بقلم الأب أوليفر برج – أولفييه اليسوعي
"يا أبانا، أعتقد أنني لن أذهب مرة أخرى إلى مرشدي الروحي الأب فلان: عندي إحساس بأنه لم يعد يهتم بما أقوله، فهو لا يتحدث كثيراً وفي معظم الأحيان يصمت، حتى عندما أسأله أسئلة يصمت!"
كثيراً ما سمعت هذه العبارة من أشخاص ينتباهم القلق أثناء الصمت على وجه عام، وأثناء صمت المرشد الروحي على وجه خاص. وسوف ألقي هنا نظرة أكثر عمقاً على دور "الصمت" في الإرشاد الروحي.
صمت المُستَرشِد
في مقالنا الماضي، قلنا إن الإرشاد الروحي يخص الرجل أو المرأة في علاقتهما مع الله، والأسلوب الذي يحاول فيه كل منهما أن يحيا حياته اليومية في إطار من الإيمان تنفيذاً لإرادة الله. فكل علاقة حقيقية مع الله – كما علمنا يسوع المسيح نفسه – تمرّ بالصلاة في الصمت. ويقدّم لنا إنجيل لوقا – على وجه الخصوص – صورة يسوع الذي يمضي ليالٍ كاملة في الصلاة وفي حوار ومناجاة مع الآب.
ولكن لكي تكون الصلاة والحياة الروحية عميقتَين، مثلما نرى في صلاة حديقة جبل الزيتون، فلا بد أن يكون مصدرهما هو الإنصات إلى الله والإنصات إلى الذات. ويسوع في صلاة جبل الزيتون، يكشف له الصمت– ومن خلال كل الأحداث التي مرت به – عما يريده الآب منه: ألا وهو أن يهب حياته، كما يكشف له الصمت أيضاً ألمه وخوفه ورغبته في الفرار، أي ضعفه الإنساني كله، ولم ينجح يسوع في قبول وتنفيذ إرادة الآب إلا حين قبل أن ينظر إلى هذا الواقع بصدق، رغم قسوته. ووجد يسوع في الصمت السلام والثقة اللذَيْن يعطيان له القوة التي يحتاجها ليتمم الرسالة التي أعطاها إياه الآب.
نحن أيضاً علينا أن نرى الواقع في الصمت دون تزييف: واقع الله، واقع إله المفاجآت وواقعنا... أن نصغي في صمت إلى ما يريد الله أن يقوله لنا في كثير من أحداث حياتنا اليومية، وما نريد أن نقوله نحن له. نحن في احتياج شديد إلى أن نقبل ردود أفعالنا المتنوعة من فرح وسلام وغضب وقهر وخوف واستسلام: علينا أن ننصت إليها وأن نقبلها كجزء لا يتجزأ من كياننا، وسوف يساعدنا المرشد الروحي على التعبير عنها ومن ثم التقدّم خطوة إلى الأمام في حياتنا الروحية، بشرط أن نكون على استعداد للاستمرار في الحوار مع الله والإنصات إلى إرادته، مثلما فعل يسوع.
وبالرغم من صعوبة قبول إرادة الله ومن الخوف الحقيق الذي تسببه لنا، فإن الذي يخيفنا في الواقع، هو أن ننظر إلى أنفسنا وجهاً لوجه، أن نقبل ضعفنا، واستسلامنا وثورتنا على الله.
صمت المرشد
ذكرت في بداية هذا المقال حالة المرشد الروحي الذي يبدو أنه لا يهم أو الذي يصمت كثيراً. وهذا بطبيعة الحال يحبط توقعات المسترشدين لأنهم لا يفهمون ما يحدث في هذا الصمت.
والمرشد الجيد هو الذي يصمت لكي يساعد كل مسترشد مساعدة حقيقية. فكثيراً ما يصل هذا الأخير إلى اللقاء في حالة من القلق والاضطراب بل و"غرقان" وسط أسئلة عديدة، يريد أن يجد عليها إجابات مُطمّئنَة، إجابات سريعة وصريحة. وما أسهل على المرشد الروحي من أن يستعد بمجموعة من "الوصفات" القابلة التطبيق والمناسبة لكل موقف.. ولكن إذا أراد المرشد الروحي أن تكون مساعدته مساعدة حقيقية، فعليه أن يعرف طريقه إلى الصمت: أولاً لكي يصغي بطريقة أفضل، وثانياً لكي يفهم ما يسمعه. فبدون هذا الإصغاء الصامت لن يستطيع أن يعي – بعمق – ما لا يمكن التعبير عنه بالكلام، ولن يفهم بطبيعة الحال المكتوب "بين الشعور"، تلك الأحاسيس الدفينة المستترة خلف ما قيل، كما أنه باتباع هذا الأسلوب سوف يساعد المسترشد على التعرف عليها: في هذه المنطقة نحتاج أن "نعرف ونصمت"، لا أن نتكلم.
فبواسطة الصمت والإصغاء يساعد المرشد الروحي المسترشد على الاستماع إلى ذاته، فيتركه يتفاعل مع كلماته ونبراته بإيقاع يناسبه، فيتكرر صياح المسترشدين : "لقد انكشفت الرؤية الآن! أعتقد أنني قد بدأت أن أفهم!"
يحتاج المرشد الروحي إلى أن يصمت لكي يعي هو الآخر بما يحدث في داخله، بما يشعر به تجاه الشخص الذي يراه والكلام الذي سمعه. وتعتبر هذه نقطة هامة جداً لتفادي دخول المرشد الروحي في تفاعلات وأحاسيس قد تعوق لقاء الإرشاد الروحي في حد ذاته: ففي بعض الأحيان يلمس غضب المسترشد وخوفه وإحباطه صميم هذه الأحاسيس ذاتها عند المرشد الروحي، مما ينتج عنه تفاعلات سلبية تعوق المرشد عن مساعدة المسترشد، إلا إن كان المرشد قد اعتاد عليها ووعي بها.
وبكل أسف، يبدو أن كثير من آبائنا وأمهاتنا الروحيين لا يعرفون كيف يصمتون. وبعضهم لديه إجابة عن كل شيء، ويبدون مجبرين – رغما عنهم – على أن يجدوا إجابة جاهزة لكل حالة. وقديماً، عندما كان الشباب يأتون إلى آباء الكنيسة المتأملين في البرية بأسئلتهم، كان هؤلاء يردون بقصة قصيرة أو جملة للتأمل فيها، في "صمت" يوم بأكمله!
أنا لا أقول إنه يجب على المرشد الروحي ألا يتكلم بتاتاً، أو ألا يرد على الأسئلة التي يتلقاها، ولا أظن أنني أدعو المرشدين إلى تقليد آباء البرية برواية القصص طوال الوقت، بل نحن مدعوون لتعلم شيئاً مفيداً من الصمت والتواضع، مثلما تعلم الأقدمون الذين أسّسوا الكنيسة في مصر وفي العالم.
للتأمل الشخصي :
1- هل يمكنني القول بأنني أمتلك درجة من الوعي بإحساساتي العميقة؟ هل أقبلها حتى وإن بدت لي سلبية؟
2- هل أعرف كيف أصمت أثناء الصلاة؟ هل آخذ وقتي صامتاً أثناء استعدادي للقاء الإرشاد الروحي؟ هل أعبرّ عن أحاسيسي في لقائي مع المرشد؟ ما الذي يساعدني على ذلك أو يعوقنى عنه؟
3- إذا صمت مرشدي أثناء اللقاء، ماذا يكون رد فعلي؟ ماذا أفعل؟ لماذا؟ هل أعرف كيف أصمت؟