بقلم الأب زياد هلال اليسوعيّ
من خلال قراءات القيامة في إنجيل مرقس وبداية إنجيل يوحنا، نتوقّف أمام عدّة أفكار تساعدنا على عيش القيامة في أيّامنا هذه التي نمرّ بها في بلدنا وفي مدينتنا. نتساءل مع المريمات عن: مَنْ "سيدحرجُ لنا الحجر عن باب القبر"؟ (مر 16 : 3) كي نستطيع أن نرى نور المسيح الذي ينير كلّ العالم؟ (يو 1 : 9) وما معنى أن نكون له شهودًا ومن هو الشاهد الحقّ؟ وأخيرًا: أيستطيع الذين قبلوه أن يدحرجوا الحجر عن باب القبر؟
بداية، يقول لنا يوحنا الإنجيليّ: إنّ المسيح لم يُقبل من خاصته، ولكنّ الذين قبلوه، هم الذين أعُطي لهم أن يعرفوه، وحدهم كان لهم السلطان لكي يُدعوا "أبناء الله" (يو 1 : 12). وهم أنفسهم يمكننا أن نقول: إنّهم يستطيعون دحرجة الحجر الكبير عن باب القبر، لأنّهم أصبحوا شهودًا، أو بالحريّ أرادوا أن يكونوا شهودًا، فهم المختارون كونهم اختاروا المسيح، اختاروه ليكونوا شهودًا له، لقيامته، لمجده، لقدرته. ولقد أيقنوا أنّه سيسبقُهم إلى الجليل (مر 16 : 7) ، كما يقول لنا الإنجيلي .
"إنه يسبقُكُم إلى الجليل". إنّ المسيح يدعو مختاريه أن اذهبوا إلى الجليل، أيّ لا تخافوا، لا تنتظروا الآخرين حتى يصطحبونكم، بل اسبقوهم أنتم، فهو –أيّ المسيح القائم- سيسبقكم ويكون قبلكم في الجليل. لكن كيف لنا أن نفهم "الجليل" اليوم؟ إنّ الجليل هو موضع اللقاء الأوّل بعد القيامة، موضع اللقاء مع المحبوب، الذي رافقهم منذ البداية، الذي لم يكن محجوبًا عنهم أبدًا، حتى حين توارى في القبر بعيدًا عن أنظارهم. أهميّة اللقاء في الجليل أنّه سيكون اللقاء الأوّل مع المعلّم القائم، المعلّم الذي لا يترك تلاميذه، ألم يعلّمهم أهمية أن يكونوا هم على مثاله، مثال "الراعي الصالح" الذي يبقى بجانبهم وبقربهم ومعهم. الجليل هو نقطة التحوّل، التي تجعل التلاميذ يخرجون من ذواتهم، من خوفهم، من رعبهم. إنّه دعوة الخروج من الذات المغلقة نحو اللقاء الأهمّ، اللقاء مع من كان بقربهم كي يدركوا هذا النور "الذي ينير كلّ العالم" (يو 1 : 12) والذي لا تستطيع الظلمة أن تطفئه.
إنّ الشاهد للنور، هو ذلك الذي يعلم أشدّ العلم أنّه ليس هو بالنور، وإنّما دوره مساعدة الآخرين أن يتعرّفوا على النور(يو 1 : 8). فمهما كان الحجر كبيرًا، لا يستطيع أن يغلق طاقة النور إلى الأبد، إنّه لا يستطيع سدّ الطريق أمام الباحث عنه كالمريمات، لا يستطيع أن يقفل مداخل الحياة ومخارجها. لماذا؟ لأنّه في كل حين سنجد شهودًا يبكّرون إلى البحث عنه. الشهود اليوم هم نحن، القائمون ههنا لنشهد لقيامة المسيح رغم كلّ الألم الذي يمرّ بنا ونمرّ به. إنّ الشاهد الحقّ، هو الذي يعي أهميّة النور الخارج من الظلمة كي ينير لكلّ الذين ينتظرون هذا النور، أيّ الذين آمنوا أنّه بعد الظلام لابدّ من أن يظهر النور الذي "ينير كلّ إنسان آتٍ إلى العالم" (يو 1 : 12). هكذا تتجلّى القيامة اليوم في وطننا، في عالمنا، قيامتنا نحن الذين مرّوا في أسبوع آلامه وأسبوع آلامنا، فكنّا شهودًا له ومعه.
إنّ الشاهد للحقّ، هو ذلك البارّ الذي يتوق إلى النور فيجد الشرير يحاصره، كما يقول لنا سفر حبقوق النبيّ "إنّ الشرير يحاصر البار فيظهر العدل معوجًا " (1 :4). لكنّ الشاهد البار، يعي أنّه على مقربة من القائم من بين الأموات، ويعلم أنّه بالإيمان يحيا (حبقوق 2: 4). هذا البار نفسه الذي يحاصره الشرير، يقدر أن يخرج من حيله، من كلماته، من أفعاله، حتى يدرك أنّ القيامة لا بدّ آتية، لأنّه بالإيمان يحيا. وحده الإيمان يستطيع اليوم أن يدحرج عنّا هذا الحجر مهما كبر، ومهما ارتفع، ومهما كان شاهقًا. لا تكمن المسألة بـ «لماذا هناك الحجر»، بل بـ «كيف» التي تعكس الفعل عن كيفيّة سدّ القبر بالحجر وجره، كيف يقدر الذين شهدوا له، من خلال إيمانهم، أن يدحرجوا الحجر.
"وتكونون لي شهودًا" (أع 1 : 8). من هو إذن الشاهد؟ الشاهد بداية، هو القادر أن يدخل إلى عمق الآخرين، لا لينشل ذاته ولا ليبرّر ذاته وإنّما ليُخرج الآخرين معه لرؤية النور.لا يرضى أن يخرج وحده، لأنّه ليس كائن لوحده، ولا لوحده جاء ليقوم برسالته، ولا لذاته أُدخِل إلى العالم أو اُختير. لا يستطيع، هذا الشاهد، سلوك الطريق وحده، كي لا يضيع في ظلمات القبور، مكتوب عليه أن يسلك الطريق مع الآخرين. إنّه يعرف أنّ الكنيسة ليست هو وحده، بل الكنيسة، هي نحن كلّنا، هو معهم، كي لا يضيع عنهم ولا يضيعوا عنه. لا يخرج بالليل هربًا كاللص، لا يعيش بعيدًا عن اللذين عاشوا معه وعايشهم، أحبّوه وأحبّهم، وإنّما هو الشاهد الذي يشاطرهم مصيرهم، يكون معهم لأنّه في الوقت الذي أحبّوه أحبّهم فكان مسكنه معهم ولأجلهم.
الشاهد هو الذي سيظهر بوقت من الأوقات كمعلّم، يُظهر الطريق للآخرين، فينعكس نور القيامة عليه ليكون بدوره حاملًا للنور، نبراسًا وعلامةً لهم. هم استمدوا الطريق والنور من المسيح القائم من الموت، لكن كانوا بانتظار من يزيل حجر قبرهم بشهادته أمامهم.
الشاهد لا يدحرج الحجر وحيدًا، لا أحد يستطيع دحرجته وحيدًا، لأنّه ليس بقوته يقوم بذلك، بل بالإيمان الذي به يستطيع كلّ شيء، كما يخبرنا الكتاب. هو يعلم أنّ بالكلمة " كان كلّ شئ وبغيره لم يكوّن شئ مما كوّن" (يو 1 : 3).
الشاهد يعي أنّ أهميّة الإصرار لتأكيد الإيمان، لأنّه يعي أنّ مخلّصه قريب، ويعي أنّ مخلصه يشفع له، وهو على إدراك أنّ مخلّصه دائما بقربه ينظر إليه (من سفر أشعيا النبي).
الشاهد الذي يدرك أنّ الإيمان والإصرار مرفقين بالتواضع، التواضع الذي يجعل هذا الشاهد يحيا حياة المسيح، حياة يسوع الذي وضع نفسه في خدمة الآخرين، ليأتي الشاهد ويضع نفسه لا بل جسده في خدمة الآخرين، ليضع قلبه بين يديّ من أحبّوه، وليضع ذاته بين يدي الله الذي اختاره ليكون شاهدًا، لأنّه فيه "كانت الحياة" (يو 1 : 4)، وهذا الشاهد على إدراك بهذا بأنّ حياته منه وفيه.
الشاهد يخرج من ذاته، يخرج من واقعه، يخرج من حلمه الخاصّ ليجد حلم الآخرين، يعيش واقعهم ويلمس محبّتهم، حتى تتحدّ محبّته بمحبّتهم، فلا تكون غريبة عنهم، وإلا فإنّ هذه المحبّة ليس لها أيّ كينونة، ليس لها أيّ مرجعيّة، ليس لها بحدّ ذاتها أيّ قيمة.
الشاهد يدرك أنّه لا يشهد لذاته، وإنّما يشهد للنور الذي هو يأتي من علو، من فوق لينير للآخرين (يو 1 : 7-9).
الشاهد هو نفسه يشهد للحقّ الذي يخلّص كلّ إنسان ويقود كلّ إنسان ويمشي مع كلّ إنسان كصوت صارخ في البريّة البشريّة.
الشاهد يشهد للعدل الذي يجعل العلاقة بين الآخرين علاقة سليمة، كي يشارك بالنّعمة التي مُنحت إليه الآخرين ممّن حوله، فتمسوا هذه العلاقة عن كلّ نوع من أنواع: الكراهية أو المقارنة أو الغيرة.
بهذا يكون الشاهد ابتدأ المشي على طريق القيامة، وابتدأ يعي أنّ عليه أن يسبقه إلى الجليل. علينا أن نسبقه نحن أيضًا إلى الجليل. نسبقه إلى الجليل كي نكتشف الذات الإلهية المُمجّدة، فندرك معه أنّ النور لا يمكن أن يطفئه الشرير مهما حاول جعل العدل معوجًا.
أحبّتـي، في هذا اليوم، يوم القيامة، لا نستطيع إلا أن نذكر شاهدًا عايشناه في هذا الوطن، شاهدًا من مدينتنا هذه، شاهدًا لمسناه، شاهدًا سار معنا، شاهدًا غيّر في بريّة حياتنا. هذا الشاهد لم يرد أبدًا، أن يدحرج الحجر وحيدًا، لم يرد أن يظهر هو كنور، وإنّما كان دائما يسعى لأن يتجلّى نور وحبّ الله وتواضعه من خلال العلاقة مع الآخر الذي لم يتوانَ أن يكرّرها في خطاباته، في رياضاته الروحيّة، في كلماته اليوميّة فيؤكد على أهميّة الآخر في حياته وحياة الآخرين. اليوم يوم القيامة، لا نستطيع أن نذكر أنّ هذا الشاهد، كان لا بدّ أن يكون معنا، وهو يوعظ، ليعلن قيامة هذا الوطن وقيامة هذه المدينة.
اليوم لا نستطيع إلا أن نذكر أبونا فرانس، أن نقول أنّ هناك شاهدًا وشهيدًا خرج من هذه المدينة. دم هذا البارّ، دم هذا الصدّيق، ما كان إلا ليغسل الكراهية والضغينة وكلّ حقد حتى نستطيع أن ندرك بحياتنا كمؤمنين، بحياتنا كسوريين، بحياتنا كبشريّين، أنّ لا خلاص للعالم أو لبلدنا إلّا من خلال العلاقة الحسنة بالآخر. من مفاعيل هذه القيامة أنّها تجعلنا أن ندرك أنّ النور لا يخرج من ذواتنا، ولسنا نحن فقط من عاينّا النور والحقّ. إنّ النور ينتظرنا في الجليل، يخرج من ذواتنا ليلاقي ذوات الآخرين فنتحدّ معهم بنور القيامة المجيدة.
اليوم لا نستطيع إلا القول إنّ أبونا فرانس يسبقنا إلى الجليل "معه"، هو في انتظار، انتظار ليؤكّد لنا أنّ: الحقّ والشهادة والمحبّة، لا زالت موجودة، لا زالت حيّة في قلوبنا، تقوم في كلّ مرّة نُمتّن الجسور مع الآخرين. يشدّ على عزيمتنا حتى ندرك أنّ طريق الجليل ليس بعيدًا. يدعونا أيضًا كي نخرج من كلّ القبور المعتمة حولنا، حتى نستطيع مع الآخر أن ندحرج الحجر الكبير، من خلال محبّتنا له ومن خلال علاقتنا الحسنة به، ومن خلال أن ننظر إلى النور الذي به (أيّ الآخر)، لا أن ننظر فقط إلى الظلمة التي تكتنفه، ليقول لي "يا خيّي" أنا أيضًا معك مُخلَّصٌ، فنسمع صوته يدعونا: "إلى الأمام" ... إلى اللقاء الأوّل في الجليل...آمين.
نُشرت على موقع الرهبانية اليسوعية في الشرق الأدنى