قايين القاتل وهاجر الجارية
إعداد سمر شنودة
عن كتاب للأب ريمون بوتريل (*)
كثيراً ما نُعرَّف الكتاب المقدس بأنه كلام الله إلى البشر، ولكننا ننسى أنه أيضاً كلام الإنسان إلى الله. فمن خلاله نتعلم لغة الصلاة. ولكن الأمر لا يتعلق فقط بالصلاة المزخرفة المتداولة، بل أيضاً بعبارات وليدة شخصيات معينة في مواقف محددة. وهذه العبارات قد وصلت إلى الله. فكلمة الإنسان – سواء نطق بها أم لا – تعبر عن أعمق ما فيه.
إن صلوات القديسين نادرة في الكتاب المقدس، ولكن هناك صلوات كثيرة جميلة لعشارين أو خطاة من كل نوع، للصوص أو قتلة أو زناة أو جبناء ولأناس آخرين عاديين. إن هذا العالم الواقعي لا يدهش الله في شيء ورحمته تعمل من خلال صلواتهم. فالله يحب من يتحدث إليه، سواء بوضوح أو بصوت منخفض، لذلك فإن أخبث ما أبدعه خيال إبليس هو شيطان الخَرَس.
وعلى كل حال، فنحن في سلسلة مقالاتنا هذه، ننظر إلى أشخاص الكتاب المقدس لا لنرسم شخصياتهم بل لنتعمق في موقفهم الداخلي وصلاتهم وعلاقتهم مع الله. وهدف المقالات هو أن نتعلم فن الصلاة، لا من خلال المزامير فقط، بل أيضاً من خلال كل نداء أو صرخة أو أمنية أو اعتراف منتزع من صميم الحياة اليومية لهذه الشخصيات، حيث تنبع الصلاة منهم دون تكّلف.
فكلٌ يصلي على ما هو عليه، كما هو! بفضائله ورذائله! وهو لا يستطيع غير ذلك... وبقدر اختلاف البشر، تختلف طرقهم في الصلاة. وأي مجهود – ولو صغير – للخروج من الذات أو التخلي عن الشخصية يعوق الصلاة.
قايين القاتل
"عقابي أشد من أن يطاق...
فيكون أن كل من يجدني يقتلني".
قد أخرج الله الوجود من العدم. وهذا أمر لا يثير الدهشة. ولكن ما هو أصعب وأجمل هو إخراج الخير من الشر. ومما لا شك فيه أن كلمة الإنسان قد أتاحت لله العديد من الفرص لإخراج الخير من الشر.
فعلى فرض أن الله قد خلق الإنسان ليجد من يتحدث معه، فكلمات الإنسان الأولى لم تكن مبشِّرة. وشاء الله أن يشرع في مسيرة صبر طويلة قبل أن يبدأ حوار حقيقي مع الإنسان، متخطياً حواجز المسافة واللغة واختلاف وجهات النظر بين المتحدثين.
ويتحدث آدم مع الله، ولكن هذا الحديث يبدو أقل تألقاً من حديثه مع حواء. وتتحدث حواء أيضاً مع الله، ولكنها لا تتميز عن آدم. فقد تفوق كلاهما في مجال البحث عن أعذار. فيقول آدم: "إني سمعت وقع خطاك في الجنة فخفت لأني عريان فاختبأت. المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت". وتتبرأ حواء: "الحية أغوتني فأكلت". وهو كل ما قالاه إلى الله! كل صلاتهما!
والكلمة التالية الموجهة إلى الله هي عن لسان قايين: "هل تراني حارساً لأخي؟" فأسلوب الحوار لم يتقدم كثيراً، بل على العكس!
تُرى من هو قايين؟ كان شاباً كادحاً مجتهداً، يقدم في المساء ثمار عمله. وها هو الآن غيور متعجرف وقاتل. وهو على نقيض أبويه، إذ أنهما بعد عقابهما ابتكرا الصمت! أمّا قايين فيتذمر على عقابه، ويقول: "عقابي أشد من أن يطاق".
فهل كل ما في هذه الأقوال فاشل؟ أو هل يُعجز الله شيئاً؟ إن الله الذي يستطع دائماً أن يخرج الخير من الشر، وأن يصل إلى المهم عبر الثانوي، فهل يتعذر عليه أن يفهم أعذار آدم وعجرفة قايين؟
الله يترك فرصة ثانية وثالثة وسبع مرات سبعة وسبعين، فهو يلتمس العذر. صحيح أن الله لم يعجبه ما عمله قايين، ووضح ذلك في الوصايا العشر: "لا تقتل". ومع ذلك يمكن لله أن ينظر إلى ما يقوله قايين بمعزل عمّا صنعه، فالله يستمع حتى إلى ما لم يُقال، فقايين يقول: "هل تراني حارساً لأخي؟" إن السؤال يحمل النفي ولكنه يحمل التساؤل أيضاً. إنه سؤال لم يتساءله قايين من قبل، وحسن أن يستاءل البشرفي حديثهم مع الله. ولو كان السؤال هو فائدة الحديث الوحيدة مع الله/ فهو كافِ للاستماع إلى البشر. إن تساؤل قايين قد يعني "ربما لم يكن حسن أن يقتل هابيل"... ولكنه "لم يعلم ماذا كان يصنع؟"
هاجر الجارية
" الحي الذي يراني"
راجع تك 16
كانت هاجر جارية مصرية عند سارة، امرأة إبراهيم، وكانت سارة عاقراً، فاستعطفت إبراهيم أن يدخل على هاجر لعلها تلد له نسلاً. فحبلت هاجر لكنها نظرت إلى سيدتها باحتقار، فقالت سارة لإبراهيم: "ظلمي عليك! ليحكم الله بيني وبينك".
فقال إبراهيم: "هذه خادمتك في يدك، فاصنعي بها ما يحسن في عينك". فأذلتها سارة، إلى أن هربت هاجر.
فوجدها ملاك الرب عند نبع ماء وسألها: "يا هاجر إلى أين تهربين ؟
- إني هاربة من وجه سيدتي
فقال لها الملاك: "ارجعي إلى سيدتك وتذللي تحت يديها". وشجعها بأن بشرها بميلاد ابنها إسماعيل، الذي سيكون حماراً وحشياً بشرياً يده على الجميع ويدّ الجميع عليه، وفي وجه جميع إخوته يسكن. والمقصود غالباً أنه سيكون إنساناً حراً.
وكانت هذه الكلمات بالنسبة للجارية ما يشبه أملاً جديداً. فقالت هاجر "أما رأيت ههنا الله الذي يراني؟" وسمّت هذا المكان "الحيّ الرائي".
ورجعت هاجر إلى موضعها، وولدت ابنها إسماعيل، وظلّت لفترة الأم السعيدة إلى أن أنجبت سارة العاقر ابنها إسحق.
وكبر إسحق، وكان الصبيان يلعبان معاً إلى أن قالت سارة لإبراهيم: "اطرد هذه الخادمة وابنها، فإن ابن هذه الجارية لن يرث مع ابني إسحق".
وتضايق إبراهيم كثيراً من هذا الكلام، ولكن الله قال له: "مهما قالت لك سارة، فاسمع لقولها، لأنه بإسحق يكون لك نسل باسمك، وأما ابن الخادمة، فهو أيضاً أجعله أمة عظيمة، لأنه نسلك".
فبكر إبراهيم، وأخذ خُبزاً وقربة ماء فأعطاهما هاجر، وجعل الولد على كتفها، وصرفها. فمضت وتاهت في برية بئر سبع.
وعندما نفذ الماء من القربة، طرحت الصبي عند شجيرة صغيرة. وجلست تجاهه على بعد رمية قوس، لأنها قالت "لا أريد أن أرى موت الصبي". ورفعت صوتها وبكت.
فسمع الله صوت صراخ الولد. ونادى ملاك الرب هاجر وقال لها: "مالك يا هاجر؟ لا تخافي! فإن الله قد سمع صوت الصبي حيث هو. قومي فخذي الصبي، وشدي عليه يدك فإني جاعله أمة عظيمة". وفتح الله عيني هاجر. فرأت بئراً، فذهبت وملأت القربة ماء وسقت الصبي. وكان الله مع الصبي حتى كبر فأقام بالبرية وكان رامياً بالقوس.
وتمثل هذه القصة حدثاً من أروع أحداث سفر التكوين، وتمثل أيضاً نموذجاً آخر للصلاة. فهاجر تصلي جالسة في الوضع الذي اعتادته أثناء التفكير أو الراحة أو حتى العمل. فهي تصلي كما هي... وسمع الله صوت الصبي من خلال صراخ أمه.
واختبرت هاجر عند بداية حياتها أن الله إله حي، فهو "الحي الذي يراها"، شأنها في ذلك شأن أنبياء العهد القديم. فحين وجد بنو إسرائيل أنه لا فائدة من شكواهم من فرعون، بل بالعكس قسا عليهم بالعمل: صرخوا قائلين "لينظر الرب ويحكم" (راجع خروج 5: 21)، وكذلك داود فعندما جاء إليه أوائل المتحالفين معه ولم يكن يعرف نيات قلوبهم، قال لهم: "فليرَ إله أبائنا ويُنصف" (1 أخبار 12، 17). وأيضاً، عندما نسى يوآشي الملك الرحمة التي صنعها إليه يوياطع أبو زكريا، بل قتل ابنه، قال هذا عند موته: "الرب يرى ويطالب" (راجع 2 أخبار 24، 22)
إن هذا الاقتناع بأن الله حيّ وموجود في كل مكان يتعارض مع الإحساس السائد اليوم بأن الله لا يتدخل... يبقى الله دائماً الشاهد الحقيقي الحي في حياة هاجر المنبوذة، المظلومة في نظر نفسها، فهو من يسمع نداءها، عندما تطلب منه العدالة أكثر من الرحمة في مواجهة ما لا علاج له.
لم يتبقَ أمامها إلا شخص واحد عندما تخلى عنها الجميع فمثلها مثل أيوب الذي قال:
أعلم أن فاديَّ حيُّ وسيقوم الأخير.
سيكون لي ولن يعاديني وستتوقف شكواي" (راجع أيوب 19)
فقد استجاب الله إذاً لهاجر المطرودة، فقد أصبحت طليقة وتخلصت من سيدتها الظالمة. وفي داخلها رجاء، بأن ابنها سيكون إنساناً حراً...
وأما عن سارة منافستها، فهي أيضاً قد أهينت من جاريتها...
فالاثنتان ملامتان ولكن الله استجاب للواحدة كما للأخرى.
ولا ننسى أيضاً، أن الصلاة المستجابة لها ثمنها، وهاجر قد دفعت الثمن مسبقاً بطاعتها للملاك وتذللها أمام سارة.
(*) عن كتاب "Vers Toi Ils Ont Crié" للأب Raymond PAUTREL اليسوعي الصادر عن مجلة رفاق الكرمة الفرنسية Supplément Vie Chrétienne n. 375