بقلم الأب فرنسيس بركماير اليسوعي
أمضى أميل دوركهيم – مؤسس علم الاجتماع الحديث – مدة طويلة من الزمان في اليابان، وهناك سأله معلّم شهير من معلمي الزِن (ZEN) "متى يتأمّل؟"، فردّ عليه دوركهيم: "ساعة عند الصبح وساعة أخرى حين يأتي المساء". فقال المعلّم: "إذًا لم تفهم شيئًا: لئن كنت لا تتأمّل اليوم كلّه فإنك لن تفلح في أي شيء". ولا تختلف هذه المقولة عن وصية يسوع بوجوب المداومة على الصلاة دون ملل – كما في مثل الأرملة والقاضي (لوقا 18/1 – 8) ومثل الصديق الذي يطلب خبزًا في نصف الليل (لوقا 11/5 – 13) -، ونجد أيضًا عند القديس بولس عبارات كثيرة تحث على المداومة على الصلاة: "صلوا كل وقت في الروح مبتهلين، وتنبهوا لذلك وواظبوا على الدعاء لجميع الأخوة القدّيسين" (أف 6/18) (راجع أيضًا روم 1/ 10 و2 تس 1/11 و2/13 وفي 1/4 وكول 1/9... إلخ). وانطلاقًا من الفهم الحرفي لهذه العبارات، حاول مسيحيون كثيرون في تاريخ الكنيسة – ولا سيّما من الرهبان – أن يجددوا أسلوبًا مناسبًا به يحققون المداومة على الصلاة في حياتهم. ولكن جميع هذه المحاولات باءت بالفشل – إلا نادرًا -، ولم تنتج غير المزيد من الإحباط بل اليأس، لأن الإنسان مهما صلّى يحتاج إلى النوم والأكل وإلى عمل يكتسب منه. ولذلك يشجعنا القديس إغناطيوس على البحث عن الله في كلّ شيء، أو بعبارة أخرى مشاهدة الله في العمل. ويبقى السؤال كيف نقدر على أن نتأمل في الله في كل وقت ونجده في كل شيء بل وفي أعمالنا الشاقة لكي ما تتحوّل حياتنا كلّها إلى صلاة بدون انقطاع.
1- العمل: أهو أكبر معوق للصلاة؟
إن أغلب المؤمنين الذين يجتهدون في المواظبة على الصلاة يعتبرون الأعمال وكثرة الانشغالات أكبر معوق للصلاة، ذلك لأنهم لا يجدون الوقت الكافي للتأمّل! وأظن أن أساس المشكلة لا يكمن في ضيق الوقت، لأن المرء دائمًا ما يجد الوقت اللازم ليقوم بكل ما هو ضروري لتلبية احتياجاته الحياتية. فكأن من لا يجد الوقت للصلاة، يثبت أن الصلاة – بالنسبة إليه – أقل أهمية من احتياجات حياتية أخرى. ومن ناحية أخرى نلاحظ أن مَن يصعب عليه تنظيم وقته وانشغالاته وترتيبها بحسب الأولويات – التي يؤمن بها – ولو نظريًا -، لا يقدر أيضًا على تكريس وقت كافٍ للصلاة.
ومع ذلك فلا زلت أرى أن العمل قد يكون من أكبر معوقات الصلاة، لا بسبب كثرة العمل وضيق الوقت، بل بسبب نوعية العمل وأسلوبه وجوّه الذي يتسم بالعجلة والتوتر والضوضاء سعيًا وراء النتائج الملموسة السريعة. ويتناقض هذا الجو من التوتر مع هدوء الصلاة اللازم للبحث عن الذات واللقاء مع الله، ولذلك قد يعتبر المؤمن الملتزم أنه يفقد – في أثناء عمله – الطاقة التي نالها في صلاته، فيجد المرء نفسه قارغًا مرهقًا بعد يوم عمل ولابد له أن يملأ حياته مرة ثانية بواسطة الصلاة. فلا عجب إذًا أن نعتبر العمل – إن رأيناه بهذه الصورة – عاملاً مهدَّدًا للحياة الروحية، كأن العمل وحياة الصلاة قطبان متناقصان.
2- العمل هو مساهمة في عمل الله
في رأيي أن التهديد الحقيقي لجو الصلاة في حياة الإنسان ينشأ بسبب أسلوب العمل الذي يتّسم بالطمع والكبرياء. فدعوة الإنسان الأساسية هي أن يحقق ذاته من خلال استثمار عمله في العالم، وهكذا يمجّد الخالق بمساهمته في عمل الله الخلاق (راجع تكوين 1 و2 ومزمور 8). وفي إطار هذه الرؤية الإيمانية لا يُعتبر العمل خطرًا على علاقة الإنسان بالله بل بالعكس يعتبر العمل وسيلة مميَّزة ومفضّلة لاتحاد الإنسان بالله الخالق.
ومع ذلك نلاحظ أن غالبية المسيحيين يعتبرون أن الويل للعلماني المضطر لأن يكافح في سبيل لقمة العيش في وسط الدنيا، منقسم بين الصلاة والعمل، بين اشتياقه إلى صفاء الحياة الروحية وإحباطه بسبب انشغالاته الدنيوية. فهل الله إله صحراء الدير فقط لا إله المدينة؟ أهو إله الهدوء والصمت فحسب لا أله العمل والمعاملات؟ هل يمكن أن يتقدّس الإنسان من خلال العمل في سبيل بناء مجتمع أكثر إنسانية؟ أم أن السبيل الوحيد للقداسة هو التجرد في الصحراء؟ لا وألف لا، إن الله الآب يدعو الإنسان إلى العمل المستمرّ مع المسيح، المسيح الذي أجاب اليهود الذين وبّخوه لأنه يشفي المرضى في يوم السبت قال: "أبي يعمل في كل حين وأنا أعمل مثله" (يو 5/16 – 17).
3- نظرة جديدة إلى العمل
كيف يتحوّل العمل إلى وسيلة للاتحاد بالله؟ في رأي القديس إغناطيوس أن المهم في خدمة الرب لا كثرة الصلوات بل الإخلاص في التجرّد عن الذات في سبيل معايشة قيم المسيح ونشرها. والصلاة هي بالطبع تدريب ممتاز على خبرة إنكار الذات والموت عن الأنا السطحي القَلِق الهجومي الذي يقوده المزاج والكيف، ولكن العمل نفسه يمنحنا فرصًا عديدة لنموت عن الأنا السطحي مع رغباته الأنانية في سبيل خلق مساحة واسعة في داخلنا لعمل الله العظيم، إذ "نحمل في أجسادنا كل حين آلام موت المسيح يسوع لتظهر حياته أيضًا في أجسادنا" (2كور 4/10).
4- لا تهتمّ بنتيجة عملك!
هناك طريقة عمليّة تساعد على أن يصير العمل نفسه وسيلة للتقدّم الروحي والسلام الداخلي، وهي عدم الاهتمام بنتيجة العمل أثناء تنفيذه، فالأنا السطحي يقلق على كبريائه وعلى احتمالات ترقّيه أو على وضعه الاقتصادي الذي يترتب على الفشل المحتمل... ولذلك يتطلب عدم الاهتمام بالنتيجة قدرًا عظيمًا من إنكار الذات والتغاضي عن الكبرياء وعدم الاعتداد برأي الناس والتقليل من تأثير الترقّي والعائد المادي... إلخ، إن عدم الاهتمام بنتائج العمل يترجم في الوقت نفسه نظرة إيمانيّة عميقة إلى الحياة، فإن قصد الله في حياتي هو أن أنغمس فيها بدون أن أغرق فيها، فلا أتساءل قط عن النتيجة المحتملة لعمل ما، فهذا الأمر متروك لله. ولا أسأل نفسي في كل لحظة إلا سؤالاً واحدًا، ألا وهو: ماذا يجب عليّ عمله في هذه اللحظة؟
5- العمل لعبة واستمتاع
حين نتجرد من الاهتمام بنتيجة العمل وثمرته يتحول العمل مهما كان شاقًا إلى لعبة واستمتاع. فكل عمل يتحوّل إلى لعبة ومتعة عندما نتجرد من الاهتمام بالنتيجة والإحساس بالإجبار، وعندما نقوم به مجانًا بدون أي غرض آخر إلا متعة القيام بالعمل. من يلاحظ الأطفال في لعبهم قد يندهش من جديتهم وتركيزهم أثناء اللعب، ومن المعروف أن أفضل أساليب التربية هي تلك التي تستخدم الألعاب وسيلة لتنمية مهارات وطرق تفكير جديدة عند الأطفال. إن متعة اللعب تعطي طاقة وفرحًا أكثر مما تستهلكهما، حتى إن التكرار والروتين لا يشكل مللاً في لعب الأطفال إذ يكرّر الطفل الحركة والكلمات نفسها مرارًا، فالحياة نفسها تحتاج إلى التكرار المستمرّ رمزّا لملء الحياة.
6- التجرّد الداخليّ يحوّل العمل إلى لعب
في هذا الإطار يمكننا أن نفهم المعنى العميق للتعليم يسوع أن نتجرد من طموحاتنا الزائدة واهتماماتنا القلقة بما نأكل ونشرب (متى 6/24 – 34)، أو بالجلوس في المقعد الأول (لو 14/8)، أو بمن هو أكبرنا سلطة ومنصب (لو 22/24 – 27)، أو بما هو للجسد، بل نعيش "حرية أبناء الله" (روم 8) "لأن أبانا السماوي يعرف أننا نحتاج إلى هذا كله" (متى 6/22).
فلذلك لابد من أن ننتبه حين نشعر بقلق أو خوف أو اضطراب، وأن نتساءل ما هو سبب هذا القلق، ونطلب من الرب النعمة لنتغلب عليه لكي نتحرر تدريجيًا ونؤدي واجبنا بعيدًا عن القلق، فيتحوّل العمل والواجب إلى لعب ونستمتع بكل ما نقول به ونكتشف حرية جديدة كما وصفتها الحكمة الشرقية: "ليست الحرية أن تقوم بعمل تحبّه بل هي بالأحرى أن تحب ما تعمله"
7- التجرد في قيامنا بأعمالنا أكبر دافع للفرح والصلاة
عاش يسوع هذه الحرية عيشًا كاملاً من خلال تمسكه بإتمام مشيئة الآب: "طعامي أن أعمل بمشيئة الذي أرسلني وأتمّم عمله" (يو 4/34)، فتمسّك يسوع بمشيئة الآب هو سرّ تجرّده عن اي اهتمام زائد بالطعام (أي احتياجاته الحياتية) ولا بالمجد (أي احتياجاته الاجتماعية) بل ولا بحياته وذاته. وهذا التجرد الداخلي والتمسك بمشيئة الآب مصدر فرح وصلاة عند المسيح: "في تلك الساعة ابتهج يسوع بالروح القدس، فقال: أحمدك أيها الآب يا رب السماء والأرض لأنك أظهرت للبسطاء ما أخفيته عن الحكماء والفهماء, نعم أيها الآب هكذا كانت مشيئتك" (لو 10/21). وأمام قبر صديقه لعازر: "أشكرك يا أبي لأنك استجبت لي وأنا أعرف أنك تستجيب لي في كل حين" (يو 11/41).
إن الصلاة التي يدعونا يسوع إليها هي التمسك بمشيئة الله في كل حين في جو من الشكر والتجرد عن الاهتمام الزائد بذواتنا، فيفيض فينا السلام الداخلي والاستمتاع بما نقوم به من أعمال مهما كانت شاقة. وهكذا لا تكون أعمالنا – مهما كثرت – معوقًا عن الصلاة، بل بالعكس بقدر ما نتجرد من الاهتمام الزائد بنتيجة العمل – وبالتالي بنجاحنا نحن – نزداد متعة وسلاماً في وسط العمل مما يدفعنا إلى الشكر والحمد ويمهّد الطريق لكي نجد الله في كل شيء في كل حين.
عن مقال نُشر في مجلة رفاق الكرمة