التمييز والعقل

follow your heart

بقلم الأب أوليفر بُرج- أوليفييه اليسوعي

نحن مدعوون إلى التمييز في كل يوم من أيام حياتنا. وقد يكون من التافه الحديث عن التمييز عند اختيار أكلة ما، ولكن إن كنت أعاني من زيادة في "الكولسترول" وعليّ أن أتبع نظاماً غذائياً خاصاً، فيجب أن أمضي وقتاً أكثر لكي أختار ما سوف آكله.

ففي البداية، يجب أن ألغي من قائمة طعامي مثلاً اللحوم الحمراء والزبد والبيض والجبن الدسم. ومن سائر الأطعمة الأخرى أختار ما أحبه وما أفضله: دجاج أو سمك، خضروات أو فطائر، بطاطس أو فاصوليا. تتكرر هذه الفرصة في الاختيار في كل أكلة. ويحتوي هذا النوع من الاختيارات على جميع عناصر التمييز بتسلسلها الكامل وتعقيدها.

الإطار: الوقت

 كلما ازدات المشكلة أهمية يجب أن نعطي الوقت الكافي لنقرر بصددها. فمن يستطيع أن يحدد اتجاه دراسته في 15 ثانية؟ أو يحدد عمله في بضع دقائق؟ فحتى لو كان التنفيذ نفسه لا يستلزم وقتاً طويلاً، فالعنصر الأول والأهم في عملية التمييز هو الوقت.

الأدوات المستخدمة: العقل والقلب

 إن أردنا اختيار طبيب لاستشارته، فإننا لا نغلق أعيننا ونفتح دليل التليفون، ونأخذ بالصدفة أول اسم يقع عليه أصبعنا. وبالمثل لا يجب أن نفتح الكتاب المقدس لنقرر المدرسة التي نريد أن نلحق بها أطفالنا أو الشاب أو الشابة الذي أريد الارتباط به. فلا تُترك قرارات بهذه الأهمية للصدفة، بل نستخدم العقل. وسوف نتحدث عنه بالتفصيل في ما بعد في هذا المقال. لكن العقل نادراً ما يكون العنصر الوحيد المؤثر على اختياراتنا. فمع التفكير نفحص قلوبنا لنرى إن كان الحل المقترح يجذبنا ويعجبنا.

فإن فكرنا بموضوعية في وظيفة ما ووجدنا أنها ستدر دخلاً كبيراً وتتيح فرص ترقية عظيمة، ولكن على الجانب الآخر ربما لا نستسيغ القيم التي تقوم على أساسها سياسة الشركة، أوقد تؤدي الوظيفة إلى ابتعادنا عن العائلة. فيمكن أن نرفض هذه الوظيفة لمثل هذه الأسباب. فللقلب كلمته عندما نقيّم الاختيارات المطروحة.

ونعلم جميعاً، أن كلمة القلب هي غالباً الأخيرة عندما يتعلق الأمر باتخاذ قرارات. فنحن ننظر بقلبنا على ما اكتشفناه بعقلنا لكي يكون قرارنا شخصياً. وهذا يعني أن الآخرين قد يفهمون اختيارنا على مستوى الفكر دون أن يتفقوا معنا لأن أولوياتهم مختلفة، وقد يجدون أننا غير منطقيين.
    فمثلاً أستطيع أن أناقش مشكلة مع أصدقاء أقدر حكمتهم: "أنتم تعرفوني جيداً فأي وظيفة يجب أن أقبلها؟ إننا أصدقاء منذ وقت طويل، ففي أي شيء ترون أني سوف أنمو وأنفتح أكثر؟" لكن هؤلاء الأصدقاء الحكماء لن يقرروا بدلاً مني. فأنا وحدي سأتحمل عبء الوظيفة الجديدة أو سأتذوق فرصتها، وأحياناً ما يكون هذا الاختيار شخصياً جداً حتى أني أقرر عكس جميع النصائح التي قدمت لي.

وهذا يذكرنا أيضاً أنه لا يوجد اختيار دون حرية داخلية، فلا أحد يستطيع أن يختار بدلاً منا. ولذلك لا يجب أن نترك نصائح الأصدقاء وآراءهم تؤثر علينا حتى تفقدنا حريتنا الداخلية.

ويجب أيضاً أن نتحرر من الدوافع الباطنية التي قد توجه أفعالنا دون أن نعي، وقد تحدثنا عن هذا عندما تكلمنا عن الرغبات في مقال سابق، ولكننا، في مقالنا هذا، نريد أن نركز على دور العقل.

الحكمة في التمييز: الغاية التي من أجلها خلقنا

يذكرنا إغناطيوس أنه أياً كان اختياري فلا بد "أن يرمي إلى مساعدتي على بلوغ الغاية التي لأجلها خلقت، لا أن ينظم ويخضع الغاية للوسيلة، بل الوسيلة للغاية". ودور العقل أن يذكرنا بالغاية التي من أجلها خلقنا وأن يميّز بين الغاية والوسيلة. فإن أسلمنا الزمام لأحاسيسنا، فقد نترك بسهولة الوسيلة تخضع الغاية. وعلينا أن ننتبه إلى تلك الأحاسيس لكن بدون أن ننسى أن "ننظر إليها بعد ذلك بعقلنا".

وفي حديثنا عن الرغبات ، قلنا إنه علينا أن نختار ما يساعدنا على النمو، وما يجعلنا أكثر فأكثر أنفسنا، فهذه رغبة الله من أجلنا وغايته من خلقنا. ولاكتشاف تلك الرغبة والغاية، لا يكفي القلب وحده، فنحن بحاجة إلى العقل إذ نحتاجه لاكتشاف جميع الاختيارات المطروحة أمامنا. وكما يقول إغناطيوس فإننا، لنفهم كلمة الله وتعليم الكنيسة بصفة عامة وكذلك كلمة الله الموجهة لكل شخص منا بصفة خاصة، "لا بد للمواد التي يجري عليها انتخابنا أن تكون كلها في حد ذاتها حيادية أو صالحة".

تحديد الاختيارات المطروحة

 في ضوء هذا الهدف، نقوم بتحديد الاختيارات المطروحة. فإن كنا نريد أن نتخذ قراراتنا بطريقة مسؤولة، فعلينا أن نفحص جميع الاختيارات ونجمع البيانات، بجميع الوسائل ومن بينها بالطبع الحوار مع الآخرين.

تقييم الاختيارات المطروحة

ويقول لنا القديس إغناطيوس "أعتبر بالتفكير ما أكثر الفوائد والمنافع في امتلاكي تلك الوظيفة أو ذلك الريع الكنسي، لمجرد تسبيح الله ربنا وخلاص نفسي. ثم أعتبر بالعكس على ذات الطريقة ما هي الأضرار والمخاطر في امتلاكها".

فأنا مدعو إذاً لتقييم ميزات وعيوب جميع البدائل المطروحة في ضوء إيماني وقيّمي. ويمكن أن أستخدم أربعة معايير أثناء فحص هذه الاختيارات. فأفكر ما هو الاختيار الذي سوف يتيح لي أن أكون أكثر تجسداً، وأن أجعل من حياتي هبة، وأن أكون أكثر شمولية، وأن أكون في شركة أعمق.

- أكون أكثر تجسداً: فأكون ذاتي ولا شيء غيرها وأقبل الآخرين كما هم والحقيقة كما هي كما أقبل الوضع الذي أنا فيه كما هو.

- أجعل من حياتي هبة: فأبذل من ذاتي وأقبل أن أكون هبة للآخرين من خلال انفتاحي عليهم واستقبالي لهم وحساسيتي تجاههم.

- أن أكون أكثر شمولية: وذلك بأن أنفتح على جميع أبعاد حياتي وعلى جميع البشر من حولي وعلى جميع الاختيارات الممكنة.

- أكون في شركة: بأن أتصالح مع ذاتي، وأكون في اتحاد حقيقي مع الجماعات التي أنتمي إليها: العائلة، الكنيسة، المجتمع. وأعمل على بناء الوحدة وأقاوم التفرقة والانقسام.

أخيراً فهدفي هو اختيار الطريق الذي يسمح لي أن أعيش أفضل وصية وهي المحبة، مع العلم بأنه لا يوجد اختيار كامل. وإن استخدمنا تلك المعايير فيجب علينا أن نستخدمها جميعاً فنحن لا نستطيع فصلها الواحد عن الآخر.

اتخاذ القرار بحسب العقل

 بعد تقييم البدائل المختلفة في ضوء قيمنا وإيماننا والمعايير التي ذكرناها، يقول لنا القديس إغناطيوس: "بعد أن أكون قد أعملت العقل والتفكير في الموضوع من جميع وجوهه، أنظر إلى أي جهة يميل العقل". ولا بد لاختيار الموضوع المطروح أن يكون بحسب ما يرجحه العقل لا بدافع القوى الحسية.

هل هذا يعني أننا وصلنا إلى الخاتمة الموضوعية الحقيقية؟ فما توصلنا إليه ليس بالموضوعية التي نتخيلها، فهو ليس  الحقيقة الكاملة. فعمل عقلنا يضفي قليلاً من الموضوعية فحسب، ولا نستطيع أن ندعي ملكية الحقيقة المطلقة.

إن عملية التمييز لا تنتهي مع الانتهاء من التفكير، فحكمنا ليس عقلياً خاصاً. ويجب أن نعرض خلاصة تفكيرنا على وجداننا لنسمع الرد على السؤال الحقيقي: "ما هو الشيء الممكن لي هنا والآن".

الخاتمة:

إن كنت أتحدث عن التمييز الروحي – لا مجرد اختيار عادي – لا يكفي أن أعرض قراري على وجداني، "بل يجب علي أن أبادر إلى الصلاة لحضور الله ربنا وأن أقدم له هذا الانتخاب لكي تتنازل عزته الإلهية وتقبله وتُثَبِّته إن كان موافقاً لخدمته وتسبيحه الأعظم"، ففي إطار الصلاة يجب أن أبحث على رد الوجدان وأثَبِّت اختياري.