بقلم الأب أوليفر برج – أولفييه اليسوعي
نتكلم كثيراً في مصر عن "الإرشاد الروحي". فتذهب عند الآباء الكهنة، نلتمس مساعدتهم وعونهم في مجالات شتي. ولكن دعونا نسأل انفسنا أولاً، هل الذي نطلبه من الآباء، يدخل فعلياً في نطاق "الإرشاد الروحي" أم هو مجرد "مساعدة نفسية"؟ فلنكتشف معاً الاختلاف بين الحالتين.
الهدف هو المفتاح
أفضل طريقة لمعرفة الاختلاف بين الإرشاد الروحي والمساعدة النفسية، هو تعريف كل منهما واكتشاف أهدافهما، فما المقصود بتعبير "الإرشاد الروحي" وماذا تعني الاستشارة النفسية؟
الإرشاد الروحي المسيحي هو علاقة مساعدة شخصية، يساعد فيها إنسان مسيحي إنسان آخر ليكتشف ويحيا قِيَماً ومعانٍ عميقة في حياته في داخل إطار الجماعة المسيحية، ملبِّياً بهذا دعوة الله وتعاليم الكتاب المقدس والكنيسة.
أما الاستشارة فيقصد بها علاقة مساعدة شخصية، يساعد فيها إنسان إنساناً آخر أن يفهم ذاته بطريقة أفضل وأن يفهم الوضع الذي هو عليه بصورة أعمق، ثم يساعده بعد ذلك على حل مشكلاته، أو على الأقل يقدم له مساندة معنوية، إذا كانت هذه المشكلة غير قابلة للحل.
وفي كلتا الحالتين تتحدد بؤرة الاهتمام في الشخص ذاته. ولكن إن كانت الاستشارة تركُز على الشخص الذي يعاني من مشكلة ما، فإن الإرشاد الروحي يركُز على التجربة الروحية التي يقوم بها الإنسان خاصة في الصلاة.
كل الإنسان
لكن هل هذا يعني أن الإرشاد الروحي لا يهتم إلا بالصلاة فقط؟ بالناحية الروحية على حساب كل ما يخص هذا العالم وكل ما يربطنا بالحياة اليومية؟
إذا نظرنا حولنا، سنجد أن هذا هو فعلاً الذي يحدث، وعلينا أن نعترف بوجوده. فمعظم آبائنا الروحيين لا يتهمون إلا بجانب الصلاة وممارسة الأسرار... إلا بالجانب الروحاني الصرف، وكأن كل شيء ملموس يناقض الحياة الروحية...
ولكني أعتقد أنه إذا كان الإرشاد الروحي الحقيقي يهدف إلى مساعدة الإنسان على اكتشاف التجربة التي خاضها هذا الأخير مع الله، فلا بدّ له من الاهتمام بكل الإنسان، بكل الأبعاد التي يعيشها... لا بدّ أن يهتم بالحياة العادية اليومية: بالعمل، بالنواحي الاجتماعية والعائلية، بهواياته، بصورته عن ذاته، بصراعاته والآمه، لأن في كل بُعد من هذه الأبعاد يمكن للإنسان أن يتقابل مع الله ويتفاعل معه.
الوعي والاستجابة
هل يساعدنا الإرشاد الروحي على اكتشاف مكانة الله، حيث نلقاه بكل ما نملك من قوة؟ هل نعرف لأي شيء يدعونا؟ أو إلى اتجاه يحركنا؟ كيف يريدنا أن ننمو روحياً من خلال أعمالنا، من خلال صراعاتنا وأحلامنا، علاقاتنا وتجاربنا، والصورة التي نكوّنها عن أنفسنا؟ كيف أن الإيمان والرجاء والمحبة يمكن أن يؤثروا في حياتنا وفي اختياراتنا بشكل أعمق وأكمل...
يتميز الإرشاد الروحي في واقع الأمر، بأنه يتم في إطار من الإيمان، وهدفه النهائي، هو الوعي بوجود الله في حياة الإنسان، ثم الاستجابة إلى مبادرة الله الذي يجعل نفسه حاضراً متجسداً بيننا.
أما عن علاقة المساعدة النفسية، فيتم كل شيء من خلال حوار بين شخصين: الاستشاري النفسي والشخص الذي يطلب الاستشارة. ويتحدد كل شيء بناءً على كفاءة الاستشاري النفسي والاستعداد الفعلي لمن يطلب المساعدة. ويتم اللقاء في جو إنساني ونفساني صرف. أما في "الإرشاد الروحي"، فيحاول شخصان، من خلال الحوار، الانتباه لوجود صوت ثالث بينهما: صوت الرب الذي يقوم بالتوجيه. وكما يذكرنا القديس إغناطيوس في فصل كتاب "الرياضات الروحية" المُعنوّن "الفوائد"، يقتصر دور المرشد الروحي على تسهيل الاتصال بين "الخالق ومخلوقه"، أي بين الله والمُسْتَرشَدْ، أي على مستوى الإيمان.
الإرشاد الروحي
بهذا التعريف، يمكن أن نتحدث عن الإرشاد الروحي. "الإرشاد" لا يعني أن أقول لشخص ما كيف يتصرف، أو أن أجبره على فعل معيّن، ولكن "أن أسهَّل" عليه أن يجد طريقه الخاص واتجاهه الشخصي في النمو والتوافق مع ذاته وهو بالضبط الذي يدعونا إليه الله. ودور المرشد الروحي هنا هو مساعدة الشخص على الانتباه لسماع الله ودعوته إلى الإنصات إلى هذا الإله الذي يدعو ويوجّه.
و"الإرشاد" يعني أيضاً: أن يوجه الإنسان نفسه إلى طريق معين، وأن يرغب في التحدث مع إنسان آخر أثناء المسير. وهذا يعني أن الحوار لن يكون "أي كلام" ولكنه سيكون كل ما يساعدنا على اكتشاف الطريق، وكلمة "روحي" لا تعني بالضرورة "خارج العالم" أو "غير متجسد" أو روحي صرف، أو كل ما نربطه – على سبيل الخطأ – بالتقوى والزهد. بل وصف الإرشاد بأنه "روحي" يعني أن الاهتمام سينصب أساساً على الحياة الداخلية في قلب الذات، في أعمق أبعاد النفس، حيث يتكون الخير والشر اللذان يصدران من كل إنسان. بهذا المعنى نفهم أن البعد الروحي يؤثر على أعمق أبعاد الواقعَين الإنساني والروحي اللذًين يؤثران على تصرفاتنا وفي سائر جوانب حياتنا عموماً.
ويذكرنا تعبير "الروحي" أيضاً بوجود الروح القدس وعمله الذي يجب أن نعيره انتباهنا الكامل. الروح القدس هو الله الموجود بداخلنا ومن أجلنا، فهو الذي يكشف لنا معنى حياة يسوع المسيح وموته وقيامته، مذكراً إيماننا بما علمه لنا يسوع في حياته الأرضية ومن هو المسيح اليوم بالنسبة إلينا. فهو يكشف لنا عن معنى حياتنا على ضوء حياة يسوع المسيح وتعاليمه. ولهذا يمكننا أن نقول إن المرشد الروحي – في واقع الأمر – هو الروح القدس.
وماذا عن دور "علم النفس" في الإرشاد الروحي؟
إن كان الإرشاد الروحي يهتم بمساعدة الإنسان للنمو الذاتي، طبقاً لخطه الله، فهل يمكن أن يحدث هذا بعيداً عن مجال علم النفس؟ هل يمكن أن يُهمِل "المرشد الروحي" الأسس النفسانية للنمو الإنساني؟ كلا بدون شك، حتى وإن لا زال هذا الأمر قائماً في بلدنا، بكل أسف.
ليست الصلاة الحل الأمثل دائماً في مواجهة الصراعات الداخلية، ولا ممارسة سر الاعتراف على نحو منتظم أفضل وسيلة للتخلص من الشعور بالذنب الذي يؤنبنا. انتبهوا جيداً فأنا لا أنكر أهمية الصلاة وممارسة الأسرار، ولكن لكي تكون حقيقية، لا بد لها أن تساعدنا في التغلغل أكثر في أعماق الواقع اليومي. فالصلاة والزهد يجب أن تكونا وسيلتي دخول في العمق لا وسيلتي هروب.
لا يحتاج المرشد الروحي أن يكون دارساً للتحليل النفسي أو ممارساً متخصصاً، لكنه يجب أن يكون متوافقاً أولاً مع ذاته، ويجب أن يكون لديه إلمام كاف بالدوافع النفسية المعتادة للأشخاص وأن يحترم جميع أبعاد الإنسان. ومثله مثل الاستشاري النفسي، يجب أن يتحلّى بالقدرة على الإنصات والفهم، وهذا يعني الدخول في عالم الآخر، في إطار مرجعياته الشخصية والوعي بجميع جوانبها. يجب أيضاً أن يساعده في حل مشاكل الحياة – المعتادة – ولكن الأهم من هذا أو ذاك – وهذا ما يفرق المرشد الروحي عن الاستشاري النفسي – هو أن يكون ملماً بالدوافع الروحية، وأن يكون لديه درايه كافية بـ"لغة" الله. يجب أن يكون رجل تمييز، إنسان يساعد إنسان من أجل اكتشاف ما يحركه داخلياً ومصادر هذه الحركات: هل هي من عند الله أو من روح شريرة؟ مهم أيضاً أن يكون لديه قدر مقبول من الخبرة في حياة الصلاة، بهدف مساعدة الُمسترشْدَ على النمو في هذا الطريق.
أخيراً، من المهم ألا تضع روحانية المرشد الله في مواجهة العالم، أو تضع إرادة الله في مواجهة تحقيق الذات. فلا يوجد إلا إله واحد هو إله الحياة، الإله الذي يحب الإنسان، الإنسان بكامله. وعلى الإرشاد الروحي أن يجعلنا نكتشف هذا الإله، وندخل في علاقة وطيدة معه.