحية طويلة مدتها 30 يوماً. ولم يكن مشغولاً بالمسيح ذاته بل بدرجة الألآم التي عاناها المسيح. وكان يتحدث مراراً وتكراراً عن شناعة تأملاته. وكنا قد وصلنا إلى نهاية حديثنا، فاقترحت عليه أن يضع المسيح في القبر قبل نهاية اليوم. وعلى الرغم من أنني نادرا ما أعطي توجيهات محددة من هذا القبيل، إلا إني أحسست أنني مدفوعٌ من الروح في هذا الاتجاه. ووافق المتريض على هذا الاقتراح. ثم اقترحت عليه أن يتصور نفسه في هذا المشهد، لا كشاهد بشري، بل أن يضع نفسه مكان القبر. ووافق على هذا الاقتراح أيضاً. وعندما التقينا في وقت متأخر في اليوم التالي، قال وعيناه قد اغرورقت بالدموع: "إن المسيح قام من الموت في داخلي". وإذ بدت عليه التعزية العميقة، شرع يسرد هذه المشاهدة القوية الذي اختبرها وكأنه القير. ووصف كيف كان يرتجف بالحياة والطاقة، وهو ذلك القبر الخامل الذي تفوح منه روائح زكية، وكأنه صحراء تُزهر بعد هطول الأمطار. وغدا القبر – وهو ليس إلا مكان موت مجهول لا يميزه أي شيء - ملوناً بجميع ألوان السماء. تأمله للقبر ذاته أتاح له تجربة أعمق للمسيح القائم من الأموات المتجسد والمحيي.
تنشأ رؤية جديدة بداخلنا عندما نسمح لأنفسنا بمواجهة تساؤلات لم نتخيلها من قبل. أنستطيع أن نرى ونشعر كيف أن الأرض تحت الصليب كانت الكأس الأولى التي تلقت دم المسيح؟ أيمكننا أن نعزّي المسيح ونحن نتخيل أنفسنا مكان الزيت الذي دهن قدميه، مرطباً، مجدداً الأجزاء المتصلبة، مالئاً التشققات؟ أي تحول نشعر به إذا تخيلنا أنفسنا الماء الذي تحول إلى خمر في قانا الجليل؟ يستحضر تأمل مثل هذه المشاهد شجاعةً وتواضعاً جديداً، ويكرّم نعمة الخليقة. وهذه كلها هي الفضائل نفسها التي نمّاها يسوع باتباع إرادة الله في أن يصبح جزءاً من عالم الطبيعة.
يُضفي دمج هذه اللغة الجديدة من الصور - مع روعة وجمال الخليقة - قوةً لشفاء أنفسنا الجريحة والمنكسرة. منذ عدة سنوات، بينما كنت أعطي رياضة الأيام الثمانية، دعوت سيدة للتأمل انطلاقاً من مثل البذور والزارع (مرقس 4: 26- 29). كانت تحمل حزناً عميقاً إزاء عدم قدرتها على الإنجاب، وتعاني بسبب هذا من شعور عميق بالعار والذنب منذ سنوات عديدة. عندما دَخَلَت في تأمل البذور والزارع وكأنها الأرض، اختبرت شعوراً غامراً بالشفاء. وعادت في اليوم التالي مملوءة بالفرح وهي تروي كيف أنها أنجبت كلمة الله، كلمة حية! وتحدثت عن الإحساس الجديد بأن تكون تلميذة للمسيح وأمّا له في الوقت نفسه. (تساءلت كثيراً إن كانت هذه النعمة الروحية، تبعها شفاءٌ جسدي. وسواء حدث هذا أو لم يحدث، فإن شفاء هذه السيدة الروحي، منحها رسالة. وهي حين تعيش هذه الرسالة، تصبح حضوراً شافياً في العالم).
إلهام إغناطي
عندما نتأمل في حياة القديس إغناطيوس، كما هو مدوّن في ذكرياته الشخصية، نرى بوضوح كيف أن الله ألهمه من خلال الثالوث في الخليقة: "وفيما كان يصلي ذات يوم فرض سيدتنا العذراء على درجات الدير، أخذ عقله يرتفع. وكأنه يرى الثالوث المقدس ممثلاً بثلاثةٍ من ملامس المعزف. أثارت هذه الرؤيا دموعاً غزيرةً حتى إنه لم يستطع التحدث إِلاَّ عن الثالوث الاقدس، وعن أشعة بيضاء يستخرج منها الله النور الشعاع، طريقة التي من خلالها كيف خلق الله العالم ونورانية الخليقة.
كما لا يمكننا أن نتجاهل خبرة إغناطيوس عند نهر الكوردنيس، التي منحته تجربة فريدة عن خبرته بالله: "بينما كان جالساً هناك، انفتحت عيون إدراكه الداخلي، وبدى له كل شيء جديداً"، سواء كان جالساً على سطح المقر الرئيسي للرهبنة اليسوعية في روما، أو كان يحدق في السماء المرصعة بالنجوم في لويولا، نظر للنجوم، فضلاً عن "الأشياء الأخرى على وجه الأرض" بعيون جديدة. (كتاب الرياضات الروحية، 23)
وعند اقترابه من نهاية حياته، أشار إغناطيوس إلى هذه الرؤى الموحدة للعالم المخلوق في نص الرياضات الروحية وفي رسائله وفي قوانين الرهبنة وفي قراراته من كل نوع؛ وكذلك في الصلوات التي تركها وكأنها بمثابة صدى لا رجع فيه للخليقة. وأومن، أن إغناطيوس وهو الذي كان يحدق في النجوم بحب، كان سيفرح بالمفارقة الجميلة أنه هو شخصياً مكون من غبار النجوم. ونحن نعلم أن هذه هي الحقيقة، هذه النجوم التي علمته الكثير عن الخشوع والرهبة والتبجيل، مخلوقة هي أيضاً من العناصر ذاتها التي خُلق هو منها ويبتهج الله في العناصر نفسها في كل منها.
عندما أسأل المتريضين أين يجدون الله، يروون لي قصصاً عن المشهد من أعلى قمم الجبال، أوعن شاطئ البحر ليلاً، أو عن نهر جلسوا طويلاً على ضفته، أو عن شجرة التنوب اليافعة على حافة المحيط الهادي. أبداً لم يذكر لي أحدهم أنه وجد الله بالقرب من نهر ملوث أو جبل أزيل من أجل التنقيب أو قمامة متناثرة في الزقاق.
إننا اليوم في عالم لم يعد يستطيع تحمل المزيد من التناقض بين الروح مقابل المادة، أو بين العناية بالبيئة مقابل الروحانيات، يعود إلينا نحن - وبالأخص الأشخاص الذين ينعمون بالروحانية الإغناطية - أن نصالح بين هذه المفاهيم التي تحمل تضاداً مغلوطاً بينها، من أجل حياة العالم، ولكي نجد الله بحق في كل شيء.
Joseph P. Carver, S.J., is president of Seattle Nativity School.