قال البابا: "الرحمة ليست مجرد موقف رعوي ولكنها جوهر إنجيل يسوع." وأدلى البابا بإعلان دعوة إلى يوبيل الرحمة بنفسه خلال ليتورجية التوبة التي ترأسها في بازيليك القديس بطرس، فيما كان يستمع إلى اعترافات بعض المؤمنين. وبدأ اليوبيل الاستثنائي في 8 ديسمبر في ذكرى انتهاء المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني ويستمر حتى عيد المسيح الملك في 20 نوفمبر عام 2016.
نعرض عليكم مقتطفات من مرسوم الدعوة إلى اليوبيل الاستثنائي "يوبيل الرحمة" بتصرف. ومرسوم الدعوة من 25 فقرة، اخترنا منها عدة فقرات 17، 19، 20 و24، ندعوكم للتأمل فيها في الأيام التالية كل فقرة على حدة.
الجزء الأول:
لنعش زمن الصوم في هذه السنة اليوبيلية بزخم أكبر كفرصة ملائمة للاحتفال برحمة الله واختبارها. كم هي كثيرة الصفحات في الكتاب المقدس التي يمكن التأمل بها خلال أسابيع زمن الصوم لإعادة اكتشاف الوجه الرحوم للآب! يمكننا أن نقول نحن أيضاً، مكررين كلمات النبي ميخا: أنت أيها الرب، إلهٌ تحمل الآثام وتصفح عن المعاصي، لا تشدد غضبك للأبد لأنك تحب الرحمة. أنت يا رب ستعود وترأف بشعبك، ستدوس آثامنا وتطرح في أعماق البحر جميع خطايانا (را. ميخا 7، 18-19).
بإمكاننا في زمن الصلاة والصوم والمحبة لأن نتأمل بصفحات سفر النبي أشعيا: "أَلَيسَ الصَّومُ الَّذي فَضَّلتُه هو هذا: حَلُّ قُيودِ الشَّرِّ وفَكُّ رُبُطِ النِّير وإِطْلاقُ المَسْحوقينَ أَحْراراً وتَحْطيمُ كُلِّ نير؟ أَلَيسَ هو أَن تَكسِرَ للجائِعِ خُبزَكَ وأَن تُدخِلَ البائسينَ المَطْرودينَ بَيتَكَ وإذا رَأَيتَ العُرْيانَ أن تَكسُوَه وأَن لا تَتَوارى عن لَحمِكَ؟ حينَئِذٍ يَبزُغُ كالفَجرِ نورُكَ ويَندَبُ جُرحُكَ سَريعاً ويَسيرُ بِرُّكَ أَمامَكَ ومَجدُ الرَّبِّ يَجمعُ شَملَكَ. حينَئِذٍ تَدْعو فيَستَجيبُ الرَّبّ وتَستَغيثُ فيَقول هاءَنَذا إِن أَزَلتَ مِن أَبْنائِكَ النِّير والإِشارَةَ بِالإِصبَعِ والنُّطقَ بالسُّوء. إِذا تَخَلَّيتَ عن لُقمَتِكَ لِلجائِع وأَشبَعتَ الحَلقَ المُعَذَّب يُشرِقُ نوُركَ في الظُّلمَة ويَكونُ دَيجوُركَ كالظُّهْر ويَهْديكَ الرَّبُّ في كُلِّ حين ويُشبِعُ نَفْسَكَ في الأَرضِ القاحِلَة ويُقَوِّي عِظامَكَ فتَكونُ كَجَنَّةٍ رَيَّا وكيَنْبوعِ مِياهٍ لا تَنضُب" (58، 6-11).
الجزء الثاني:
لتتمكّن كلمة المغفرة من بلوغ الجميع ولا تتركنَّ الدعوة لاختبار الرحمة أيَّ أحد غير مبال. إن دعوتي إلى التوبة موجّهة بإلحاح أكبر أيضا لأولئك الأشخاص البعيدين عن نعمة الله بسبب سلوك حياتهم. وأفكِّرُ بنوع خاص بالرجال والنساء الذين ينتمون لمجموعة إجرامية، أيًّا تكن. من أجل خيركم، أطلب منكم تغيير حياتكم.
لتصِل الدعوة نفسها للأشخاص الداعمين أو المتواطئين مع الفساد. إن هذه الآفة العفنة للمجتمع هي خطيئة كبيرة تصرخ نحو السماء، لأنها تهدّد أُسس الحياة الشخصية والاجتماعية. فالفساد يمنع النظر برجاء إلى المستقبل، لأنه باستبداده وجشعه، يدمّر مشاريع الضعفاء ويسحق الأكثر فقرا. إنه شرّ يعشش في الأفعال اليومية لينتشر من ثم في الفضائح العامة. إن الفساد هو حدّة في الخطيئة، يبغي استبدال الله بوهم المال كشكل من التسلّط. إنه عمل الظلمات، يرتكز للشّبهة والمكيدةCorruptio optimi pessima، كان يقول القديس غريغوريوس الكبير بحكمةٍ ليشير إلى أن ما مِن أحد يستطيع الشعور بأنه محصَّن من هذه التجربة. ولاستئصالها من الحياة الشخصية والاجتماعية، لا بدّ من الحكمة، اليقظة، النزاهة، الشفافية، مع شجاعة الإبلاغ. فإذا لم تكافَح علانيةً، تجعل الأشخاص عاجلا أم آجلا متواطئين، وتدمّر الحياة.
إنه الوقت الملائم لتغيير الحياة! إنه الوقت لتغيير القلب. فأمام الشر المرتكب، وجرائم خطيرة أيضا، إنّه وقت الإصغاء لبكاء الأشخاص الأبرياء المسلوبي الخيور، الكرامة، المشاعر، والحياة نفسها. إن الاستمرار في طريق الشر هو مصدر وهْم وحزن لا غير. فالحياة الحقيقية هي أمر آخر. إن الله لا يتعب أبدا من مدّ اليد. إنه دائم الاستعداد للإصغاء، وأنا أيضا، كما أخوتي الأساقفة والكهنة. يكفي فقط قبول الدعوة إلى التوبة والخضوع للعدالة، فيما تقدّم الكنيسة الرحمة.
الجزء الثالث:
لن يكون عديم الجدوى في هذا الإطار التذكير بالعلاقة بين العدالة والرحمة. فهما ليستا بناحيتين متعارضتين مع بعضهما البعض، بل هما بُعدان لواقع واحد ينمو تدريجيًا حتى يبلغ ذروته في كمال المحبة. إن العدالة مفهوم جوهري للمجتمع المدني، حينما، وبشكل عام، تتم الإشارة إلى نظام قانونيّ يُطبَّق القانون من خلاله. ويُقصد بالعدالة أيضا واجب إعطاء كل واحد حقّه. وفي الكتاب المقدس، تتم الإشارة مرات كثيرة للعدالة الإلهية وإلى الله كديّان. ويُقصد هنا عادة بالحفظ الكامل للشريعة والتصرّف ككل إسرائيلي صالح بحسب الوصايا المُعطاة من الله. غير أن هذه النظرة قد أدّت مرات غير قليلة إلى الوقوع في حرفيّة الشريعة، من خلال تشويه المعنى الأصلي وإخفاء القيمة العميقة التي تمتلكها العدالة. وللتغلّب على هذه النظرة المتقيّدة بحرفيّة الشريعة، ينبغي التذكير بأن العدالة تُفهم جوهريًا في الكتاب المقدس كاستسلامٍ واثِق لمشيئة الله.
من جهته، يتكلّم يسوع مرات كثيرة عن أهمية الإيمان بدلا من التقيّد بالشريعة. وبهذا المعنى، ينبغي علينا أن نفهم كلماته حينما، وإذ كان جالسًا إلى المائدة مع متّى وباقي العشارين والخاطئين، قال للفريسيين الذين كانوا يعارضونه: "فهلاَّ تتعلّمونَ معنى هذه الآية: "إنما أُريدُ الرَّحمَةَ لا الذَّبيحة"، فإنِّي ما جِئتُ لأدعُوَ الأبرارَ بلِ الخاطئين" (متى 9، 13). وأمام النظرة لعدالة كحفظ محض للشريعة التي تدين من خلال تقسيم الأشخاص إلى أبرار وخطأة، يركّز يسوع على إظهار العطية الكبرى للرحمة التي تبحث عن الخطأة كي تقدّم لهم المغفرة والخلاص. ويُفهم لماذا، وبسبب نظرته المحرّرة هذه وينبوع تجدّد، رُفض يسوع من قبل الفريسيين والكتبة. فكي يبقى هؤلاء أمناء للشريعة، كانوا يضعون أحمالاً على أكتاف الأشخاص، مُبطلين رحمة الآب. إن الدعوة لحفظ الشريعة لا يمكن أن تعيق الاهتمام بالحاجات المتعلقة بكرامة الأشخاص.
الجزء الرابع:
يتّجه الفكر الآن إلى أمّ الرحمة. ليرافقنا نظرها العطوف في هذه السنة المقدسة، كي نتمكّن جميعًا من إعادة اكتشاف فرح حنان الله. ما مِن أحد كمريم قد عرف عمْق سرّ الله الذي صار إنسانًا. إن كل شي في حياتها قد طُبع بحضور الرحمة التي صارت بشرًا. إن أمّ المصلوب القائم من الموت قد دخلت معبد الرحمة الإلهية لأنها شاركت بعمق في سرّ محبته.
وإذ اختيرت لتكون أم ابن الله، حضّرت محبة الآب مريم منذ الأزل كي تكون تابوت العهد بين الله والبشر. لقد حفظت في قلبها الرحمة الإلهية بتناغم كامل مع ابنها يسوع. وإن نشيد التسبيح عند عتبة بيت أليصابات، قد كُرس للرحمة التي تمتدّ "من جيل إلى جيل" (لو 1، 50). ونحن أيضا كنّا حاضرين في تلك الكلمات النبويّة للعذراء مريم. وسيكون ذلك عزاء وعضدًا فيما نعبر الباب المقدّس لاختبار ثمار الرحمة الإلهية.