التحديات النفسية والنداءات الروحية من سن الرشد وحتى الكهولة

Grandfather and child

بقلم: الأب/ أوليفر برج أوليفييه

تنطبع حياتنا المعاصرة وتتشكل بالتغيير الذي يحدث فيها. فالتحول الاجتماعي موضوع الساعة، وكذلك تطور الشخصية. وتشهد حياتنا عن التحديات التي تنشأ عن هذه التغيرات. ونود في هذه السلسلة من المقالات استعراض دينامية التغير الشخصي وكيف نختبرها من سن الرشد وحتى الكهولة، وكيف يمكن أن ندرك هذه الخبرة على المستويين الروحي والنفسي.

علم النفس وتطور الشخصية

من أنا؟ مع من أنا؟ ماذا عليّ أن أفعل؟ ما معنى ما عشته وما أعيشه؟ يمكن أن نطرح هذه الأسئلة الأربعة على مستويات مختلفة. فعلى مستوى سطحي يمكن أن نطرح هذه الأسئلة في جلسة دردشة فتشكل مادة حوار عابر. وعلى النقيض يمكن أن تطرح هذه الأسئلة نفسها في خضم أزمة شخصية فتكتسب معنى شخصياً عميقاً. فهذه الأسئلة هي قضايا الإنسان الأساسية التي تناولها الأدب في جميع العصور والثقافات ولكنها أيضاً قضايا ذات صبغة روحية، تزخر بها العظات ودروس التعليم المسيحي. وحتى من لا تكفيهم إجابات العظات والدروس الدينية يعترفون بأن لهذه الأسئلة جانبها الديني.

وفي مراحل نمونا المتتابعة، نعود مراراً وتكراراً للإجابة على هذه الأسئلة، فهي صلب نضجنا النفسي. وإمكانية الإجابة على هذه الأسئلة في مختلف المواقف التي تنشأ فيها هي علامة على القوة النفسية، ومؤشر على إمكانات الشخص وموارده النفسية التي يستغلها ويقويها كلما احتاج الأمر مواجهة التحديات التي تطرحها قضاياه الأساسية.

ويربط علماء النفس بين الأسئلة السابقة، فطرح أي منها على مستوى عميق يفجر سائر الأسئلة كلها. وهكذا فإن خبرة فشل في عملي (ماذا عليّ أن أفعل؟) قد تشوش هويتي (من أنا؟). وإن جد جديد في حياتي يغير جذرياً إجابتي على أي من الأسئلة الأربعة سيقودني حتماً إلى صياغة جديدة لسائر إجاباتي.

ومع إن هذه الأسئلة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً، فإن علماء النفس المتخصصين في تطور الشخصية يقترحون تتابعاً معيناً لطرح هذه الأسئلة الواحد تلو الآخر، بحيث يصبح كل واحد منها محورياً في مرحلة معينة من العمر. ففي مرحلة المراهقة مثلاً يبرز سؤال "من أنا؟" وفي مرحلة الكهولة يطفو سؤال "وما معنى كل ما عشته؟" وتتابع الأسئلة كل في مرحلته كما سنرى في ما يلي. ولكن لنبدأ أولاً برؤية عالم النفس المتهم بتطور الشخصية "إريك إريكسون".

تطور الشخصية بحسب إريك إريكسون

يتميز إريك إريكسون (Erik Erikson) عن باقي مجموعة مدرسة التحليل النفسي الحديثة بأنه استطاع أن يضع آراءه بطريقة عملية في شكل تصور لتطور الشخصية من خلال ثماني حلقات أو مراحل تستمر عبر حياة الفرد من مولده إلى مماته وتتأثر بشكل مباشر بالعوامل النفسية والاجتماعية معاً وبنصيب متساو. ونورد في الإطار على الصفحة المقابلة تطور المراحل الخمس الأولى ونركز في باقي مقالنا على المراحل الثلاث الأخيرة من سن الرشد إلى الكهولة.

وعلى الرغم من اتفاق إريكسون وفرويد على أهمية الدوافع لدى الأطفال في تشكيل سلوكهم، إلا أن وجهة نظر إريكسون ترى بأن الصراع ما بين تلك الدوافع والعوامل البيئية بما في ذلك الأفراد الآخرين هو الذي يؤدي إلى التأثير على مكونات الشخصية وتطورها. ويرى إريكسون استمرار مراحل تطور الشخصية إلى نهاية العمر في حين تشير كتابات فرويد إلى توقفها بعد اكتمال المرحلة التناسلية وهي المعادلة لمرحلة البلوغ، ويؤكد إريكسون كذلك على أهمية الزمن الحالي والمستقبلي، ويشير إلى أن توقعات الفرد لما يمكن أن يحدث له أو يؤديه مستقبلاً هو الذي يتولي تشكيل نشاطه السلوكي الحالي. وبالتالي تبرز أهمية زمن الحال والمستقبل ربما أكثر من أهمية الماضي.

المرحلة الفمية الحسية: الثقة أم فقدان الثقة؟ (من الولادة إلى عمر سنتين)

وأبرز ما فيها علاقة الطفل بأمه حيث يعتمد عليها خلال السنة الأولى اعتماداً كلياً في الغذاء والحماية والمأوى والعطف والاهتمام، وتتأثر شخصيته تبعاً لنوع الرعاية التي يلقاها. فإذا ما كان انطباعه إيجابياً استطاع أن يضع ثقته في الغير وأن يعتمد عليهم مستقبلاً. أما إذا ما قوبل بالإهمال وعدم الاكتراث فسيؤدي ذلك إلى فقدان الطفل للثقة بالغير وتقوية النزعة العدوانية لديه واتجاه سلوكه إلى عداء المجتمع.

المرحلة العضلية الشرجية: الاستقلال أم الشك في القدرات؟ (3 – 4 سنوات)

ويتعرض الطفل في هذه المرحلة لمتطلبات التطبيع الاجتماعي أكثر من ذي قبل وخاصة في ما يتعلق بعادات قضاء الحاجة البشرية والتدرب عليها وعلى تنطيمها، وذلك بهدف مساعدته على السيطرة على أجهزته الجسمية، ويؤدي نجاح الطفل إذا ما مر بتلك المرحلة بسلام إلى تقوية روح الشعور بالاستقلال وبالقدرة على السيطرة، وإلى شعوره بقيمته وهي من ضروريات صورة الذات. كما يؤدي الفشل إلى غضب الطفل وسخطه وشعوره بالخوف من عقاب الآخرين مما يدفعه إلى الشعور بالخجل والشك في قدراته.

المرحلة الحركية الجنسية: المبادرة أم الشعور بالذنب؟ (5 – 7 سنوات)

وتتميز هذه المرحلة بميل الطفل إلى أحد الوالدين من الجنس الآخر مما يضعه في موقف يتخيل فيه عداء الوالد من نفس الجنس له وتوقعه أن يناله العقاب على سلوكة. والقضاء على ما يشعر به الطفل من صراع وخوف يلجأ إلى إرضاء الوالد من نفس الجنس، بتقمص شخصيته وتقليده مما يساعده على تعلم بعض أدواره المستقبلية في الحياة والنجاح في التطبيع الاجتماعي وظهور القدرة على المبادرة، أما فشل الطفل في المرور بهذه المرحلة فإنه يؤدي إلى الشعور بالذنب وبالرغبة في تجنب النشاط الحركي.

مرحلة بدء الدراسة: المنافسة أم الشعور بالنقض؟ (من 6 – 12 سنة)

وتوافق هذه المرحلة سن الدراسة بالمدرسة الابتدائية، ويتعرض الطفل لعمليات التعلم التي تقوم على أساس المنافسة وإظهار التفوق، فإذا ما نجح الطفل شعر بقدرته على الإنتاج وعلى إقامة العلاقات الاجتماعية مما يشجعه على الانفتاح على المحيط الخارجي، ويقوي من روح البحث والاكتشاف لديه. أما في حالة الفشل فإنه يؤدي إلى الشعور بالنقص والضعف. ولمساعدة الطفل على اجتياز هذه المرحلة بنجاح يمكن إظهار التقدير لما ينتجه أو يقوم به وأيضاً بيان وجه الخطأ برفق وبطريقة تشعره بأن عدم الرضا عن عمله لا تؤثر في حبه وتقديره، وإن بإمكانه أن يتفوق على أدائه الحالي دون إجباره.

مرحلة المراهقة: الهوية أم التوهان؟ (من 13 – 19 سنة)

وتدور هذه المرحلة حول تحديد الفتى أو الفتاة لهويته أو هويتها، فيتساءل المراهق من هو؟ وما هي أهدافه؟ وما هو مستقبله؟ وتتميز هذه الفترة برفض المراهق الحلول الجاهزة لمشاكله والتي يقدمها الغير، ويرفض أخذ الأمور على علاتها، ويحاول خلال مرحلة تقرير المصير هذه تجميد كل شيء وإعادة النظر في أساليبه ومناهجه الحياتية وعلاقاته، فما اقتنع به قبله وتمسك به وأصبح جزءاً منه وما لم يقتنع به لفظه وتخلي عنه. أما فشل الفرد في هذه المرحلة فيؤدي إلى التوهان وعدم وضوح الرؤية، أو ربما فقد شخصيته وسلب إرادته.

ويشير إريكسون إلى ضرورة إعطاء الأهمية اللازمة للعوامل الاجتماعية في تفسيرنا للسلوك مع الحد من قصر تفسيره على الدوافع الفطرية وحدها، حيث تتشكل مكونات شخصية الفرد خلال المراحل الثماني التي يمر بها الفرد ويتفاعل خلالها مع المجتمع في سبيل التغلب على الأزمات (Crisis) المصاحبة لكل مرحلة والتي تؤدي بالفرد إلى اكتساب خبرات جديدة وتعلم أساليب اجتماعية مناسبة للتوافق مع البيئة.

ونود أن نشير هنا وقبل أن نتناول بالتفصيل مراحل النمو من سن الرشد إلى الكهولة إلى أن الفترة الزمنية المحددة لكل مرحلة هي تقريبية، وللحقيقة نقول بإن الفترة التي يقضيها كل فرد إنما تعتمد على خصائصه وقدراته واستعدادته التي جاء بها إلى العالم من ناحية والعوامل البيئية في المحيط الذي يعيش فيه من ناحية أخرى، بالإضافة إلى أسلوب مواجهة الفرد للصعاب التي يواجهها ونتيجة لاختلاف الأفراد في مكوناتهم الأصلية وفي العوامل البيئية الاجتماعية فإنهم يتأثرون في سرعة أو بطء انتقالهم من مرحلة إلى أخرى.

مرحلة "الحميمية" (*): العلاقات الحميمة أم الانطواء؟ (من 20 – 30 سنة)

بعد أن يجيب المراهق على أسئلته، ويجد نفسه، ويحدد مكانه وعلاقته بالمجتمع، يبدأ في البحث عمن يشاركه هذه الأفكار من الشباب من الجنسين، كما يبدأ في التفكير العملي لتكوين أسرة، ويستطيع الفرد عن طريق عمليات التفكير المجرد القيام بنشاطات متعارضة مثل الاتجاه إلى المنافسة والتعاون في آن واحد وجنباً إلى جنب. هذا وتتميز هذه المرحلة بميل الفرد إلى الصحبة والرفقة، وارتقاء مستوى الروح الاجتماعية لديه في حالة النجاح فيها، أما في حالة الفشل في المرور بها فإنه يتجه إلى اعتزال المجتمع والانطواء على نفسه.

مرحلة "الإنجازية": العطاء أم الركود؟ (من 30 – 65):

ويتوقف وضع الفرد في هذه المرحلة على نتائج المرور بلا مراحل السابقة، وفي حالة النجاح في المرور فإنه يتجه إلى العمل الإنتاجي لصالح مجتمعه، كما يبدو واضحاً اتجاهه للاهتمام بالغير مع تميز سلوكه بالرغبة في العطاء ومواصلة الإنتاج، أما في حالة الفشل فإن الفرد يتجه وجهة سلبية تتميز بالشعور باللامبالاة وبعدم الرغبة في العطاء.

 مرحلة "الكهولة": "تكامل الحياة" أم اليأس؟ (من 60 سنة فما فوق)

وتحدث في سن متأخرة ومصاحبة لفترة التقاعد. ويقوم فيها الفرد باستعراض كشف حسابه ومراجعة منجزاته. فإذا ما تمت المراحل السابقة بنجاح شعر بالرضا عن نفسه وبأنه قد حقق ما توقعه وبأن وقته لم يذهب هباء، مما يبعث فيه الشعور بالارتياح وبتكامل الحياة. أما إذا حدث العكس فكثيراً ما يصاب الفرد في هذه السن باليأس والقنوط والندم، ويشعر بتفاهة حياته وضياع عمره بلا ثمرة.

يؤكد إريكسون على الطابع الديناميكي غير الراكد لخبرات الراشدين، ويصف هذه الديناميكية بالملاحظات الأربع التالية:

  1. يمتلك كل شخص تشكيلة من القوى والموارد النفسية وتشكل الجينات التي ولدنا بها قاعدة هذه الموارد، وكأنها طاقة كامنة. وعلى مر نمونا إذ نكبر في العمر تتحول هذه الطاقة الكامنة إلى موارد وقوى تشكل خصائص الشخصية. وإن كنا نظن أن نمونا – وأزماته – قد اكتمل أو كاد بعد سن الطفولة والمراهقة، وكأننا اعتلينا إلى ما يشبه هضبة لا نصعد بعدها. فإن تلك رؤية قاصرة للنموالإنساني الذي يستمر بعد سن المراهقة. وهناك بالفعل جوانب للشخصية لا تتطور ولا تكتسب صورتها كقوى نفسية وشخصية في منظومة متجانسة إلا في سن الرشد.
  2. هناك نموذج يمكن أن نلحظه في هذا التطور، أي أن هناك نوعاً من مسار طبيعي تزدهر تبعاً له موارد الشخصية. وتختلف تفاصيل هذه العملية والأحداث التي تسببها من شخص لآخر. وهناك تنويعات أيضاً على هذا المسار نفسه – بحسب العوامل الثقافية – تؤثر على إيقاع تطور الشخصية وحدة أزماته، ومع ذلك فهناك تشابه ضمني نلاحظه سواء في ديناميكية تطور الشخصية أو في الاهتمام النفسي الأساسي الذي تنشئه.
  3. إن بزوغ كل مورد أو قوة نفسية جديدة تنم عن وقت حاسم يمر به المرء. عن لحظة مصيرية في تطور شخصيته. ففي كل مرحلة من حياة المرء يأخذ اهتماماً ما من حياته مكانة محورية. ويطرح هذا الاهتمام سؤالاً هاماً على الشخص ويشكل تحدياً أمام الوضع الحالي المستقر لحياته وأمام فهمه لذاته. والاستجابة الإيجابية لهذا التحدي تتطلب حكماً جديداً على الأمور أو ربما قراراً ما أو خطوة مصيرية تستوجب تبعيات هامة تؤثر على مسيرة حياته. وقد يظهر هذا الوقت الحاسم عند بعض الأشخاص على شكل "أزمة" – بالمعنى الدارج للكلمة – أي زمن قد يؤدي إلى الفشل أو الانهيار. ولكن لدى غالبية الناس، لا تصاحب هذه التجارب الراشدة بتدهور انفعالي وجداني. ولكنها على أية حال خبرة مصيرية قاطعة بالنسبة إلى الجميع تضفي شكلاً قاطعاً على التطور المستقبلي للشخص. وكما يؤكد إريكسون: "تستخدم كلمة أزمة هنا في إطار التطور لتشير لا إلى خطر كارثة محيقة بل إلى منعطف وإلى فترة تتزايد فيها القابلية للجرح وللتغير ولكنها فترة تبزغ فيها الطاقات الكامنة أيضاً.
  4. إن هذه المواجهة مع النفس التي ينشئها كل واحد من هذه التحديات تضع المرء أمام دوافع متناقضة وأمام مظاهر إيجابية وسلبية في شخصيته. ولا يقترح إريكسون فكرة تخفيف "الضغط النفسي" كتفسير لأسباب التطور، ولا يشجع كبتاً مستمراً للدوافع السلبية أو سيطرة عدوانية للدوافع الإيجابية، بل يفترض أن النضج هو مزج لهذه الأبعاد المبهمة بنسب "مناسبة" أو تكامل ملائم يمزج عناصر تاريخ كل شخص وطباعه. وينشيء هذا التكامل – إن تم – قوة نفسية متجانسة ومتوافقة مع الشخصية بل وتستكملها أيضاً.

قد يختار المرء أن يرفض التحدي الجديد البازغ أمامه، قد يفضل تجاهل الأسئلة الجديدة المطروحة ، وبالتالي أن يبقى مع صياغة شخصيته التي توصل إليها في المرحلة السابقة. ولكن لا إيقاف للتنفيذ أو تأجيل للأزمة. فاختيار عدم مواجهة التحدي هو اختيار أيضاً ولكنه اختيار لا للسكينة بل للركود والإفلاس. فالقوى النفسية التي تبلورت في المراحل السابقة لنمو الشخصية لن تبقى على فاعليتها إن لم تختبر وتتطور على مر المراحل المتتالية. وبدون هذا التحول تضمر هذه القوى وتصبح ردوداً محفوظة وغير ناضجة. فالهوية الواضحة المعالم والمحددة على وجه ملائم في مرحلة المراهقة قد تغلظ وتتحجر لتصبح نوعية "الرجل العصامي" في سن الكهولة، إن لم تدخل هذه الهوية اختبار مرحلة العلاقات الحميمة وبعدها مرحلة الإنجاز. وهناك بالطبع نسبية للنجاح في مرور الأفراد بهذه المراحل وبخاصة الأولى منها، ولذا يخرج كلا منا بحصيلة متنوعة من العوامل السلبية والإيجابية تتطلب جهوداً لتكاملها.

(*) نود أن نشير إلى أننا نترجم "Intimacy" بـ"حميمية للإشارة للعلاقات الحميمة. و"Generativity" بـ"الإنجازية" في إشارة إلى الإنجاز والعطاء الذي يميز هذه المرحلة من العمر. ونترجم "Integrity" بـ"تكامل".

https://www.simplypsychology.org/Erik-Erikson.html