بقلم الأب أوليفر برج أوليفييه
عند قراءة السيرة الذاتية لإغناطيوس، المسماة برواية السائح، نلاحظ بسرعة تلك العلاقة الحية والعميقة التي كانت بين إغناطيوس والعذراء مريم. سنستعرض نصين أو ثلاثة نصوص في محاولة لاكتشاف ما يمكن أن تقوله لنا اليوم هذه العلاقة. وإن رغبت في أن تتصفح كل النصوص في رواية السائح التي تتحدث عن إغناطيوس ومريم، يمكن أن تعود إلى النصوص الآتي أرقامها: 10، 11، 13، 15-16، 17-18، 28، 89، 96، 100.
مريم وإغناطيوس، على بداية طريق اهتدائه:
تحدثنا في مقالنا الأول عن اهتداء إغناطيوس في فترة نقاهته في لويولا. وفي نفس الفترة، نجد مريم وتأثيرها على حياة إغناطيوس، في نفس اللحظة التي يفكر فيها في قلب صفحة جديدة من حياته.
هلم نقرأ الفقرة العاشرة في سيرته الذاتية:
10 وما لبث أحلامه الماضية أن تلاشت في بحر النسيان،تطردها رغباته التقيَة. وقد أثبتتها الرؤيا الآتية: في ليلة أرق، رأى بوضوح صورة لسيدتنا العذراء مع الطفل يسوع. وعند هذه الرؤيا، حصل على تعزية قويَّة للغاية. استمَّرت مدَّة غير قصيرة. وخرج منها بكراهية شديدة لحياته الماضية وخاصَّة لشهوات الجسد. حتى خُيِّل إليه قد نزعت من نفسه كل الصور التي انطبعت فيها من قبل. وعليه فمنذ ذاك اليوم حتى شهر آب (أغسطس) 1533، وفيه كتبت هذه الذكريات. لم يعد يعير هذه الأشياء أيَّ قبول. وبناءً على هذه النتيجة. يمكن الحكم بأن هذه الرؤيا كانت صادرة عن الله. رغم أنه لم يجرؤ أن يبتّ في الأمر. ولم يؤكُد شيئاً أكثر ممَا سبق. إِلاَ أن أخاه وسائر أهل البيت لاحظوا في ظاهره ما جرى من تغيير في داخله.
فالاهتداء – عند إغناطيوس – معناه التحرر من كل انجذاب وهوى منحرف، كالكبرياء والفخر العالمي "وشهوات الجسد"، لتنظيم حياتنا وفقاً لإرادة الله لنا. وَمَن أفضل من مريم ليساعدنا على الوصول إلى تلك الغاية، فمريم هي التي قالت: "لتكن لي بحسب قولك".
نلاحظ منذ البداية أن الفكرة التي عند إغناطيوس عن العذراء مرتبطة بابنها يسوع. فإغناطيوس في حياته "المتمركزة على المسيح، يرى دور مريم من خلال علاقتها بالمسيح" (المبادئ العامة رقم 9)، كأم وشفيعة عند ابنها.
يرتبط إغناطيوس واتصاله بالله وبعالم الله بخبرة رؤياه. ونجد نفس ذلك الارتباط في الأسلوب الذي يقترحه على المتريض للمشاهدة في كتاب الرياضات الروحية. ففي بداية حياته الروحية، لم يكن عند إغناطيوس شيئاُ آخر يفعله سوى المشاهدة، مشاهدة مريم وابنها، كما في مشاهدة ميلاد المسيح. لقد كان يترك نفسه لذلك المنظر الذي يراه في تأمله، صورة سيدتنا العذراء مع الطفل يسوع، ويتلقي منهما – أو بالأحرى لنقل يتلقى من الله عن طريقها – وبواسطة شفاعتها، نعمة شفائه من "أحلامه الماضية" وتغييره الداخلي.
سهرة الأسلحة في مونتسيرات:
نحن الآن في مونتسيرات، في دير العذراء هناك في حضن الجبال الصخرية بشمال إسبانيا. وخبرة مونتسيرات مرحلة هامة على مسيرة السائح إغناطيوس بعد اهتدائه. هنا أيضاً نجد لمريم الأهمية نفسها. فالفارس الشاب لم يخرج بعد تماماً من عالم الفرسان وأعمال البطولة وسهرات الأسلحة. ويكتب لنا في الفقرتين 17-18:
17 واصل سيره نحو مونسراته. وهو يحلم كعادته باعمال البطولة التي سيقوم بها حبَا لله. ولما كان عقله مليئاً بقصص أماديس الغالي وغيرها من هذا النوع، خطر له أن يقتدي بالبعض منها. وهكذا فقد عزم على أن يحيي ليلة صلاة من دون أن يجلس ولا ينام، واقفاً تارة، وراكعاً أخرى، أمام مذبح سيدة مونسراته، حيث قرر أن يخلع ملابسه ليرتدي أسلحة يسوع المسيح.
وبعد مغادرته هذه البلدة، واصل طريقه وهو يفكر في مشاريعه حسب عادته. وعند وصوله إلى مونسراته، وبعد أن صلي واتفق مع المعرّف. أعدَّ اعترافه العامّ كتابةً وبغلته ويعلق سيفه وخنجره في الكنيسة عند مذبح السيدة. وكان ذلك الكاهن أول إنسان يكشف له السائح عن عزمه، لأنه لم يكن قد كشفه قبل ذلك لمعرّف ما.
18 عشية عيد العذراء في آذار (مارس) 1522. وقد خيم الليل. ذهب بغاية ما أمكنه من السريّة إلى أحد الفقراء. فخلع ثيابه وأعطاه إياها ثمَّ لبس ثوبًا طالما اشتاق إليه. وراح يركع أمام مذبح سيدتنا. وأمضى الليل كلّه وهو ممسك بعصاه، يركع تارةً ويقف أخرى. وانطلق عند بزوغ الفجر لئلاَّ يعرفه أحد.
بالنسبة لإغناطيوس، "يجب أن يظهر الحب في الأفعال أكثر من الكلمات" (كتاب الرياضات الروحية 230)، وهذا هو ما يقصده عندما "يحلم كعادته بأعمال البطولة التي سيقوم بها حبا لله". قرر التائب الشاب أن يترك الخدمة عند الدوق ويرتدي أسلحة يسوع المسيح ملكه الجديد وسيده. وقرر إغناطيوس أن ينفذ قراره أمام مذبح العذراء في مونتسيرات: وها هو يقضي الليل بطوله أمام المذبح. ولكن المحور الحقيقي لهذا العمل هو المسيح بالطبع، فدور مريم هو من خلال علاقتها بالمسيح. يظهر هذا الموقف بصورة رمزية اهتداءه النهائي، وعودته إلى الله وإلى المسيح، وتكريسه لحياته في خدمتهما. فالعذراء، التي كانت الشفيعة لنعمة استعداده لتنفيذ إرادة الله، هي الآن شاهدة على هذه الخطوة التي يخطوها في حياته.
مريم والتجسد:
نحن الآن في منريزا، هذا المكان الخاص جداً في حياة إغناطيوس، حيث عاش خبراته الروحية الأكثر عمقاً، وحيث – كما يقول بنفسه: "كان الله في تلك يعامله تماماً كما يعامل معلم صبياً، وهو يعلمه" (رواية السائح رقم 27).
في منريزا أيضاً تلعب مريم مرة أخرى دوراً هاماً: "وفيما كان يصلي ذات يوم فرض سيدتنا العذراء على درجات الدير، أخذ عقله يرتفع، وكأنه يرى الثالوت الأقدس ممثلاً بثلاثة من ملامس المعزف..." (رواية السائح رقم 28).
وهكذا يقود معلم المدرسة صبيه في الأمور الروحية بوساطة مريم، فهي التي تحمله إلى باب الله وإلى سره الأعظم: الثالوث. وفي الوقت نفسه يكتب إغناطيوس عن نفسه قائلاً: "في أثناء التأمل، كان يرى مراراً وطويلاً، بالعيون الداخلية، ناسوت المسيح... ورأى سيدتنا العذراء بشكل شبيه بذلك..." (رواية السائح رقم 29).
نلاحظ أنه في عالم إغناطيوس الروحي، فإن مكان مريم يرتبط أساساً بناسوت ابنها... بسر التجسد. فإن كان دور مريم بهذه الأهمية، فذلك لأنها وثيقة الصلة بسر تجسد ابن الله. فمن وجهة نظر إغناطيوس، فإن دور مريم يأتي عندما يحتضن حب ثالوث الله الخليقة بأكملها من خلال تجسد الابن الذي يظل حاضراً في وسطنا اليوم أيضاً بواسطة الإفخارستيا. وسيرجع إغناطيوس كثيراً إلى مريم في صلاته، فهي التي تقوده إلى ابنها فتعطيه بذلك وسيلة الدخول إلى الآب وإلى حياة الثالوث.
ونترككم في نهاية المقال مع ما يميزنا، مع المبدأ التاسع من المبادئ العامة لرفاق الكرمة، هذا المبدأ الذي يتحدث عن دور مريم في حياتنا كرفاق للكرمة.
وحيث إن روحانية جماعاتنا تتمركز في المسيح فنحن نرى في دور العذراء مريم بالنسبة للمسيح مثالاً لمشاركتنا الخاصة في رسالته. فقد بدأ تعاون مريم مع الله بقولها "نعم" في سر البشارة والتجسد، وخدمتها الفعالة التي تجلت في زيارتها لإليصابات، وتضامنها مع الفقراء الذي يتضح من نشيدها، كل ذالك يلهمنا لنعمل للعدالة في العالم اليوم. وتعاون مريم المستمر طوال حياتها في رسالة المسيح يدعونا لنهب أنفسنا كلية للرب بالاتحاد مع مريم التي قبلت إرادة الله، وأصبحت أماً لنا وللجميع.
وهكذا نؤكد للعالم رسالتنا الخاصة للخدمة التي قبلناها في العماد والتثبيت. ونحن نعظم مريم أم الله بأسلوب خاص ونعتمد على وساطتها في إنجاز دعوتنا.
للتأمل الشخصي:
1) اقرأ المبدأ التاسع من المبادئ العامة بهدوء، واتركه ليعمل في داخلك. ماذا يقول لك الرب من خلاله؟
2) ما هو الدور الذي لعبته مريم في مسيرتي الروحية ؟ ما مكانتها الفعلية اليوم في حياتي، في صلاتي؟ هل أراها بحق صديقة وأماً لي ولكل البشر؟
3) في بداية اهتدائه، احتاج إغناطيوس إلى شفاعة العذراء ليجد القوة لتغيير حياته وبذلها كاملة في خدمة الله. هل أبحث عن مساعدة مريم؟ هل استلهم منها بالأخص عندما يتعلق الأمر بوضع نفسي تحت تصرف الله في خدمة الآخرين، أو عندما يصبح قبولي لرسالتي صعباً؟
4) كيف أفهم هذه العبارة: "إن دور مريم مرتبط بعلاقتها بالمسيح"؟ وأيضاً إن "دورها مرتبط بالتجسد"؟ ماذا يقول لي ذلك عن حياتي والدور الذي ألعبه في جعل المسيح حاضراً ومتجسداً في عالم اليوم؟