بقلم الأب جاك ماسون
تعليق على أيقونة
سر الثالوث الأقدس، سر التناول
استقبل ابراهيم ثلاثة مسافرين غامضين (تكوين 18) "لقد رأى ثلاثة وعَبَدَ الواحد الوحيد"، كما يقول آباء الكنيسة الذين يفسّرون هذا الحدث كإعلان عن الثالوث الأقدس.
هذه الأيقونة تبيّن الأقانيم الثلاثة في دائرة ترمز إلى من ليس له بداية أو نهاية، دائرة مركزها يد الآب (يوحنا 10 / 29)
ولكن كيف يتسنى لنا أن نطلق أسماءً على ذوي الوجوه المتماثلة؟
تبعاً للتقليد الكنسي نجد الآب في المركز، ونتأمل ما نسميه "ذراعي الآب"، هذين الذراعين الذَين بينهما استودع الابن روحه، وعن يمين الآب نجد الابن، وعن يساره الروح القدس وكلّ منهما يضع قدميه على أرضنا.
"الله محبة"
هذا هو كيانه وحياته وحركته، وبنفس الطريقة يميل الآب والروح بشطر وجوهما نحو "الابن الحبيب الذي به سُرّ الآب"، كم هي مُحِبة وحانية نظرة الآب إلى ابنه!
لماذا لا ينظر الابن إلى الآب وإنما ينظر إلى الروح؟
لماذا ينظر الروح إلى الكأس على المذبح؟
هل سيُعطى لنا – في يوم ما – أن ندخل في حوارهم. أن نفهمه؟
هل يتكلّمون عنا؟ نحن المدعوون أن نشارك حياتهم، وأن ندخل في وحدتهم؟
يتجسد الابن ليعطينا حياته، تجسد مستمر في كلّ افخارستيّا
"وكما أنا مُرسَل من الآب الحي، أحيا بالآب. وكذلك من يأكلّ مني سيحيا هو أيضاً بي" (يوحنا 6/51)
طوبى للمدعوين إلى مائدة الرب. ها هو حمل الله، المقدَّم كقربان.. في الكأس.
للمنضّدة أربعة جوانب – يبقى جانب منها خالٍ، إنه جانبنا...
يضعنا يسوع عن يمينه ويقول: " تعالوا إلىّ مباركي أبي، رثوا الملكوت المُعد لكم منذ إنشاء العالم" (متى 25/34)
إيماني بيسوع المسيح، هل يغيّر شيئاً في صلاتي؟
ألا تظل الصلاة صلاةً في جميع الأحوال؟ أليست قيمتها في قيمة القلب الذي منه تخرج؟ ألا يسمع الله صلاة كلّ إنسان لأنه لا يفرق بين البشر؟
ألم يسمع صلاة قايين – ذلك الذي قتل أخاه وذهب يشتكي إلى الله قائلا: "ربّي ذنبي أعظم من أن يحتمل..."
وجعل الرب لقايين علامة لكيلا يقتله كلّ من وجده " (تكوين 4/13)
أظن أنه من الصعب أن أجيب على هذه الاسئلة – لأنه لكي أجيب فإما أن أكون الله – لأن الله وحده يعرف كلّ صلواتنا، أو أن أتقمّص شخصية إنسان آخر لأن كلّ شخص لا يعرف إلا صلاته!
سأحاول إذاً أن أشارككم بخبرتي الخاصة وعلى كلّ قارئ أن يتعرّف على ما قد يشابه خبرته إذا وجده فيما أقول.
كيف أختبر صلاتي "المسيحيّة"؟
1. أختبرها كصلاة أتلقّاها من الروح القدس
2. أختبرها كصلاة تنضمّ إلى صلاة يسوع المسيح
3. أختبرها كصلاة تتحوّل إلى تنفس داخل الله – الآب والابن والروح القدس
1. صلاة أتلقّاها من الروح
لاحظت كثيراً أنه لكي أتمكن من الصلاة، يجب أولا أن أضع صمتاً في نفسي، أن أنزل في أعماقها وأن أمكث في انتظار، انتظار أن تولد الصلاة فيّ من "آخر" غيري، ولكنه يسكن داخلي. لو لم أفعل ذلك. سأتكلّم أو أقول، سأسبح أو أطلب، ولكن سأظل أشعر بفراغ، بأنني لم أفعل شيئا. بأنني لم أصلِ. الصلاة هي في البداية علاقة نقيمها، هذه العلاقة هي كتيّار يمر، ويُمَكِّنني أن أطلب لا ما أريد، ولكن ما يريده هو فقط، لأن هذه العلاقة لا تُرعِبُني في شيء سواها، أمّا عن إقامة هذه العلاقة فهذا شيء خارج إرادتي.. إنها نعمة وهبة. ولو كان بإرادتي فسأظل فيها دائماً، ولكنني لا أملك أن أعطي لنفسي هذا الحق، وأختبر بذلك أن الصلاة هي عطية من روح الله.
2. صلاة تنضّم إلى صلاة يسوع المسيح
"لأنّه يتشفع دائما من أجلنا" (عبرانيين 7/25)
صلاة يسوع المسيح الكبرى لكلّ البشر، والتي تصعد إلى الآب منذ الصليب وإلى الأبد. فبذراعيه الممدودتين صلّى المسيح: "اغفر لهم يا أبتاه لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون".
أشعر عندما أصلي أنه يجب أن تنضم صلاتي لصلاة المسيح لكي تكون حقيقيّة، فصلاتي لا تصفو أو تتطهّر أو تصبح مسيحيّة إلا بانضمامها إلى صلاة يسوع المسيح. وعندما تنضم صلاتي إلى صلاته، أكتشف بحق أنني يجب أن أدع الصلاة التي أعددتها لأنها غير صالحة أو أنانية جداً أو ملطّخة بالكسل – لا يمكن إذاً أن تنضمّ إلى صلاته.
بالانضمام لصلاته، يمكن لصلاتي أن تكبر وأن تتسع لتصل لأبعاد صلاته فتصبح "كونية"، وتنمحي اهتماماتي الصغيرة وتختفي أمام الأساس والشيء الوحيد الهام: "ليتمجد اسمك، ليأتِ ملكوتك لتكن مشيئتك.. اغفر لنا ذنوبنا.. لكن نجنا من الشرير".
بالانضمام إلى صلاة المسيح، تصبح صلاتي هي صلاته والعكس صحيح، فأدخل بحق في "الصلاة" – صلاة الله، تنفس الله، وأظن أن هذا هو ما يسميه الإنجيل "أن نطلب باسمه.
3. صلاة تتحول الى تنفس داخل الله
أظن أنّه لا يمكن أن أفسّر مثل هذا العنوان، فهو تجربة تعاش لا يمكن نقلها إلا لمن عاشوها ويعيشونها. هذه بالضبط هي الصلاة المسيحيّة – أو الحياة المسيحيّة – فالاثنان واحد.
عندما أصلّي، عندما لا أرغب إلا أن أصلّي صلاة يسوع المسيح، يجب أن أصلّي لا بروحي وإنما "بروحه"، يجب ألا تولد مني الصلاة وإنما من روحه الذي يسكنني والذي أعطاه لي. وصلاتي داخل صلاته تتوجّه إلى الله، هي ترجع نحو الآب لأنها منه تأتي، حيث إن كلمات المسيح ليست من عنده وإنما هي كلمات الذي أرسله، فيسوع لا يملك شيئاً من ذاته بل يتلقّى نفسه كلّيةً من الله، ولهذا يدعوه "أباً" وفي هذا هو "ابن"، ابن يتلقّى صلاته من "روح أبيه" الذي يسكنه والذي هو نفسه "روحه"، هذه الصلاة يرجعها بدوره إلى الآب في صورة عبادة وتشفع ورجاء، هذه الصلاة هي تنفس الله.
وصلاتنا المسيحيّة هي ذلك بالضبط، هذا إن كنّا حقاً قد "ولدنا من جديد من فوق" (يوحنا 3/3)، ونحصل على خبرة الولادة من الله عندما نتلقى صلاتنا من روحه (رومية 8/26)، ونعرف أننا أبناء بدورنا عندما لا نريد أن نصلي إلا صلاة الابن الوحيد يسوع. وهذه الصلاة تتوجه إلى الآب في تعبّد وتسبيح وتضرع. صلاة هي ردّنا على حب الآب.
والخبرة المسيحيّة في الصلاة هي بالضبط هذه المشاركة في دورة داخلية في الله، دورة هي حياته الخاصة جداً. وكبيرة هي سعادتنا عندما نشعر أننا مدعوون لهذه الشركة الإلهية، "فمن هو الإنسان يا رب حتى تتذكّره"، ومع ذلك فإنك توحده بحياتك!
ولا يدهشني أن يكون لآخرين من ديانات مختلفة خبرة مشابهة لخبرتنا، لأنه "لا إله إلا الله" وهو إله واحد للكلّ، فإذا كان حقاً يعلن عن نفسه للإنسان، وإذا كانت الصلاة هي قبل كلّ شيء علاقة حيّة ولقاء، فإنه يجب أن تتلاقى خبرات المصلين حتى ولو استخدموا كلمات مختلفة للتعبير عنها.
وها هي بعض من هذه الخبرات:
صلاة هندوسية
لقد جعلتني غير محدود، تلك هي رغبتك
ككأس زهرة رقيقة، تنصبها بلا انقطاع وتملأها من جديد بحياة نضرة..
كناي خشبي صغير، تحمله من جبال إلى وديان، وتنفخ فيه بنغمات تتجدد إلى الأبد...
وبلمسة يديك اللتين لا تريان الموت، يهرب قلبي من حدود سجنه
ويفيض في مناجاة لا أستطيع أن أعبّر عنها
ولعطاياك غير المحدودة، لا أملك إلا يدين صغيرتين لأمسك بهم، ولكن السنين تمر...
ولا زلت تسكب فيهما... ولا زال هناك مكان يمكن مِلؤه.
رابندرانات طاغور
(صوفي هندوسي)
التقدمة الغنائية (1)
صلاة إسلامية
يا إله الآلهة... ويا رب الأرباب
يا من "لا تأخذه سنة ولا نوم"،
رد إليّ نفسي لئلا يفتتن بي عبادك.
يا هو أنا وأنا هو،
لا فرق بين آنيتى وهويتك إلا الحدث والقدم
من كتاب أخبار حسين ابن منصور الحلاج
رقم 7 (وهو صوفي مسلم)
لا يمكن ألا نلاحظ تشابه هذه الصور مع كلمات الإنجيل،
ولا يمكن أن ننكر أن هذه هي خبرات وحدة وثيقة مع الله وعلاقة حب بدأها الله نفسه. ولكن يبقى أن لصلاتنا المسيحيّة شيء خاص جداً، ألا وهو أنها خبرة بحياة الثالوث. لا أقول إن الصلاة تمكنِنُا أن نفهم التثليث، فالثالوث ليس كائنا نفهمه، وإنما الصلاة هي الله الذي يقدم نفسه كخبرة لنعيشها. وصلاتنا في مدرسة صلاة يسوع تكشف عن نفسها في صورة خبرة حياة ثالوث الله . وهذا بالقطع خاص جداً ومميّز لصلاتنا "المسيحيّة"
الخاتمة
صلاة للثالوث الأقدس: يا إلهي، الثالوث الذي أعبده – للقديسة أليصابات للثالوث
يا إلهي، الثالوث الذي أعبده، ساعِدني على نسيان ذاتي نسياناً تامّاً، لكي أقيمَ فيك ساكنةً، وفي سلام، كما لو أن نفسي قد باتت في الأبديّة. لا يَقْدرَنَّ شيء على أن يعكّر عليّ سلامي، ولا أن يُخرجَني منك، يا من لا يتغيَّر! بل فلتحمِلْني كلّ دقيقة إلى أعمق فأعمق داخل سرّك.
هدّئْ نفسي، واجعلها سماءَك ومقرّك المحبَّب، وموضَع راحتك. لا تَدعْني أتركك فيها وحدك أبداً، ولأكُنْ بكلّيّتي هناك، إلى جانبك، كاملةَ التيقّظ في إيماني، كاملة السجود، مسلّمةً ذاتي تسليما تاما الى عملك الخلاّق.
يا مسيحيَ المحبوبَ، يا من صُلِبَ حبّاً، أريد أن أكون عروساً لقلبك! أريد أن أَغمرَك بالمجد! أريد أن أحبَّك… حتّى أموتَ حُبّاً! لكنَّني أشعر بعجزي، فأسألك أن تكسوَني بكَ، وأن تُماهيَ نفسي بكلِّ تحرّكات نفسِك، وأن تُغرقَني، وأن تجتاحَني، وأن تقومَ مقامي، كي لا تعودَ حياتي سوى شعاع من حياتك.
هلمّ، ادخُلْ فَّي كساجد، وكمعوّضٍ، وكمخلّص. أيّها الكلمة السرمديّ، يا كلمةَ إلهي! أريد أن أصرفَ عمري مصغيةً إليك؛ أريد أن أكونَ قابلةً للتعلّم، لأتعلّمَ كلَّ شيءٍ منك. ومن ثمّ أريد عبر الليالي كلّها، وعبر كلِّ فراغ، وكلِّ عجز، أن أشخصَ إليك بلا انقطاع، وأن أقيمَ تحت ساطِعِ نورك. آهٍ! يا “كوكبي” الحبيب! أُبهُرْني كيما لا يعود بوسعيَ أن أخرجَ عن إشعاعك.
أيّتها النار الملتهمة، يا روحَ الحبّ، “هَلُمَ إليّ بغتةً” ليَحدُثَ في نفسي ما يُشبه تجسّدَ الكلمة: فلأكُنْ له بشريّةً مُزادةً يجدّد فيها سرّه كلّه.
وأنت، أيّها الآب! أمِلِ بوجهك صوب خليقتك الصغيرة المسكينة، واغمرُها بظلِّك، ولا تَرَ فيها سوى “الحبيب الذي أودعته كلَّ مسرّاتك”.
يا ثلاثتي، يا كلَّ ما هو لي، يا نعيمي، يا وحدتي اللامتناهيّة، أيها المدى الذي أهيمُ فيه، إنّني أسلم إليكَ ذاتي مثل فريسة. توارَ فيّ لأتوارَ فيك، بانتظار ذهابي لأشاهدَ على ضوء أنوارك، غَوْر عَظائمك.