بقلم الأب أوليفر برج – أوليفييه اليسوعي
يقتضي الالتزام بنمط حياة رفاق الكرمة ممارسة فعالة للإرشاد الروحي وتمييز الأرواح. ولكن لماذا نقرن بين الإرشاد الروحي والتمييز في حديثنا؟
تُعلمنا التجربة أن الإنسان عندما يسعى إلى التقرب من الله والالتزام معه، لا يتركه روح الشرير بل يبذل قصارى جهده ليضلله. فهو يجربه متخذاً شكل خير.
وكلما تقدم في الحياة الروحية، زادت ألاعيب الشيطان. ويقول إغناطيوس: "يتصرّف (الشرّير) كالعاشق الطائش الذي يريد أن يبقى في الخفية ولا ينكشف. فالرجل الطائش الذي يغري بأحاديثه الخادعة ابنة رجل شريف أو امرأة رجل شريف يريد أن يبقى كلامه وتلميحاته سرّيّة. وبعكس ذلك فهو يستاء جداً، إذا ما كشفت الابنة لأبيها أو المرأة لرجلها كلامه الخادع ونيّته الفاسدة، لأنه لا يلبث أن يستنتج أنه لن يستطيع النجاح في المشروع الذي أقدم عليه.
وكذلك فعدوّ الطبيعة البشرية، إذا ما أدخل في النفس البارّة حيله وتلميحاته، يريد ويرغب أن تُقبل وتُحفظ في السرّ. ويستاء جداً إذا كُشف لمعرَّف خبير أو لشخص روحي آخر مطلّع على خدعه وحيله. فعندئذ يستنتج أنه لن يستطيع النجاح في مشروعه الفاسد، لأنّ خدعه الواضحة قد كشفت." (قواعد للشعور بما ينشأ في النفس من مختلف التأثيرات ومعرفتها بعض المعرفة لقبول الصالحة منها ورفض السيئة – الرياضات الروحية رقم 326).
ولذا يحتاج المرء لمرافق روحي يساعده لتكشف أبعاد ألاعيب روح الشرّير وبخاصة في تمييز المصادر المختلفة لحالات النفس، وكذلك لمعرفة تتابع حالات النفس الذي يوجّهه روح الله.
أولاً : حالات النفس
يقول لنا القديس بولس إن روح الشرير يستطيع أن يتخفى في صورة ملاك النور. ويقول إغناطيوس: من طبع الملاك الشرير، وهو الذي يتحوّل إلى ملاك نور، أن يسير في جهة النفس الأمينة وأن يأتي بها أخيراً إلى جهته، أي أنه يعرض أفكاراً صالحة مقدسة تنسجم مع النفس الصالحة، ثم يحاول شيئاً فشيئاً أن ينتهي بها إلى غايتة جاذباً إيّاها إلى خدعه المستورة ومقاصده الفاسدة" (الرياضات الروحية رقم 332).
وبالفعل تتداخل أرواح النور وأرواح الكذب في أكثر مساعي النفس نقاوة. "وحتى الذين يتصرفون عادة بوازع من ضمير حي صالح ليسوا بمنأى من الأوهام: فقد يتخفى خطأ وخيم العواقب في صورة نزعة كريمة" (P.F. Charmot). وأحد أدوار المرافق الروحي هو أن يساعد على اكتشاف هذه الأخطاء.
إن اختبار حالة النفس التي تلهم عملنا هو أحد وسائل تمييز سلوكنا. فإن روح الشر أو روح الخير يستطيعان على السواء أن يمنحا النفس الانبساط. وحتى حالة السلام الداخلي العميق التي تدفعنا إلى قضاء ساعات طويلة في التأمل والصلاة قد تخفي عمل روح الكذب. فكون هذه الحالة تدفعنا ظاهرياً إلى الصلاة بحرارة لا يكفي للتأكيد بأن عملنا هذا يأتي من روح الخير، مثلاً إن كانت هذه الصلاة تجعلنا نهمل التزاماتنا الأسرية أو أعمالنا. إن الحرص يعلّمنا أن نحذر من ذواتنا، بل يجب أن يكون لنا في البداية، في مثل هذه الحالات، موقفاً متحيزاً ضد مثل هذه الاندفاعات الروحية التلقائية، وأن نفضل عليها ممارسة وفية للفضائل الإنجيلية ولالتزاماتنا اليومية.
فحص تتابع حالات النفس
"إن موجات الشوق التي كانت تلقي بنا إلى الله، ينتزعنا بها الشرير منه. وكذلك موجات نعَم الله، فبهذه الموجات ... يغرقنا في الخطيئة. هكذا يعمل يا بني، هذا هو الكبرياء". "Péguy"
وينبهنا القديس إغناطيوس إلى أنه لكي نرى بشكل أوضح ولكي نميزّ أفضل، علينا أن نفحص تتابع حالات النفس. "يجب أن ننتبه كل الانتباه إلى سير أفكارنا. فإن كانت أوائلها وأوساطها وأواخرها حسنة تماماً وموجَّهة نحو كل خير، كان ذلك علامة الملاك الصالح. أمّا إن انتهى بنا سير أفكارنا إلى ما هو رديء أو مشرَّدُ الفكر أو أقلّ صلاحاً ممَّا كنَّا ننويه أولاً أو ما يُضعف نفوسنا ويُقلقها ويُلقي فيها الاضطراب منتزعاً عنها ما كانت عليه من السلام والسكينة والراحة، ففي هذا دليل واضح على أن كلّ ذلك صادر عن الروح الشرير عدّو تقدّمنا وخلاصنا الأبدي." (الرياضات الروحية رقم 333). فحالة النفس في البداية – ولتكن مثلاً السلام الداخلي – تتبعها حالة ثانية وثالثة... ونكتشف أحياناً أن ما يبدأ بسلام داخلي واندفاع نحو الله ينتهي بالكبرياء والقلق: لأن الشرّير يتسلل في لحظة ما إلى مسيرتنا. وأحياناً أخرى نجد أن تتابع حالات النفس يقربنا من الله أكثر فأكثر. وبفحص ما تقودنا إليه أفكارنا نعرف مصدرها وبالتالي نميزّ الصالح فيها.
ثانياً: تتابع الأفكار الصالحة التي يقودها روح الخير
إن تساؤلنا هو: ما هو إذاً تتابع المراحل التي تدل على أن روح الخير هو الذي يوجّه حالات النفس؟
أ- الاضطراب:
يتلقى الشخص التوجيهات الأولى من روح الله "باضطراب" أي بإحساس بأنه غير أهل لمثل هذه النعمة وبأنه غير قادر بذاته على حمل مثل هذا الشرف وهذه المسؤولية بما يعود بالنفع. فيجد نفسه محمولاً على التهرب ورفض مثل هذه التوجيهات بتواضع. فالتواضع دفع بطرس إلى أن يصرخ أمام يسوع "يا سيدي، ابتعد عني لأني خاطئ" (لوقا 5: 8). وهذه المرحلة لا غنى عنها. وما دام الشخص لم يمر بهذا الرفض المسبق، فلا جدوى من استمرار التمييز.
ب- عدم الانحياز:
المرحلة الثانية هي مرحلة "عدم الانحياز" أو "الحياد الإغناطي". "لأن الروح القدس غير مقيد بكلمات البشر وأفعالهم ولا أحد يعرف أين يذهب. من يستطيع توقع تسلسل إرادة الله؟" (P.F. Charmot). فلا منطق ولا زمان يحكمان عمله. ويكمن الخطر في تمسكنا بالآمال التي ولّدتها في القلب الإرهاصات الأولى لخطط الله، ويكمن خطر مماثل في عدم قبولنا أن يعوق البشر أو الأحداث تنفيذ مشيئة الله أو يؤخرونها. وسريعاً ما يؤدي العناد والتعنت وتسلط الهدف المنشود إلى أن نفقد حريتنا الداخلية ومرونتنا. فنفقد تجردنا واستعدادنا للنجاح أو الفشل. وحالة النفس هذه دليل على أن الإلهام الأول كان من الشرير، أو أن الشرير استطاع التسلل إلى عمل الروح القدس.
ج- السلام :
إن بلغ الشخص هذا التجرد وهذا الحياد، فسيشعر بسلام داخلي عميق يغزوه. ولكن هذه السعادة الداخلية، هذا السلام العميق، لا يأتي بدون صراع ولا بدون أن يمر بكافة أنواع الصعوبات. ونتساءل: لماذا يسمح الله أن يعامل مَن يختاره بهذا الشكل؟ ربما ليدفعه نحو قمم أعلى دائماً ونحو تطهر وتحرر أكثر. فإن رأى المرشد الروحي أن المسترشد يظل في السلام والفرح في أثناء العاصفة وفي الصعوبات، يمكنه التثبّت من أن هذا السلام من الله.
وليس من السهل التمييز بين السلام الذي من الله والسلام الكاذب الذي يأتي من أنانيتنا ومن الشيطان. كما أنه من الصعب معرفة مصدر التوتر والقلق وخاصة لأن السلام الداخلي كثيراً ما يتخلله تجارب ووساوس. ولهذا يجب أن نستعين بمرشد روحي فطن.
د- بذل الذات :
يجب دائماً الحذر من شخص يغمره السلام والنعم ثم ينغلق على نفسه مستقراً في إعجاب بذاته ويجعل حياته غير مثمرة. فعلى العزاء والسلام الذين نجدهما في الحياة الداخلية وفي الفرح بوجود الله ألاّ يبعدانا عن الخدمة وبذل الذات التي تتطلبها واجباتنا اليومية وحاجات القريب والحياة الرسولية.
الخلاصة :
تبدأ المسيرة التي توجهّها روح الله بالاضطراب أو التواضع ثم بالحياد ثم السلام فنسيان الذات وبذلها من أجل القريب لتنتهي باتحاد مع الله أكثر إثماراً وعمقاً.
أما توجيهات الشيطان فتتطور في الاتجاه المضاد:تبدأ بالغرور والكبرياء ثم تستمر في القلق والتعنت والثورة وتنتهي بالإحباط وعدم الإثمار.
مستوحي عن مقالة للأب F. Charmot